لا يمكن إغفال مسئولية المثقفين عن صناعة التخلف في العالم الإسلامي فعلي الرغم من ظهور مثقفين حاولوا إيقاظ الوعي وتوجيه الرأي العام للثورة علي أوضاع التخلف, والسعي إلي بناء نهضة يتخلص فيها المسلمون من القيم والأفكار والعادات السلبية الموروثة من عصور الظلام, واللحاق بحضارة العصر الحديث, إلا أن هؤلاء كانوا قلة, وظهروا في بعض البلاد الإسلامية وليس في كلها. وكانوا مثل صخرة حركت المياه الراكدة وبعدها عاد الركود مرة أخري.
كان أمام المثقفين دائما أن يختاروا بين الولاء للسلطة أو الولاء للشعب, فاختار معظمهم أن يضعوا أنفسهم في القالب الذي تريده السلطة. واختار بعضهم الآخر أن يمد عينيه ـ ويديه ـ إلي الخارج ويتلقي الوحي من وراء الحدود, وبقيت قلة تكافح لايقاظ مجتمعاتها, وفي النهاية لم يقدم المثقفون في العالم الإسلامي رؤية لمشروع النهضة, وانتظروا أن يأتي هذا المشروع من الحكومات ليروجوا له, بينما المفروض أن يكون المثقفون هم الرواد للتغيير وأن تكون لهم القيادة في غربلة تراث الماضي وتوجيه الحاضر والمستقبل.
البعض اجتهد في هدم كل شيء واكتفي بتوجيه النقد لكل ما هو قائم, وهذا لا يكفي لصناعة نهضة, والمفروض بعد النقد تقديم الحلول للمشكلات ولمعالجة السلبيات. وفي الفترة الأخيرة شهدت الساحة كثيرا من الصخب اختلطت فيها أصوات المثقفين تدعو إلي اتجاهات متضاربة ومتناقضة وكأنهم اتفقوا علي ألا يتفقوا, فالاشتباك لا ينتهي بين الداعين لليمين والوسط واليسار, والمنتمين إلي الحركات السلفية والمدنية, والمحافظين والليبراليين, والداعين إلي الحرب الدائمة والمبشرين بالسلام الدائم, فإذا كان هذا حال المثقفين فكيف يكون حال عامة الناس؟ هل نتوقع أن تنقسم الشعوب المسلمة وأن يكون ما يفرقهم أكثر مما يجمعهم؟, أو تتكاتف الجهود من أجل أن يتوحد المسلمون خلف فكرة واحدة أو مشروع واحد, أو حلم واحد للمستقبل.
والمجتمعات الإسلامية تعاني من أزمة وفساد التعليم وهذه مصيبة كبري, فانتشار الأمية, وفشل النظام التعليمي( وفساد الذمم أيضا) وتعدد المصادر التي تخرج المتعلمين بين مدارس وجامعات وطنية حكومية, وخاصة, وأجنبية تجعل من الصعب القول بوحدة التكوين العقلي والثقافي لأبناء المجتمع الواحد, فالثقافة الأجنبية تقود إلي الانتماء العقلي والروحي ـ وربما الولاء ـ إلي الدولة الأم لهذه الثقافة, وأصحاب التعليم والانتماء الأجنبي هم الذين تتاح لهم الفرص لتولي مواقع قيادية ومؤثرة في بلادهم مع أن المدارس والجامعات هي الوعاء لصياغة العقل والشخصية فاذا تعددت الأوعية يفقد المجتمع وحدته وتماسكه.
وفي بعض البلاد الإسلامية تحول المثقفون إلي موظفين واختاروا الصمت بدلا من التعرض للسجن أو الاضطهاد أو النفي. وكان لسيطرة الدولة علي الثقافة أثر كبير في سلبية أو نفاق أو تمرد المثقفين, والنتيجة أنهم فقدوا تأثيرهم في مجتمعاتهم ولم يعودوا قدوة, وبعض الدارسين يرون أن هناك أربعة أنواع لعلاقة المثقفين بالسلطة: علاقة اللا مبالاة, وعلاقة الانفصال المتبادل بين الطرفين, وعلاقة الاضطهاد ومحاربة الفكر النقدي, وعلاقة الوصاية, ثم علاقة المشاركة الحرة وهي الفريضة الغائبة. ويضاف إلي ذلك علاقة استجدت أخيرا هي ارتباط المثقف بمراكز القوة الاقتصادية بحثا عن نصيب من الثروة والحياة المرفهة علي حساب القضايا الوطنية ومصالح الشعوب.
لقد بدأ محمد عبده مهمة الاصلاح الديني والعودة إلي المنابع الحقيقية للرسالة الدينية, ودعا إلي تخليص العقيدة من الخرافات المتراكمة من قرون التقهقر والانحطاط ولكنه واجه المعوقات من القوي الاستعمارية ومن الحكومات ومن رجال الدين الذين استسلموا لما وجدوا عليه آباءهم وشيوخهم وكتبهم القديمة, واستطاع أهل الجمود أن يوهموا الناس بأن الحداثة والتجديد والحضارة الحديثة تعني الخضوع للاستعمار وتؤدي إلي نشر ما في المجتمعات الغربية من مظاهر التحرر. محمد عبده كان يسعي إلي إقامة بناء جديد للمجتمعات الإسلامية تكون فيه العقيدة قوة للتقدم وليس للتخلف, ويحقق بها الاجتهاد الديني صياغة جديدة للقيم لكي يعيش المسلمون في عالم جديد, وكان طه حسين معبرا عن امكان قيام البناء الجديد, والنتيجة أن التقدم مرهون بمساحة الحرية والتخلف نتيجة للقمع والجمود, وإذا لم يحمل المثقفون مشعل الاستنارة فمن سيفعل ذلك؟