الشباب فى وادٍ.. والكبار فى وادٍ آخر!
 منذ سنوات شاركت فى لجنة اختيار الطلبة والطالبات المتقدمين للالتحاق بكلية الإعلام، كان المفروض أن مهمة اللجنة- كما فهمت- التعرف على مدى صلاحية كل منهم للعمل فى مجالات الإعلام المختلفة- الصحافة، والإذاعة والتليفزيون، والإعلان، والعلاقات العامة- وهذه الصلاحية كان المفروض أن تشمل- طبعا- شخصية المتقدم وثقافته وطريقته فى التعامل مع الآخرين وقدرته على التعبير عن رأيه، وكانت هذه بالنسبة لى فرصة لكى أتعرف عن قرب على مستوى ثقافة وتفكير الجيل الجديد.
ولكنى خرجت منها بحالة قريبة من الاكتئاب، لأنى وجدت الشروط الأولية المطلوبة للعمل فى مجالات الإعلام لا تتوافر إلا فى عدد قليل جدا، بينما أغلبية المتقدمين لا علاقة لهم بالثقافة، ولا يتابعون ما يجرى فى المجتمع ويملأ صفحات الصحف وبرامج الإذاعات وقنوات التليفزيون، وقال لى زملائى فى اللجنة: تساهل يا أستاذ لأن ما تطلبه غير موجود.. وكانت هذه آخر مرة أشارك فيها فى مثل هذه اللجان!
ومنذ أيام وجدت الدكتور على الدين هلال أستاذ العلوم السياسية المرموق، وأمين الإعلام بالحزب الوطنى يتحدث فى برنامج تليفزيونى فيقول:إن الشباب يعانى من الأمية السياسية، ويشير إلى دراسة أجرتها جامعة حلوان كشفت عن أن 52% من الشباب المصرى يعانون من (الأمية السياسية) وأن 8% فقط من الشباب يحملون بطاقة انتخابية، وتذكرت بعد ذلك الحديث أن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قامت هى الأخرى بإجراء دراسة تبين منها أن نسبة الشباب فى الأحزاب أقل من 4% من أعضائها، وأن الشباب لا يشارك فى مشروعات اجتماعية أو ثقافية ولا يشارك فى أية مؤسسة أو هيئة لخدمة الحى أو القرية أو المجتمع الذى يعيش فيه. وكانت إجابة غالبية الشباب عن أسباب هذه السلبية هى عدم الثقة والشك فى جدوى المشاركة.. وذكر تقرير للمجالس القومية منذ سنوات أن ابتعاد الشباب عن المشاركة الاجتماعية والسياسية وعن القراءة والثقافة بشكل عام يرجع إلى تآكل ثقافة الطبقة المتوسطة، وانضمام شرائحها السفلى إلى قاعدة الفقراء، كما يرجع إلى تسرب الشباب المثقف وأصحاب العقول المفكرة من أبناء هذه الطبقة ومن العمالة الماهرة والفنيين والخبراء بالهجرة الدائمة أو المؤقتة، مما يعنى أن الفئات المتفوقة من أصحاب الكفاءة والطموح تهاجر من البلد، وتبقى نوعيات من الأقل كفاءة، وأشارت المجالس القومية إلى أنه لا حل لهذه المشكلة إلا أن يجد أصحاب الكفاءات فرص العمل والتقدم والتقدير الاجتماعى فى بلدهم.
وفى تقارير المجالس دراسة عن تأثير انتشار الرغبة فى الثراء السريع بدون مجهود، واختلال شروط الحصول على الفرص والمواقع المقدمة فى المجتمع. يقول إن فرص العمل والحصول على الوظائف المتميزة والترقى أصبحت لمن له واسطة أو من أبناء ذوى النفوذ، مع غياب قيمة الكفاءة والثقافة والقدرة على تحمل المسئولية، وغياب تكافؤ الفرص بشكل صارخ، وفى تقارير المجالس القومية أيضا إشارات إلى تأثير انتشار ثقافة الاستهلاك وانتقالها من المدن إلى الريف، ومن الأحياء الراقية الشعبية، حتى أن نسبة كبيرة من شباب الريف والأحياء الشعبية- وحتى شباب العشوائيات- أصبحوا يبحثون عن المال ويعتبرونه الهدف الوحيد فى الحياة، وقد تغيرت كثير من القيم التى كانت سائدة فى المجتمع فانتشرت الروح الفردية وتراجعت الرابطة الاجتماعية، كما انتشرت السلبية واللامبالاة وعدم الانتماء وتراجع الشعور بالانتماء وتفككت الرابطة الجماعية!
