بدد المسلمون جهودهم في خلافات حول مسائل فرعية لا تمس جوهر العقيدة , وانقسموا بسببها إلي فرق تتبادل الاتهام بالخروج من الملة , بينما انشغل غيرهم ببناء حضارة جديدة , وبتحسين مستوي حياتهم . الخلافات السياسية بين المسلمين أدت إلي حروب بينهم , ثم تحولت إلي إرهاب , والخلافات الدينية والفقهية أدت إلي تعميق الانقسام بينهم , وكانت النتيجة ما وصلت إليه المجتمعات الإسلامية من تخلف جعلها ضمن العالم الثالث , ولم تصل دولة إسلامية في العصر الحديث إلي مصاف العالم الأول أو الثاني ! وأهل الفتوي في العالم الإسلامي تسببوا في اضطراب علاقة المسلمين بالدين والدنيا , فكلما سئلوا عن أمر اختلفوا فقال فريق منهم إنه فرض واجب ( مثل الختان أو الحجاب ), وقال فريق آخر إنه ليس فرضا , ويقول فريق عن الشيء إنه حرام , ويقول آخر إنه ليس حراما بل مكروه فقط , وقد يقول فريق إن هذا الأمر من السنة التي يثاب فاعلها , ويقول آخر إنه مكروه يلام فاعله , ووصلت الخلافات بين أهل الفتوي إلي الحكم بأن عبادات الناس باطلة , وفي كتاب شيخنا عبدالجليل عيسي عميد كليتي الشريعة وأصول الدين الأسبق ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين نماذج مما تمتلئ به الساحة الدينية من أحكام غريبة . من هذه النماذج أن الدعاء بأمر من أمور الدنيا في التشهد الأخير يبطل الصلاة عند الحنابلة , ولا يبطلها عند المالكية , وتقدم المأموم علي الإمام لا يبطل الصلاة عند المالكية , ويبطلها عند غيرهم , بل إن الخلاف حول الأذان يشعل المعارك بين الفرق , المالكية يقولون إن التكبير في أول الأذان مرتان فقط , والشافعية يقولون إن ذلك يجعل الأذان باطلا ويجب إعادته لأن التكبير يجب أن يكون أربع مرات , وهذا خلاف غريب لأن الأذان يتكرر كل يوم خمس مرات منذ عهد الرسول إلي اليوم , فكيف يكون موضع خلاف؟ويضرب الشيخ عبدالجليل عيسي ـ رحمه الله ـ عشرات الأمثلة تدل علي أن الفقهاء شغلوا أنفسهم بأمور جعلت الخلافات في أمور الدين تصل إلي حد تشكيك المسلمين في عقيدتهم وعباداتهم , فترك التشهد الأخير يبطل الصلاة عند الشافعية والحنابلة , لأنه فرض , ولا يبطلها عند مالك وأبي حنيفة لأنه سنة فقط , والتضحية في اليوم الرابع من أيام عيد الأضحي صحيحة عند الشافعية , وغير صحيحة عند غيرهم , وزيادة ورحمة الله بعد السلام عليكم بعد التشهد الأخير في الصلاة ركن تبطل الصلاة بتركه عند الحنابلة , ولا تبطل الصلاة بتركه عند غيرهم , وإذا سجد المصلي علي طرف كمه أو ردائه تبطل صلاته عند الشافعية , ولا تبطل عند المالكية , واقتصار الخطيب يوم الجمعة علي خطبة واحدة يبطل الخطبة عند الشافعي وابن حنبل , ولا يبطلها عند مالك وأبي حنيفة , وخطبة الجمعة بحضور رجل واحد من المصلين صحيحة عند أبي حنيفة , وغير صحيحة عند غيره , لأن الشافعي وابن حنبل يشترطان حضور أربعين رجلا , ومالك يشترط حضور اثني عشر رجلا , وقراءة المأموم الفاتحة في الصلاة السرية والجهرية واجبة وتبطل الصلاة بتركها عند الشافعية , وهي حرام في السرية والجهرية عند الأحناف . فماذا يفعل المسلم إذا كان حريصا علي أن تكون صلاته صحيحة؟بل إن الخلاف وصل إلي موضع اليدين في الصلاة عند الشافعي وضع اليدين تحت الصدر من جهة الجانب الأيسر , وعند أبي حنيفة يضعهما الرجل تحت السرة , وتضعهما المرأة علي الصدر , وعند ابن حنبل وضعها تحت السرة للرجل والمرأة . هذه بعض أمثلة مما ذكره شيخنا الجليل في كتابه الشامل الذي يحتاج كل مسلم إلي قراءته لكي يدرك أنه لو ترك نفسه لهذه الاختلافات فلن يطمئن إلي صحة عباداته , وسوف يقضي حياته في الانشغال بهذه الأمور الفرعية , ولا يجد وقتا للتفكير أو العمل لتحسين نوعية حياته وتنمية مجتمعه وإضافة شيء لخدمة الناس . مشكلتنا أن الخلافات التي شغلت المسلمين تمتد جذورها إلي العصور الأولي للإسلام , يقول أبو الحسن الأشعري : اختلف المسلمون بعد نبيهم صلي الله عليه وسلم في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضا , وتبرأ بعضهم من بعض ..., ووصل الأمر إلي اتهام شيخ الإسلام أبي حامد الغزالي بالكفر لأنه قال : إن الأقرب إلي الكفر هو المتعصب لرأي جماعة معينة لأنه يجعل هذه الجماعة في منزلة النبي المعصوم من الخطأ . تخلف المسلمون لأنهم اختلفوا في كل شيء , ولم يقم شيوخهم بواجبهم لتوحيد الصفوف .