في مقاله الاستراتيجية المصرية الجديدة بالاهرام قال الدكتور عبدالمنعم سعيد,, وهو يقارن بين الفكر الذائع في كل من مصر والصين إن الكلام في مصر ليس له ثمن كبير حيث تختلط الأحلام بالأوهام, وتنفصل الفكرة عن القدرة, أما في الصين فإن الكلام له ثمن كبير, بل ان هناك حرصا علي كلام أقل وفعل أكثر.. هذا التشخيص ينطبق علي الدول الاسلامية وليس علي مصر وحدها, ويدلنا علي سبب مهم من أسباب التخلف, أما المفكر الجزائري الكبير محمد أركون الاستاذ بجامعة السوربون فانه يري أن العالم الاسلامي تخلف منذ أصبح يعيش داخل ما يسميه السياج المغلق منذ القرن الخامس الهجري ـ الحادي عشر الميلادي ـ عندما ساد فكر التشدد ورفض كل جديد, ولم يعد في الساحة سوي نوعين من رجال الدين هما نمط الفقيه الذي يحفظ كتب الفقه عن ظهر قلب ويعيد انتاج الكتب المدرسية للفقه دون أي ابتكار أو تجديد عقلي, ثم نمط الشيخ أو سيدنا الذي يعرف القراءة والكتابة وهو الوحيد في القرية الذي يكتب تعويذة أو حجابا ويؤدي الصلوات والشعائر, وهكذا دخلت المجتمعات الاسلامية في السياج الدوجماتي المغلق ولم يعد متاحا للعقل حرية البحث والتفكير, وفرض علي العالم أو المفكر المسلم التسليم بأن كل ما سيكتشفه في الكون لن يكون صحيحا إلا اذا كان مستندا إلي الكتاب والسنة, لأن فيها كل العلوم والمعارف والحقائق والقوانين العلمية, وليس أمام الانسان ان يصل إلي شيء يتعلق بالطبيعة والجغرافيا والانسان والتاريخ والمعني الكلي والنهائي للأشياء إلا بامعان النظر في النصوص, والمعرفة في هذه الحالة مجرد استنباط لغوي من النصوص. ولم يدرك شيوخ المسلمين ما يقصده القرآن بعبارة أفلا تعقلون. ويري البروفيسور محمد أركون أن حركة الاخوان المسلمين والحركات الاسلامية الأخري استندت إلي هذا التصور من أجل تأسيس نظام سياسي يقف بالمرصاد لمحاولات الخروج من هذا السياج المغلق, والنتيجة أن هذا السياج المغلق أو دائرة الفكر المغلقة ازدادت قوة وانتشارا في المجتمعات الاسلامية, وأدي ذلك إلي رسوخ فكرة ان الخروج علي النظام السياسي الجائر هو خروج علي ارادة الله, ويجب علي المسلم شرعا الطاعة لكل أشكال الحكومات والانظمة حتي ولو لم تكن لها شرعية.. وظلت هذه الفكرة سائدة منذ حكم الدولة الأموية.. وأصبحت الطاعة الواجبة لكل الحكومات والأنظمة واجبة ايضا علي كل صغير لكل كبير, وللبنت للأخ والاب والزوج, وكذلك الطاعة والخضوع للعالم رجل الدين في كل ما يقول, والطاعة واجبة علي المريد لشيخه, والجميع يخضعون للحاكم, وللإمام, وهكذا تم استغلال الدين لفرض الخضوع علي الجميع علي الرغم من أن هذا السياج المغلق ليس نتاج الاسلام بمفاهيمه الصحيحة ولكنه نتاج للتقاليد وللعقائد السابقة علي الاسلام والتي كانت سائدة في مجتمعات دخلت في الاسلام وظلت محتفظة بالقيم والتقاليد الوثنية المتوارثة وجعلتها ضمن منظومة القيم والمعتقدات الاسلامية. هذا السياج المغلق للتشدد كان في أوروبا ايضا ولكنه أخذ ينهار ابتداء من القرن السادس عشر مع الصعود المتواصل للحداثة الثقافية والعقلية ووضوح الحدود لدوائر كل من الدين, والسياسة, والقانون, والاقتصاد, والثقافة, وكانت الكنيسة قد فرضت هذا السياج المغلق وتسيطر من خلاله علي الناس وتسلبهم حرية التفكير وحرية الاختيار, وتملك الحكم عليهم بدخول الجنة أو الجحيم في الآخرة, أما المجتمعات الاسلامية فلم تظهر فيها الطبقة الاجتماعية التي تكسر الحصار علي العقول بكفاءة, كما حدث في أوروبا ولذلك اختلط ما هو ديني بما هو دنيوي, وأصبح سهلا تمرير الأهداف السياسية بشعارات دينية واستغلال الشعور الديني لدي الجماهير المسلمة لتمرير سياسات القمع, ولذلك لم تتبلور في ظل الخلافة منذ الدولة الأموية وحتي نهاية الدولة العثمانية نظرية للحكم تحدد الحدود لكل من السلطة السياسية والسلطة الدينية, وهكذا سار التطور في العالم الاسلامي في الاتجاه العكسي للتطور في أوروبا, فتقدمت أوروبا بينما ظلت المجتمعات الاسلامية تعيش خلف السياج المغلق إلي أن وضعت الثورة الفرنسية حدا للسلطة ذات الحق الالهي وفرضت سيادة الشعب والليبرالية والديمقراطية وحرية التفكير ولكن حدث العكس في العالم الاسلامي بقيام الثورة الإيرانية, وحكم الفقيه وأصبح السياج المغلق محكم الاغلاق باسم الدين وأصبح الخروج منه كفرا.. وليس هذا كل شيء.
وكان سهلا علي الدول الإسلامية تقليد الدول المتقدمة في أنظمة الحكم وانتخاب ممثلين للشعب في البرلمان يحاسب الحكومة ويضع القوانين, وكان سهلا استهلاك كلمة الديمقراطية من كثرة تكرارها والقول إن الشعب هو صاحب السلطة, وإذا رضي عن حكومة ابقاها, وإذا لم يكن راضيا عنها فقدت مقاعدها بغير حاجة إلي معارك, ولكن الناظر إلي أحوال معظم الدول الإسلامية يري أن هذا كله مجرد كلام نظري ولم يحدث علي طول تاريخ العالم الإسلامي التي حكم فيها السلف باسم الإسلام ان عزلت حكومة بارادة الشعب.
ودائما كان الخليفة أو الأمير يأخذ الحكم بالوراثة أو بالقوة ولا يترك عرشه إلا غدرا أو قتلا أو سجنا, فلا الشعب اختار ولا الشعب عزل وهذا هو تاريخ العالم الإسلامي بعد عصر الخلفاء الراشدين!
أما القدر من الحرية الذي حصلت عليه بعض المجتمعات الإسلامية, فقد حصلت عليه أقرب الصدقات التي يتصدق بها الغني علي الفقير ـ علي حد تعبير الدكتور زكي نجيب محمود, بينما يكون الفكر إذا جري مجراه الطبيعي يكون حوارا بين لا ونعم وما يتوسطهما من ظلال وأطياف, أما الرفض المطلق الأعمي فهو عناد الأطفال, والقبول المطلق الأعمي هو طاعة العبيد, ولابد أن ندرك أن الله وحده علمه هو علم اليقين ومعرفة البشر احتمال وكل فكر للبشر يحتمل الصواب والخطأ وقابل للمراجعة واعادة النظر والرفض أو القبول, وهذا ما عناه الإمام أبي حنيفة بقوله: رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب وفي العالم الإسلامي من يقول: رأينا صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ لا يحتمل الصواب, ومن يخالفنا تقطع رقبته ولا يدخل الجنة, وفي العالم الإسلامي من يدعي أنه يملك مفاتيح الجنة والنار.. وهذه هي الطامة الكبري!
.