لماذا تخلف المسلمون 19

في القرن السابع الهجري أمر حاكم قرطبة ـ هشام بن الحكم ـ بحرق الكتب لأن فيها خروجا علي الشريعة وإفسادا للعقول‏,‏ وكان فقهاء عصره قد حكموا بأن كل من يخالف رأيهم فهو كافر‏,‏ لأنهم ـ هم وحدهم ـ المعبرون عن الحق الذي جاء به الرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ عن الله تعالي‏.‏


وتحكي كتب التاريخ أن سلطان المرابطين علي بن يوسف أمر بأن تحرق كتب الغزالي كلها لأن الفقهاء حكموا عليها بأن فيها كفرا وزندقة وتدعو المسلمين إلي الضلال‏.‏


ومأساة ابن رشد معروفة‏,‏ وهو الفقيه ابن الفقيه‏,‏ وهو الذي وصل في تعمق دراسة الفقه إلي مالم يصل إليه أحد في عصره‏,‏ وهو الذي تولي منصب قاضي القضاة‏,‏ وهو أقرب الناس إلي الخليفة‏(‏ المنصور‏),‏ ثم هو الذي انقلب عليه الخليفة بناء علي فتاوي علماء القصر الذين اتهموا ابن رشد في دينه وعقيدته‏,‏ بينما كانت تهمته الحقيقة أنه دعا إلي إعلاء شأن العقل والتوفيق بين العقل والشرع‏,‏ لأنه قال في أحد كتبه‏:‏ كم من فقيه كان الفقه سببا لقلة تورعه‏,‏ وكان يقصد بذلك غلاة الفقهاء الذين سيطروا علي الجو الفكري‏,‏


وكان جزاؤه النفي هو وكل من قال رأيا يخالف رأي انصار الجمود الفكري‏,‏ وتم احراق كتبه‏,‏ وشهد التاريخ فصلا آخر من فصول المعارك التي ينتصر فيها غالبا دعاة الجمود وأعداء حرية الفكر‏.‏


ومحنة الإمام ابن حنبل وحدها تلخص مأساة العالم الإسلامي منذ قرون‏,‏ فقد انقسم علماء الدين حول قضية نظرية لا أصل لها ولا فائدة منها في الدنيا والآخرة هي‏:‏ هل القرآن قديم وموجود منذ الأزل أم أنه حادث‏,‏ ولم يكن موجودا في الأزل‏,‏ وكان لكل رأي أسانيده وأخذ الإمام ابن حنبل بالرأي الأول‏,‏ وقال إن القرآن قديم‏,‏


مخالفا بذلك رأي الخليفة الذي قرر ارغام العلماء علي إعلان القول بأن القرآن حادث ومخلوق‏,‏ وأخذ الخليفة في التنكيل بكل من يقول بغير ذلك‏,‏ وأمر بأن يسحق كل صاحب رأي يخالفه‏,‏ وقال إن من يخالفونه هم أهل الجهالة والضلالة عن حقيقة الدين‏,‏ وأمر باستجواب الفقهاء والعلماء واحدا واحدا ليقرر كل منهم أن القرآن مخلوق ومن يعلن رأيا مخالفا لذلك يتعرض لأهوال من التعذيب لا يتحملها بشر‏,‏ واستسلم الجميع تحت التعذيب إلا الإمام أحمد بن حنبل فظل مقيدا بالاغلال وتم إلقاؤه في السجن‏,‏ ويصف ابن حنبل ما جري له بعد ذلك فيقول‏:‏ جيء بكرسي‏,‏


وأقاموني عليه‏,‏ وجعل واحد من حاملي السياط يضربني سوطين ويجئ الآخر فيضربني سوطين‏,‏ ثم الآخر كذلك‏..‏ وقام المعتصم إلي يدعوني إلي قولهم بخلق القرآن فلم أجبه‏,‏ فأعادوا الضرب‏,‏ ثم جاء إلي فدعا ني فلم اعقل ما قاله من شدة الضرب‏,‏ ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي ولم أحس بالضرب‏,‏ وأرعبه ذلك من أمري‏,‏ فأمر باطلاقي‏,‏ ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد اطلقت القيود من رجلي‏,‏ وبقية القصة أن الطبيب الذي تولي معالجته بعد ذلك كان يقطع لحما ميتا من جسده ويداويه‏.‏


ويعلق الدكتور زكي نجيب محفوظ قائلا‏:‏ هذه صورة حية تنطق بما يجوز قبوله من تراثنا ومالا يجوز‏,‏ ويذكرنا بما فعله الخليفة المهدي بالشاعر بشار بن برد وحكم عليه بالكفر وأمر السياف فقطع رأسه علي النطع‏,‏ وما حدث للحلاج المتصوف الذي أمر الوزير علي بن عيسي بضربه ألف سوط وقطع يديه ثم احراقه في النار‏,‏ وما حدث للأديب الحكيم ابن المقفع الذي أمر الخليفة المنصور بقتله‏,‏ ونفذ نائب الخليفة ـ سفيان بن معاوية ـ فأمر بأن يقطع من جسمه شريحة بعد شريحة ـ وهو حي ـ


ويلقي بالشريحة في النار ليري الرجل أطرافه تقطع وتحرق قبل أن يتم حرق ما تبقي منه دفعة واحدة‏.‏


هذه نماذج من التاريخ يصدق معها قول أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود‏:‏ إن البلاء في مجال الفكر أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة‏,‏ وفي التراث الإسلامي كان الخليفة أو الأمير يجلس ورأيه من رأسه والسياف إلي جواره‏.‏


حين تجتمع سلطة الحكم والدين في شخص واحد أو في جماعة واحدة تكون كل الرقاب مهددة بالسيف بحجة تطبيق الشريعة‏.‏


وبعد أن اجتمعت السلطة الدينية والسلطة السياسية في يد الخليفة بدأ العالم الإسلامي السير علي طريق التخلف‏.



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف