في القرن السابع الهجري أمر حاكم قرطبة ـ هشام بن الحكم ـ بحرق الكتب لأن فيها خروجا علي الشريعة وإفسادا للعقول, وكان فقهاء عصره قد حكموا بأن كل من يخالف رأيهم فهو كافر, لأنهم ـ هم وحدهم ـ المعبرون عن الحق الذي جاء به الرسول( صلي الله عليه وسلم) عن الله تعالي.
وتحكي كتب التاريخ أن سلطان المرابطين علي بن يوسف أمر بأن تحرق كتب الغزالي كلها لأن الفقهاء حكموا عليها بأن فيها كفرا وزندقة وتدعو المسلمين إلي الضلال.
ومأساة ابن رشد معروفة, وهو الفقيه ابن الفقيه, وهو الذي وصل في تعمق دراسة الفقه إلي مالم يصل إليه أحد في عصره, وهو الذي تولي منصب قاضي القضاة, وهو أقرب الناس إلي الخليفة( المنصور), ثم هو الذي انقلب عليه الخليفة بناء علي فتاوي علماء القصر الذين اتهموا ابن رشد في دينه وعقيدته, بينما كانت تهمته الحقيقة أنه دعا إلي إعلاء شأن العقل والتوفيق بين العقل والشرع, لأنه قال في أحد كتبه: كم من فقيه كان الفقه سببا لقلة تورعه, وكان يقصد بذلك غلاة الفقهاء الذين سيطروا علي الجو الفكري,
وكان جزاؤه النفي هو وكل من قال رأيا يخالف رأي انصار الجمود الفكري, وتم احراق كتبه, وشهد التاريخ فصلا آخر من فصول المعارك التي ينتصر فيها غالبا دعاة الجمود وأعداء حرية الفكر.
ومحنة الإمام ابن حنبل وحدها تلخص مأساة العالم الإسلامي منذ قرون, فقد انقسم علماء الدين حول قضية نظرية لا أصل لها ولا فائدة منها في الدنيا والآخرة هي: هل القرآن قديم وموجود منذ الأزل أم أنه حادث, ولم يكن موجودا في الأزل, وكان لكل رأي أسانيده وأخذ الإمام ابن حنبل بالرأي الأول, وقال إن القرآن قديم,
مخالفا بذلك رأي الخليفة الذي قرر ارغام العلماء علي إعلان القول بأن القرآن حادث ومخلوق, وأخذ الخليفة في التنكيل بكل من يقول بغير ذلك, وأمر بأن يسحق كل صاحب رأي يخالفه, وقال إن من يخالفونه هم أهل الجهالة والضلالة عن حقيقة الدين, وأمر باستجواب الفقهاء والعلماء واحدا واحدا ليقرر كل منهم أن القرآن مخلوق ومن يعلن رأيا مخالفا لذلك يتعرض لأهوال من التعذيب لا يتحملها بشر, واستسلم الجميع تحت التعذيب إلا الإمام أحمد بن حنبل فظل مقيدا بالاغلال وتم إلقاؤه في السجن, ويصف ابن حنبل ما جري له بعد ذلك فيقول: جيء بكرسي,
وأقاموني عليه, وجعل واحد من حاملي السياط يضربني سوطين ويجئ الآخر فيضربني سوطين, ثم الآخر كذلك.. وقام المعتصم إلي يدعوني إلي قولهم بخلق القرآن فلم أجبه, فأعادوا الضرب, ثم جاء إلي فدعا ني فلم اعقل ما قاله من شدة الضرب, ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي ولم أحس بالضرب, وأرعبه ذلك من أمري, فأمر باطلاقي, ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد اطلقت القيود من رجلي, وبقية القصة أن الطبيب الذي تولي معالجته بعد ذلك كان يقطع لحما ميتا من جسده ويداويه.
ويعلق الدكتور زكي نجيب محفوظ قائلا: هذه صورة حية تنطق بما يجوز قبوله من تراثنا ومالا يجوز, ويذكرنا بما فعله الخليفة المهدي بالشاعر بشار بن برد وحكم عليه بالكفر وأمر السياف فقطع رأسه علي النطع, وما حدث للحلاج المتصوف الذي أمر الوزير علي بن عيسي بضربه ألف سوط وقطع يديه ثم احراقه في النار, وما حدث للأديب الحكيم ابن المقفع الذي أمر الخليفة المنصور بقتله, ونفذ نائب الخليفة ـ سفيان بن معاوية ـ فأمر بأن يقطع من جسمه شريحة بعد شريحة ـ وهو حي ـ
ويلقي بالشريحة في النار ليري الرجل أطرافه تقطع وتحرق قبل أن يتم حرق ما تبقي منه دفعة واحدة.
هذه نماذج من التاريخ يصدق معها قول أستاذنا الدكتور زكي نجيب محمود: إن البلاء في مجال الفكر أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يد واحدة, وفي التراث الإسلامي كان الخليفة أو الأمير يجلس ورأيه من رأسه والسياف إلي جواره.
حين تجتمع سلطة الحكم والدين في شخص واحد أو في جماعة واحدة تكون كل الرقاب مهددة بالسيف بحجة تطبيق الشريعة.
وبعد أن اجتمعت السلطة الدينية والسلطة السياسية في يد الخليفة بدأ العالم الإسلامي السير علي طريق التخلف.