ولعلماء النفس والاجتماع تفسيرات مختلفة عن الأسباب التى جعلت الناس اليوم غير الناس قبل ذلك، والمجتمع غير المجتمع، والشباب غير الشباب، ويفسر تقرير المجالس القومية هذه الظواهر المقلقة المنتشرة بين الشباب بزيادة الغلاء، وضغوط الحياة والبطالة، مما يفرز مشاعر الإحباط والعدوان، بالإضافة إلى ما يراه الشباب من شيوع الانتهازية، وصعود المحظوظين وتراجع قيمة الاجتهاد والكفاءة، وما ترتب على الخصخصة من خروج أعداد كبيرة من أرباب الأسر بالمعاش المبكر وهم فى منتصف العمر وتحولهم إلى دائرة البطالة مع أبنائهم. وفى دراسة لمجلس الشورى بعنوان (الوضع الراهن) أن البطالة أصبحت من النوع المزمن بسبب قصور وعجز الطاقات الإنتاجية القائمة وعدم قدرة الجهاز الإنتاجى على توفير فرص العمل الكافية على استيعاب من هم فى سن العمل، مما يستوجب إجراء تعديلات جذرية فى البنيان الاقتصادى بالتركيز على إنشاء مجالات إنتاجية جديدة.
أضف إلى ذلك أن مؤسسات الثقافة والتنشئة (المدرسة- التليفزيون- البيت) تجذب الشباب إلى الثقافة الجادة ولا تساعد على حمايته من الأفكار الغريبة والخبيثة التى تمثل السهام المسمومة الموجهة إلى عقول الشباب وهدفها تحقيق (الاختراق الثقافى) و(الاستعمار الثقافى) و(احتلال العقول)، وغرس أفكار واتجاهات سلبية مضادة ومعادية للمجتمع ولمستقبله، وفى نفس الوقت فإن القائمين على التربية والثقافة لا يتعاملون بجدية مع طبيعة المرحلة التى يمر بها المجتمع ويتأثر بها الشباب أكثر من غيره، وهى مرحلة يتغير فيها المجتمع تغييرا شاملا، فالأفكار التى كانت تعتبر أفكارا تقدمية ويغرسها المجتمع فى عقول الشباب أصبحت اليوم أفكارا مهجورة ومنكرة ومرفوضة، وأفكار الكبار أصبحت على النقيض من أفكار الجيل الجديد ومثل هذه الحالة يمكن أن ينتج عنها ما يسميه علماء الاجتماع (الفجوة الثقافية أو الفجوة بين الأجيال) وإذا لم تتم إقامة جسور للتواصل والتقارب يمكن أن يحدث الانفصال بين جيل الكبار وجيل الشباب، وإذا لم يجد الشباب من يقترب منه ويتعامل معه بما يتناسب مع طبيعة المرحلة التى يمر بها، فإنه معرض للوقوع فى دائرة الإغواء التى تسمم أفكاره فى الفضائيات، ومواقع الانترنت السوداء، وجماعات التعصب أو جماعات الجريمة، ونحن لا نستطيع أن نمنع الشاب من فتح قنوات تليفزيونية معينة أو مواقع معينة على الانترنت، ولكن فى استطاعتنا توعية الشباب وترشيده بحيث يحسن الاستفادة من مصادر الثقافة المفيدة، ومن ثمرات الانفتاح والعولمة فى الثقافة والإعلام ويتنبه إلى ما فيها من جوانب إيجابية مفيدة وبناءة وجوانب سلبية وضارة وهدامة.. لماذا لا تفعل ذلك المدرسة والتليفزيون والأندية ومراكز الشباب؟.. لماذا نجد الجميع يكررون الشكوى من ضحالة فكر الشباب ومن سيطرة الثقافة الفاسدة ولا يؤخذ الأمر بالجدية الواجبة وتوضع خطة شاملة لحماية عقول الشباب وبنائها لصالحهم وصالح البلد؟.. وما فائدة كل هذه المؤسسات والهيئات والأجهزة إذا لم تحقق ذلك؟.
لماذا فشلت مؤسسات التربية والثقافة حتى الآن فى غرس ثقافة المشاركة مع كثرة الحديث عنها الذى أصاب الناس بالملل؟ فى المجتمعات المتقدمة يشعر الفرد بذاته، ويشعر بقيمة دوره فى المجتمع، وبأهمية اشتراكه مع الآخرين لخدمة أنفسهم وتنمية مجتمعهم.. المشاركة والإيجابية والمعرفة أهم قيم التقدم وضرورات التقدم.. والمجتمعات المتخلفة تسود فيها قيم التخلف.. يتقوقع كل فرد فى دائرة مصلحته الشخصية فقط دون أن يدرك ارتباط مصلحته الشخصية بمصالح غيره من الناس وبمصالح المجتمع، فى المجتمعات المتخلفة لا يشعر الفرد بأن له قيمة وبالتالى لا يرى أهمية لبذل الجهد لخدمة المجتمع، فى المجتمعات المتخلفة تسود فلسفة (أنا وبعدى الطوفان). وفى كل مجتمع عوامل تجعله تربة خصبة لثقافة السلبية أو لثقافة المشاركة.. من هذه العوامل الارتباط أو الانفصال بين المواطن والسلطة، ومدى توافر أو غياب مناخ الحرية وشعور الناس بأن رأيهم مطلوب ومؤثر فى القرار وأن السلطة تحس بهم وتعمل لصالحهم، وأن أصواتهم فى القاعدة تصل إلى القمة وأن الرسائل تسير فى اتجاهين من الناس إلى السلطة، ومن السلطة إلى الناس، وليس فى اتجاه واحد من القمة إلى القاعدة فقط! وإذا كانت القرارات والسياسات يتم إقرارها دون اعتبار للرأى العام فلن تكون هناك جسور اتصال ولن تكون هناك ثقافة مشاركة ولا ثقافة للتقدم، وسوف تزداد أعداد الشباب الذى يسعى إلى البحث عن طريق آخر خارج تعاليم وتوجيهات البيت والمدرسة والتليفزيون.. بل خارج البلد!
ولا ننسى أن هناك جماعات لها أفكار فاسدة ولكنها تحتضن الشباب وتجيد التعامل معهم لجذبهم إليها فتعطيه من الاهتمام والإحساس بالقيمة ما لا يعطيه البيت والمدرسة والمجتمع. وهذه الجماعات التى يجد فيها الشباب دفء العلاقات هى التى تغرس فيه التعصب ومعاداة من يخالف الرأى الواحد، وتجعله يؤمن بأنهم هم وحدهم الذين يملكون الحقيقة المطلقة وغيرهم فى ضلال مبين! وهنا يأتى الخطر.. يصبح كلُّ من التعصب وضيق الأفق عائقا أمام محاولات الإصلاح الدينى والاجتماعى والسياسى، وتزول الحدود بين التدين والتعصب، وبين الدفاع عن الدين والاعتداء على الآخر، وبين السعى إلى الإصلاح والسير على طريق الجريمة والعدوان، وبين العمل على بناء المجتمع الفاضل وهدم المجتمع القائم.. وهكذا تختلط المفاهيم وتفسد العقول!
الخلاصة أن عقول الشباب فى خطر.. وعلى مؤسسات صناعة العقول أن تراجع نفسها وتخطط لبناء عقول الشباب لكى تكون سلاحا لمعارك البناء، والتقدم، والحرية، وتعمل بجدية لتحصين الشباب من الأمراض النفسية والاجتماعية التى يشكو منها الشباب.. القضية تبدأ بأن يلتقى الكبار والشباب مع أرضية واحدة بدلا من أن يعيش كل منهما فى واد وتفصل بينهما هوة نفسية وثقافية ويصعب الالتقاء بعد ذلك!


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف