انحراف الشباب.. مسئولية من؟
شىء عادى جدا أو شائع جدا أن تسمع الأب يشكو من تمرد أبنائه- وبناته- وعلماء النفس والتربية يقولون إن تمرد الأبناء أمر طبيعى فى مرحلة من مراحل النمو النفسى والجسمى للشباب، وهى مرحلة المراهقة وما بعدها، ويجب أن يتفهم الآباء طبيعة هذه المرحلة ويساعدوا أبناءهم على اجتيازها بسلام. لأن مقاومة سعى الشاب للوصول إلى الاستقلالية والشعور بذاتيته وكيانه سيؤدى به إلى الانحراف، أو على الأقل يسبب له مشاكل نفسية نتيجة الصراع فى داخله بين رغبته الجامحة فى تحقيق ذاته وبين وقوف الأب- أو الأم- ضد هذه الرغبة فلا يجد أمامه إلا الكبت أو الانفجار!
وإذا لجأ الشاب إلى كبت مشاعره وانفعاله سيصبح منطويا، خجولا، ويفقد الثقة فى نفسه، ويتعامل مع الأسرة ومع المجتمع بسلبية وعدم شعور بالولاء الحقيقى. وإذا لجأ إلى الانفجار فسوف يبحث عن أصدقاء السوء وقد يقوده هؤلاء إلى طريق المخدرات، أو الجريمة، أو الإرهاب، ولكنه وسط هذه المجموعة من المنحرفين سوف يشعر بالراحة النفسية وبالأمان ويجد الفرصة لتحقيق ذاته وتأكيد إرادته ولو فى الطريق الخطأ مادام الطريق الصواب مغلقا أمامه!
وفى كل الأحوال فإن الأب هو المسئول الأول عن انحراف ابنه.. وهذا ما تؤكده البحوث الاجتماعية والنفسية وآخرها بحث ممتاز للدكتورة سنية جمال عبد الحميد رئيس قسم علم النفس بآداب سوهاج تقول فيه إن الأسرة هى المصنع الذى يظهر إنتاجه فى شخصيات سوية أو شخصيات منحرفة.. إيجابية أو سلبية.. منتجة أو غير منتجة.. تشعر بالمسئولية أو باللامبالاة.. ميالة للإصلاح أو للتخريب.. ومعنى ذلك أن الأسرة إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت يفسد المجتمع.. لماذا.. لأن الأسرة هى التى تتولى من البداية بناء شخصية الأبناء منذ الطفولة الأولى. والعلاقة بين الابن والأب هى التى ستحدد بعد ذلك علاقته بالآخرين وبالمجتمع وبالسلطة فى أى شكل من أشكالها.. لأن الأب هو السلطة الأولى التى يتعامل معها الابن ويحبها أو يكرهها!
والخطأ الذى لا يغتفر فى المجتمع المصرى أن الآباء ينجبون أطفالهم ويقومون بتربيتهم دون أن يتعلموا كيف يكونون آباء صالحين، ومع ذلك فإنهم يريدون أن يكون أبناؤهم أبناء صالحين لا يدرك الآباء مثلا أن أسلوب كل أسرة فى حل الخلافات والمشاكل التى تحدث بين أفرادها هو الذى يحدد علاقات الأخوة بعضهم ببعض ويحدد علاقات الأبناء بالآباء فإذا كانت العلاقات داخل الأسرة فيها التآلف والتفاهم حتى عند وجود مشكلة، وإذا كانت الأسرة قادرة دائما على التوصل إلى حلول عادلة وعملية للمشاكل فإن الصراع بين الأخوة يختفى أو يقل إلى أدنى درجة، والعكس صحيح.. وإن إدراك الأبناء لعدالة وحكمة السلطة الوالدية هو الذى يحدد علاقة الأبناء مع الأشخاص الذين يتعامل معهم بعد ذلك خارج نطاق الأسرة.
وفى إجابات الشباب عن أسئلة البحث قالوا إنهم يعترفون بأن من حق الأب والأم ضبط الأمور داخل الأسرة ولكن الآباء- غالبا- لا يدركون أن من حق الأبناء أن يكون لهم استقلال فى أمورهم الشخصية، فلا يتدخل الآباء فى كل صغيرة وكبيرة ولا يضيقون الخناق على أبنائهم، لأنهم ليسوا سجناء يخضعون للرقابة والأوامر فى كل لحظة وفى كل شىء.. وقالوا أيضا إن الضغط الزائد من الآباء على أبنائهم هو الذى يجعلهم يهربون من البيت وينضمون إلى جماعة من أقرانهم يجدون عندها الفهم والتفاهم والمشاعر التى يفتقدونها فى البيت. وقال الشباب إنهم لا يرفضون توجيه الآباء لهم ولكنهم يطلبون أن يكون ذلك بالحوار وليس بإصدار الأوامر أو بالعنف.. بالإقناع.. وفى هدوء.. وليس بالتهديد والعقاب.. قالوا إن من حقهم أن تكون لهم مساحة من الحرية فى أمورهم الشخصية.. حرية اختيار نوع التعليم، والملابس التى يحبونها، والنشاط الرياضى أو الاجتماعى الذى يميلون إليه وهكذا، المهم أن تكون لهم فرصة لتأكيد شخصيتهم وإرادتهم فرصة يشعرون فيها بحريتهم ويمارسون فيها إرادتهم واستقلالهم.. وكانت شكوى الشباب من التضييق عليهم فى البيت وقالوا إن الخناقات مع آبائهم وأمهاتهم تحدث بسبب تدخل الكبار فى أمور الحياة اليومية مثل مشاهدة التليفزيون أو التحدث فى التليفون أو الاستيقاظ من النوم متأخرا أيام الإجازات.. الخ. وكانت شكوى البنات أكثر من شكوى الصبيان.. شكوى من تدخل كل أفراد الأسرة الكبار والصغار فى كل شئون البنت بحيث لا يتركون لها فرصة اختيار ملابسها أو تسريحة شعرها أو اختيار الصديقة التى تحبها.. والشكوى الأكبر من التمييز فى المعاملة داخل الأسرة بين الصبيان والبنات.. والصبيان والبنات يطلبون الشعور بدفء العلاقة مع آبائهم، والتقليل من القيود والضغوط وطلب الطاعة دائما وعلى طول الخط من الأبناء.
تعلق الدكتورة سنية على ذلك بأن الصراعات والنزاعات بين الوالدين والأبناء لا يخلو منها بيت مصرى وليست خطرا فى حد ذاتها، بل هى علامة صحية للعلاقات بين الأبناء والآباء تساعد الأبناء على اختبار قدراتهم على ممارسة الاستقلالية وتحقيق الذاتية فى مرحلة المراهقة والشباب، فهى أشبه بمعارك حصول الدول الواقعة تحت الاحتلال على الاستقلال!
معنى ذلك أن ظاهرة الأخوة الأعداء توجد فقط فى الأسر التى لا يتعامل فيها الآباء والأمهات مع أبنائهم بالعدل ودون تمييز لأحدهم على الآخر واحترام رغباتهم وتعويدهم على حل المشاكل التى تنشأ داخل الأسرة بالتفاهم والحوار والوصول إلى حلول ترضى كل الأطراف ولا تكون لصالح طرف ضد الآخر حتى لا يتعمق الشعور بالمرارة والحقد.
البحث الذى أجرته الدكتورة سنية عبد الحميد كان على طلبة السنة الأولى فى جامعة جنوب الوادى وأغلبهم مقيمون فى سوهاج ومراكزها وعدد منهم من أسيوط وقنا وأسوان، وشملت العينة مجموعة من الآباء والأمهات من مستويات مختلفة من أطباء ومديرين ومهندسين وموظفين وسائقين وعمال وفلاحين، والأمهات من العاملات والمدرسات والموظفات وربات البيوت. اعترف الأبناء بأن السلطة فى البيت يجب أن تكون للوالدين لأنهما أكثر خبرة ومعرفة بمصلحة أبنائهم، وأكثر قدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وقالوا أيضا إن على الآباء التزاما ومسئولية تجاه أبنائهم ويعلمونهم الصواب والخطأ وقواعد الأخلاق منذ الصغر على أن يكون ذلك دون ضغط وبالحوار والإقناع، أما الأمور الشخصية فليس من حق أحد أن يقيد حرية الشاب فيها ولا يفرض عليه شيئا لا يرغب فيه يتعلق بنوع الدراسة أو العمل أو الملابس أو الرياضة.. الخ. أظهرت نتائج البحث أن صراعات البنات مع الأمهات أكثر من الصبيان وقالت 62% من البنات إن الصراعات مع الآباء والأمهات لا تصل إلى حل. وقال الشباب إن ما يضايقهم هو تدخل الآباء فى علاقاتهم مع أصدقائهم وإصرار الأب على اختيار هؤلاء الأصدقاء والاعتراض على من لا يرضى عنه، وقالوا إن معظم الصراعات مع الآباء بسبب الدراسة والمذاكرة واختيار الكلية أو القسم.. وقالوا إن أهم الصراعات مع الآباء بسبب عدم فهمهم لوجهة نظر الشباب، ومحاولات الضغط بكل الوسائل لفرض آرائهم عليهم، وبعض الشباب قال إنه غير راض عن أبيه لكثرة تغيبه أو سفره أو إسرافه فى الإنفاق على مطالبه الشخصية أو بسبب التمييز بين الإخوة وعدم المساواة. قالت أم: عيب أن ترد البنت على أخيها الولد وقالت بنت: إن التمييز بينى وبين اخوتى الذكور سيؤدى إلى سوء علاقتى بهم ويجعلنى أكرههم. وقالت بنت ثانية: إنهم يطلبون منى أن أذاكر طول الوقت وأنا لا أستطيع ذلك. وقال شاب: أنا من حقى الترفيه عن نفسى. وقال آخر: يجب أن يعرف الآباء أننا لنا رأى يجب احترامه.. وقالت بنت: مشكلتى مع أمى أنها تريدنى أن أساعدها فى أعمال البيت وليس لدى مانع ولكن أحب أن أساعدها حسب مزاجى قال الأبناء إن علاقة أمهاتهم بهم أكثر دفئا من آبائهم وكشف البحث أنه كلما قل دفء العلاقة بين الأبناء والآباء والأمهات تكون الصراعات فى البيت أقوى، ومعنى ذلك شعور الأبناء بالحب.. وانتهى البحث إلى أن الصراعات فى الأسرة المصرية أعلى من الصراعات التى كشفت عنها البحوث التى أجريت على المراهقين الأمريكيين من أصل مكسيكى وصينى وفلبينى ولكنه أقل من الصراعات فى الأسر الأمريكية.
مثل هذا البحث يدعو الآباء والأمهات إلى إدراك حقيقة بسيطة جدا ولكنها هى الأساس فى تحقيق السلام داخل الأسرة وبالتالى داخل المجتمع، والأساس لضمان علاقات سوية قائمة على الحب والاحترام معا.. هذه الحقيقة هى ضرورة التعامل مع الابن على أنه إنسان له مشاعر وعقل وقلب وإرادة وله حقوق كما أن عليه واجبات وان واجب الآباء إعداد الأبناء للحياة فى المستقبل كأفراد لهم شخصيات مستقلة وقادرون على اختيار الطريق الصحيح.. هذا البحث يدعو الآباء: كونوا آباء صالحين ليكون أبناؤكم أبناء صالحين.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف