البعض يشكك في أن الاستعمار كان من أهم العوامل التي فرضت التخلف علي العالم الاسلامي‏.‏ مع أن تخلف الدول الاسلامية بدأ منذ خضعت للاستعمار القديم‏,‏ ثم للاستعمار الجديد‏,‏ ولاتزال ضغوط القوي الكبري تعرقل محاولات الاصلاح والتقدم‏,‏ وهذه أحدث صورة للاستعمار الذي يسمونه الهيمنة‏!‏

وبعض المثقفين ــ ممن لهم صلات قوية مع الغرب ــ يرددون النظرية الاستعمارية القائلة بأن تخلف المسلمين إنما يرجع إلي عوامل داخلية في طبيعة الشعوب الاسلامية الدين الاسلامي ذاته‏,‏ وهؤلاء يتهمون كل من يشير إلي دور القوي الكبري‏,‏ ويرون أن نظرية المؤامرة ليست إلا تعبيرا عن مرض عقلي أو نفسي يتوهم معه الانسان أن هناك دائما من يتآمر ضده‏,‏ والحقائق التي لايمكن انكارها في السياسة الدولية علي مدي العصور أن الدول الكبري ــ والامبراطوريات القديمة والحديثة ــ لا هدف لها إلا تحقيق مصالحها الاقتصادية وبسط نفوذها علي الدول الصغيرة وتشكيل الخرائط والحدود والعلاقات الدولية بما يضمن لها التفوق والسيطرة‏,‏ ولاتتردد في استعمال الضغوط السياسية‏,‏ وعمليات المخابرات‏,‏ وحتي الحرب إذا كانت هي الوسيلة لذلك ــ وليس هناك مفكر محايد ينكر أن الدول الكبري شنت الحروب التي راح ضحيتها ملايين من البشر من أجل السيطرة علي مصادر الثروات الطبيعية والمواد الخام وفتح الأسواق دون عوائق أمام فائض الانتاج لديها‏..‏ وعندما تتعارض أهداف الدول مع مبادئ العدل وتتعارض وسائل تحقيق هذه الأهداف مع المبادئ الأخلاقية والانسانية يكون الخداع هو الحل‏,‏

فتقال في العلن الشعارات النبيلة لتخفي الأطماع الاقتصادية والسياسية‏,‏ فكانت أقنعة الاستعمار القديم هي شعارات نشر المسيحية والحضارة والدفاع عن الأقليات وعن الحريات وسيادة القانون‏,‏ وأصبحت أقنعة الاستعمار الجديد اليوم هي حقوق الانسان والحرب ضد الارهاب ونشر الديمقراطية ومنع الدول ــ غير الاستعمارية ـ من انتاج أسلحة الدمار الشامل‏..‏ ويضيف الدكتور جلال أمين إلي ذلك أن الدول الاستعمارية أصبحت تستغني عن الاحتلال العسكري بالاعتماد علي الحكام والنخبة الحاكمة في كل بلد لكي تحقق لها مطالبها بأقل النفقات والتضحيات البشرية أو تلجأ إلي الانقلابات العسكرية‏.‏

ولأن تجارة السلاح وتصريف فائض الانتاج الصناعي والزراعي هي المحرك الحقيقي لسياسات الدول الكبري‏,‏ فإنها تروج لشعارات التنمية لخلق الطلب علي منتجاتها‏,‏ وتستخدم الضغوط عن طريق المعونات ومؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي‏..‏ وفي النظام الاقتصادي العالمي الجديد انهارت نظم الحماية للانتاج الوطني‏,‏ واهتزت سلطة الدولة القومية أمام تدخل الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات والتي يمتد نشاطها في أنحاء العالم‏,‏ ولم تعد الدول الصغيرة قادرة علي وقف تدخل الدول الكبري في السياسات الداخلية‏,‏ وضغوط المؤسسات الدولية وشروطها التي تخدم مصالح القوي الكبري‏,‏ وليست مرحلة حرية التجارة والانفتاح الاقتصادي إلا تعبيرا عن سياسة انهاء فكرة الدولة القومية ومبدأ السيادة‏,‏ وفتح الأبواب لتكوين طبقة جديدة تخدم هذه المصالح وتنفذ هذه السياسات‏..‏ وإن كان تجميل القبيح لازما فقد كان الاستعمار القديم يستخدم شعارات مسئوليته عن نشر الحضارة‏,‏ وعدم قدرة الشعوب الخاضعة للاحتلال ــ ومنها الشعوب الاسلامية ـ علي تحقيق النهضة بسبب صفات وراثية ترجع إلي الجنس أو الدين أو الثقافة أو المناخ‏,

‏ وما أكثر النظريات التي راجت متخفية في شكل نظريات علمية وروج لها مثقفون في الدول الخاضعة للاستعمار ــ ومنها الدول الاسلامية ــ أما الاستعمار الجديد فإنه يستخدم سلاح المعونات والتوريط في الديون وشعارات العولمة والقرية العالمية الواحدة ونهاية التاريخ وانتهاء عصر الايديولوجيات‏.‏

ولن تستطيع دولة بمفردها في العالم الاسلامي أن تواجه هذا النظام العالمي الجديد ــ وهو في حقيقته استعمار جديد ونسميه هيمنة القوي الكبري ــ ولابد من التنسيق‏,‏ ربما يصل يوما إلي التكامل‏,‏ ولا تحدثني عن منظمة العالم الاسلامي‏,‏ فهي كيان بلا فاعلية‏.‏ وهذا حديث آخر‏.‏

وفي النهاية فإن الخروج من الحلقة الجهنمية ممكن إذا توافر للمسلمين الوعي والإرادة وأنظمة حكم جادة في السعي لتحقيق النهضة‏..

.