«معجزة الشرق» فى عيون فرنسية



أجمل كتاب من بين عشرات الكتب عن أم كلثوم كتاب صدر فى باريس باللغة الفرنسية بعنوان «أم كلثوم - كوكب الشرق» مع مقدمتين، المقدمة الأولى كتبها الرئيس حسنى مبارك، وهذه أول مرة يكتب فيها الرئيس مقدمة لكتاب وأول مرة يكتب فيها رأيه عن أم كلثوم.
والمقدمة الثانية كتبها الفنان عمر الشريف، أما مؤلفة الكتاب فهى «إيزابيل بوديس» كاتبة صحفية فرنسية ولدت لأب جزائرى وأم فرنسية، وصدرت ترجمته العربية عن المركز القومى للترجمة.
قال الرئيس مبارك فى مقدمته للكتاب «إن صوت أم كلثوم لم يخفت أبداً، وأرقام مبيعات تسجيلاتها وعدد ساعات تقديم أغانيها فى الإذاعة المسموعة والمرئية لم تتوقف عند حد، بل ظلت تتصاعد وتتفوق على غيرها».
وهذا الكتاب يؤكد أن ظاهرة أم كلثوم تلك الفنانة العظيمة التى كانت بالأمس سفيراً للفن والوطنية المصرية مازالت هامتها المهيبة ترتفع فى العالم العربى كله، بل فى عالم الثقافة، فذكراها باقية فى كل مكان.. هذا ما كتبه الرئيس مبارك عن أم كلثوم. أما الفنان عمر الشريف فقال فى مقدمته:(مع طلعة كل شمس تعود أم كلثوم إلى الحياة من جديد فى قلوب مائة وعشرين مليون إنسان.. وبدون صوتها تبهت الأيام فى الشرق وتشحب ألوانها.. إن مكانها مازال شاغرا، وهامتها لم يطاولها أحد حتى يومنا هذا.. كثيراً ما استضافتنا - زوجتى وأنا - بمنزلها بشارع أبو الفدا، وداخل جدرانها لم تكن «الزعيمة» التى تلقانا، وإنما المصرية بنت البلد التلقائية خفيفة الظل التى تجمع الفطنة إلى الدعابة لكأنها شخصان (الزعيمة والفلاحة) فى كيان واحد شديد الجاذبية.. تأسرك الشادية، وتؤثر فيك المرأة، ولا تملك لفهمها إلا حب الاثنين معاً. وقالت المؤلفة فى مقدمتها إن أم كلثوم ناضلت من أجل حرية النساء وحرية بلادها، لأن الحريتين متوازيتان.. حياتها قرن من التاريخ والموسيقى، وهى تتسيد الشارع والحياة إلى اليوم، وكل الفنانين الذين يمزجون فى نغماتهم الشرق بالغرب يذكرون أم كلثوم كمرجع لهم. أنشأت أم كلثوم مكتبة فى قريتها - طماى - وأنشئت مدرسة ومستوصفاً وبيتا كبيرا لتعيش فيه أمها التى فضلت العيش فى القرية.. وقامت هى بجولات فنية فى جميع البلاد العربية ومنحتها معظم الدول العربية أكبر الأوسمة، وقامت بدور البطولة فى 6 أفلام كان آخرها فيلم «فاطمة» مع أنور وجدى كتب قصته مصطفى أمين.. بعد قيام الثورة غنت:(مصر التى فى خاطرى وفى فمى.. أحبها من كل روحى ودمى)، وغنت للثورة عند قيامها ولجمال عبد الناصر حين أصبح رئيسا للجمهورية، وحين تعرض عبد الناصر لمحاولة الاغتيال فى حادث المنشية سارعت بتسجيل أغنية (أجمل أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية)، وغنت للسد العالى، وللجنود فى حرب 1956 (والله زمان يا سلاحى)، و1967 غنت (إنا فدائيون)، و(أصبح عندى الآن بندقية)، وتبرعت بأموالها لإعادة إعمار مدن القناة التى خربها العدوان، وغنت لوحدة مصر وسوريا، ثم غنت للاتحاد الثلاثى الذى ضم مصر وسوريا واليمن.. ومنحها جمال عبد الناصر وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، ومن قبل منحها الملك فاروق قلادة «النيل العظمى»، وقال عنها العقاد:فى مصر خمسة أشياء لن تتكرر (النيل - الأهرامات - أبو الهول - أم كلثوم - العقاد).
