بعض المفكرين والسياسيين في الغرب أجابوا علي السؤال بأن الإسلام يدعو إلي التواكل ولا يؤمن بحرية الإرادة الإنسانية, ولذلك فإن المسلمين ـ أو معظمهم ـ ليس لديهم الحافز للعمل, وهم يؤمنون بالقضاء والقدر علي أنه حتمية لا فكاك منها, وعلي هذا فليس للعقل, أو المنطق, أو الإرادة دور في تحديد مصير الأفراد والجماعات, هذا في الوقت الذي يؤمن به الإنسان الغربي بأنه قادر ـ بالفكر وبالعمل ـ علي السيطرة علي بعض الظواهر الطبيعية, وقادر علي استكشاف الفضاء والخروج من الكرة الأرضية والعودة إليها, كما هو قادر علي إسقاط المطر الصناعي, والتغلب علي مأساة الحرمان من الإنجاب لأسباب بيولوجية بالتلقيح الصناعي أو طفل الأنابيب, وقادر بالهندسة الوراثية علي إيجاد أنواع جديدة من الزراعات والحيوانات لم يعرفها الإنسان من قبل, وقدرته علي الابتكار والاختراع ليست لها حدود.
في العالم الإسلامي يقف الإنسان عاجزا أمام الظواهر الطبيعية وليست لديه وسيلة للتعامل معها سوي رفع اليدين إلي السماء والدعاء إلي الله لكي يتدخل, وحده, لحل كل مشكلة صغيرة كانت أو كبيرة. وهذا ما جعل الإنسان في الغرب مفكرا ومنتجا ومبتكرا, والإنسان في العالم الإسلامي عاجزا عن اقتحام المجهول وعن العمل والإضافة والاكتفاء بانتظار تدخل الإرادة الإلهية لتحقق له ما يريد.
ومن الغريب أن تتحقق الهزيمة للفكر الإسلامي الذي يؤمن بأن الله وهب الإنسان العقل لكي يستخدمه ولا يسجنه وراء أسوار الحظر والتحريم, ووهب الله الإنسان المقدرة علي تسخير الطبيعة, وأن حرية الإرادة الإنسانية هي التي فرضت مسئولية الإنسان عن أعماله, وهذه الحرية هي التي سيكون علي أساسها الحساب والعقاب, وإذا قيل إن الإنسان ليس حرا وكل شيء مكتوب والإنسان مجبر في كل ما يفكر وكل ما يعمل, فلماذا الحساب في الآخرة.
وقد اعتلي المنابر وسيطر علي عقول أغلبية المسلمين دعاة رسخوا مفهوم السلبية وما علي المسلم إلا الابتهال وانتظار ما تأتي به الأقدار, وهؤلاء هم الذين فسروا غزو الدول الاستعمارية وهزائم المسلمين بأنها قدر مكتوب, مع أن الرسول نهي جماعة من أصحابه عن الحديث في القدر وقال لهم: بهذا ضلت الأمم قبلكم, وأقام عمر الحد علي سارق لأنه قال إنه سرق بقضاء الله, لكن الأمويين هم الذين عملوا علي تعميق فكرة أن كل شيء مكتوب وليس للإنسان أن يختار أو يحاول التغيير وإلا كان ذلك اعتراضا علي حكم الله, والحقيقة أنهم كانوا يدافعون عن حكمهم, مع أن القرآن يدعو الناس إلي أن يغيروا ما بأنفسهم أولا لكي يغير ما نزل بهم( إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم) الرعد11.
وحتي اليوم لم يستقر المسلمون علي تحديد الحدود بين المشيئة الإلهية وحرية الإرادة الإنسانية, ولم يتعمق في المجتمعات الإسلامية التفسير القائل إن كل شيء خلقه الله بقدر وفقا لقوانين عامة أما أمور الحياة والفكر والكشف عن أسرار الطبيعة وتسخيرها فتدخل في نطاق الحرية والإرادة الإنسانية. وضاعت في زحام الأفكار السلبية أقوال المفكرين المسلمين الذين قالوا إن الإنسان حر ولكن حريته ليست مطلقة, فهي نسبية تتأثر بإرادة الآخرين وبالظروف الاجتماعية وبالعوامل الوراثية, وكما قال هؤلاء المفكرون, فإن هذا النصيب النسبي من حرية الإرادة هو ما تقع في دائرته الأعمال الإرادية للإنسان وعليها تتحدد مسئوليته, وفي ذلك حافز قوي للإنسان لكي يعمل ويجتهد ويغير ولا يقف مكتوف اليدين,
والإنسان كما قال العقاد روح علوية هبطت إلي الأرض ليحمل مسئولية أعماله ووزر نفسه, وأن عمل الإنسان علي الأرض من صنع الإنسان, وكل ما يفعله الإنسان مجبرا لا يحاسبه الله عليه:( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) البقرة173 كما يسقط الحساب والعقاب عن الإنسان الذي يفقد قدرته العقلية. وقد توصل الإمام محمد عبده إلي أن الإنسان حر في إرادته ـ في إطار وجوده المحدود ـ علي أعماله ولهذا يحاسب عليها( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه علي نفسه وكان الله عليما حكيما, ومن يكسب خطيئة أو إثما يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) النساء111 ـ112.
قضية الجبر والاختيار وحرية الإنسان وحدود الإرادة الإنسانية قضية حسمها الذين تقدموا في الغرب ومازال المسلمون يدورون معها في حلقة مفرغة, مع أنها هي قضية التقدم والتخلف لأنها تحدد دور الإنسان ومسئوليته ومدي قدرته علي صنع حياته ومستقبله.
إن سنة الكون وما يخضع لها فهي لله وحده وهي القضاء وهي الحتمية في تفسير الظواهر الطبيعية, وما هو خاضع لمشيئة الإنسان وإدراكه وتفكيره, فإنه من صنع الإنسان, وهو مكلف به ومسئول عنه ويحاسب عليه.
.