.. ولم يلحظ الجمهور شيئا
تحكى المؤلفة الفرنسية أن حالة أم كلثوم الصحية فى سنواتها الأخيرة كانت تقتضى منها بعض الحيطة استعدادا لحفلات الخميس، فكانت يوم الحفل تبقى ممدة طول اليوم، ممسكة بمصحفها، وتعيد قراءة كلمات أغنياتها، بعد أن حدث فى أحد حفلاتها أن فاجأتها نوبة نسيان، وبسرعة عادت إلى الوراء فهمس لها محمد القصبجى ببقية كلمات الأغنية، وعادت لتغنى ولم يلحظ الجمهور شيئا، كانت بعد أربع ساعات من الغناء تشعر بالإرهاق، ولكن الجمهور كان دائما يلح عليها بالمزيد. وكتبت مجلة «لايف» الأمريكية عنها تقول: فى الشرق الأوسط كل شىء يتوقف فى الخميس الأول من الشهر وتخلو الشوارع فى القاهرة كما فى الدار البيضاء وتونس وبيروت ودمشق والخرطوم والرياض وبغداد، وكل التجمعات السكنية فى العالم العربى حتى أطراف الصحراء، والكل يعود إلى بيته لينصت إلى إذاعة القاهرة على مدى خمس ساعات ثمانى مرات فى العام يستمعون إلى أم كلثوم، وقد قيل إن هناك شيئين ثابتين لا يتزحزحان فى الشرق الأوسط (أم كلثوم والأهرامات)، وتحكى المؤلفة أن أم كلثوم فى أول لقاء مع عبد الوهاب طلبت إدخال تعديلات على لحنه لأغنية «أنت عمرى» بلغت سبعة تعديلات ونفذ لها عبد الوهاب ما طلبت وبصعوبة، قبلت الجرأة فى المقدمة الموسيقية الطويلة للأغنية التى استخدم فيها عبد الوهاب آلة الجيتار، ولم تكن هذه الآلة فى «تخت» أم كلثوم قبل ذلك، وقد اعتبر النقاد أن ألحان عبد الوهاب لأغنياتها كانت «ثورة» لأكبر مطربة تقليدية فى العالم العربى، وأطلق عليها عبد الناصر لقب «فنانة الشعب»، وأصبح هذا اللقب يسبق اسمها دائما، وأعفاها عبد الناصر هى وعبد الوهاب من دفع الضرائب، وقبل حفل «أنت عمرى» دعاها الأمريكيون إلى حفل تأبين الرئيس الشاب «جون كيندى» وقبل رفع الستار فى ليلة «أنت عمرى» سمعها الموسيقيون تتمتم بآيات من القرآن ختمتها بتكرار الآية (رب اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى واحلل عقدة من لسانى..)، وظلت يدها تضغط بعصبية على منديلها الأخضر، ثم ذهبت تلقى نظرة من خلف الستار لتجد الحاضرين جالسين دون حراك فى مقاعدهم.. وكانت معظم التذاكر قد بيعت فى السوق السوداء، ولم تهدأ إلا بعد أن استمر تصفيق الجمهور أكثر من عشر دقائق بعد انتهاء الأغنية، وفى لبنان أحيت بعد ذلك حفلا فى مهرجان بعلبك حملها الجمهور على الأعناق بعد نهايته.
قصة حب لم تكتمل
تروى المؤلفة ما حكته الصديقة المقربة لأم كلثوم أن أم كلثوم اعترفت لها فى ساعة صفاء فى ليلة قضتها فى جبل بيروت خلعت أم كلثوم نظارتها، وتركت نفسها على سجيتها ومضت تحكى عن مرض القصبجى وحزنها على وفاته، وحزنها على منيرة المهدية «السلطانة» التى كانت منافستها لفترة طويلة، ثم قالت بنبرة حزينة: يبدو أننى أصبحت امرأة عجوزا، إننى أرى كل ذكريات الصبا جميلة، وأرى أن غيرتى المهنية كانت مبالغا فيها، وتجرأت صديقتها فسألتها إذا كان هناك رجل خانها على مر سنين عمرها، فأجابتها ام كلثوم قائلة: عندما كنت شابة على أول درجات الشهرة التقيت بعازف كمان، كان غنيا ووسيما وفى مقتبل العمر، أحبنى وأحببته، وتقاسمنا لحظات حب وسعادة معاً، ثم بدأ يفكر فى المستقبل، رأى أننى أصعد سلم الشهرة سريعا بينما هو فى مكانه على الأرض، وقال فى نفسه إننى قد أراه صغيرا عندما أصبح كبيرة، فتعلل بأنه يخشى «الشياطين» التى تترصدنا - يقصد الناس بصفة عامة والجمهور- واستغرقت أم كلثوم فى الصمت، ثم أعادت وضع النظارة. عندما ذهبت إلى باريس لتغنى على مسرح الأولمبيا أكبر مسارح عاصمة النور قال لها مدير المسرح وهو يستقبلها فى المطار مع جماهير حاشدة من العرب والفرنسيين: إن فرنسا تنتظرك بفارغ الصبر، والإذاعات جميعها ضبطت موجاتها لإذاعة الحفل، لقد سلبت عقول المستمعين، وهم يطلبون أغنية الأطلال، والطائرات تصل إلى مطار باريس حاملة كبار القوم من الدول العربية.. غناؤك هنا ياسيدتى حدث تاريخى، وفى باريس أقامت فى فندق «جورج الخامس» بالقرب من «الشانزليزيه» الذىينزل فيه رؤساء الدول ومن الفندق أرسلت برقية إلى الرئيس الفرنسى الجنرال «ديجول» كتبتها باللغة الفرنسية التى تجيدها بفضل دروس أحمد رامى، قالت فيها: كلى إقناع بمهمتى، واسمحوا لى سيادة الرئيس باستغلال فرصة إقامتى فى فرنسا العظيمة لتحية السعى الدءوب للعدالة والسلام فى شخصكم الكريم، وكان وجودها فى باريس حدثا كبير فامتلأت الصحف الفرنسية بالحديث عن أم كلثوم «معجزة الشرق»، وحصلت عن هذا الحفل على أكبر أجر فى تاريخ فرنسا فى ذلك الوقت تبرعت به كاملا للمجهود الحربى، وافتتحت الحفل بأغنية «الله معك» التى تقول فيها «راجعين.. راجعين كما رجع الصباح من بعد ليلة مظلمة» وردد الحاضرون وراءها مقاطع الأغنية فاشتعلت القاعة بالحماس، وجعلت زغاريد النساء صوتها يقطر فرحة ويزداد انطلاقا، وبعدها غنت «الأطلال» وكررت كثيرا وسط هدير التصفيق:(أعطنى حريتى أطلق يديا)، وتراكمت باقات الزهور تحت قدميها، وبينما كانت الانفعالات المتبادلة بين أم كلثوم والجمهور فى أوجها اندفع شاب إلى خشبة المسرح وقبّل طرف ثوبها، فاختل توازنها وسارع الموسيقيون إلى إنهاضها بينما سارع رجل أمن إلى الشاب الذى فقد السيطرة على نفسه وأعاده إلى مقعده، وخشى الموسيقيون عليها من اندفاع المعجبين بعد أن هب الجميع واقفين وصارخين وهى تكرر (وآلام الأسر والدنيا لديا)، وفى اليوم التالى التف حولها الصحفيون فكان مما قالته وتناقلته الصحف: رحلتى بداية لجولة طويلة قررت القيام بها لمساندة جهودنا، أحب بلدى وأشعر أن مصر نجحت معى فى مسرح الأولمبيا، إننى احترم رئيس بلادى، وما أحترمه أكثر فى جمال عبد الناصر هو الجانب الإنسانى فى شخصيته، وأجد أن على المصريين إعطاء شيئين لبلدهم (العمل والأمل).. وتلقت أم كلثوم قبل مغادرتها باريس برقية تقول: أحسست فى صوتك ارتعاشة قلبك وقلوب كل الفرنسيين.. توقيع: شارل ديجول رئيس الجمهورية).


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف