الشباب حائر.. والكبار أيضاً!
الدراسات الاجتماعية التى أجريت عن الشباب انتهت إلى نتيجة ملخصها أن معظم شبابنا حائر، ولا يشعر بالرضا، وغير سعيد لأنه لا يجد اهتماما كافيا من الكبار بشئونه وشجونه، ولا يجد طريقا لإشباع حاجاته الأساسية كإنسان. ويشعر أيضاً أنه لا يملك حرية الاختيار لنوع التعليم الذى يريده، أو العمل الذى يتفق مع قدراته وميوله، أو الفتاة التى يحبها.. والزواج أصبح حلما بعيدا جدا.
كان الدكتور رشاد رشدى أستاذا ملء السمع والبصر فى النقد الأدبى ورئيسا لقسم الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة، وكاتبا مسرحيا، وفى إحدى محاضراته عن النقد خطر بباله أن يسأل الطلبة المكدسين أمامه فى المدرج سؤالا وطلب منهم الإجابة بمنتهى الصراحة.
وكان السؤال: كم منكم يحب أو يهتم بالأدب؟ فرفع ثلاثة فقط أصابعهم! ثم سألهم: وكم منكم يحب النقد الأدبى. فرفع اثنان فقط أصبعيهما.. وهكذا بالنسبة لجميع المواد التى يدرسونها كانت الإجابة بنعم لا تزيد على ثلاثة من أكثر من ثلاثمائة طالب (أى أن نسبة الرضا على نوع الدراسة التى فرضها عليهم مكتب التنسيق فى حدود 1%) إلى أن جاء السؤال الأخير: من منكم يحب الشعر؟ فرفعت طالبة واحدة اصبعها، فقال لهم بأسى: وما الذى جعلكم تلتحقون بكلية الآداب ما دمتم لا تهتمون بالأدب، فجاءته الإجابة: لقد وزعونا على الكليات بحسب مجموعنا فى الثانوية العامة فجاءت الآداب من نصيبنا وقيل لنا إن قسم اللغة الإنجليزية هو الأفضل!
قال الدكتور رشاد رشدى بعد ذلك: لقد أصابتنى غمة وفكرت فى الاستقالة من الجامعة ما دمت عاجزا عن أن أعيد الجامعة إلى مكانها، وشعرت بإهانة من التعامل مع طلبة لم يدخلوا هذه الكلية بإرادتهم، ولم يلتحقوا بهذا القسم لأنهم يحبون دراسة المواد التى تدرس فيه وأنا بالنسبة لهم ضيف ثقيل غير مرغوب فيه.. بل إنهم- كما قالوا- لم يدخلوا الجامعة بحثا عن العلم، فإن كان هذا هو الحال فكيف تكون هذه جامعة، وكيف يكون ذلك تعليما، وكيف يكون الخريج قادرا على العطاء؟
وعلّق الدكتور رشاد رشدى قائلاً: لقد كانت الجامعة على أيامنا- فى الثلاثينيات- محرابا نحج إليه كل يوم والبهجة تملأ قلوبنا، وننهل من العلم لا طمعا فى وظيفة نأكل منها عيشنا كما يقال اليوم، ولكن لأننا كنا نحب العلم ونحب الجامعة. فما الذى حدث؟ ويجيب: لم أجد إجابة عن هذا السؤال، ولكن الجامعة ليست لكل من يحصل على الثانوية العامة، ولكنها لكل ما لديه القدرة الفكرية والرغبة فى التعلم والبحث، وهكذا يجب أن ندرك أن هذه الحشود من الطلبة الذين يلتحقون بالجامعات وهم غير مؤهلين وغير محبين لهذا النوع من التعليم هو السر فى التدهور الذى وصل إليه التعليم الجامعى.. السر هو وجود طلبة لا يصلحون أصلا لنوع التعليم الجامعى الذى يفرض عليهم فرضا بل ولا يرغبون فيه، ولهذا يتعامل الأستاذ مع طالب فاقد الاهتمام بالعلم وكل ما يهمه هو اجتياز الامتحانات والحصول على شهادة.. لقد أصبح العلم مجرد وسيلة للحصول على شهادة ليس إلا.. ولا أحد يبحث عن ميول الطالب أو رغبته أو قدراته الفكرية واستعداده للتعليم العالى.. إنهم يسألون فقط عن مجموع درجاته فى الثانوية العامة وهذا المجموع ليست له دلالة على القدرات العقلية بل إنه يدل فقط على قدرة الطالب على حفظ ملخصات الإجابات عن الأسئلة المتوقعة فى الامتحان والتى يحسن توقعها مدرسو الدروس الخصوصية بخبرتهم.
طالب الجامعة يدخل الجامعة وقد سلبت منه قدرته على الاختيار.. وليست لديه الفرصة للمبادرة، وهذا يفسر لماذا لا يحافظ كثير من المتفوقين فى امتحان الثانوية العامة على التفوق فى الدراسة الجامعية.. فهل الهدف من التعليم الجامعى تخريج موظفين فى أعمال لا علاقة لها بنوع الدراسة الجامعية؟ لقد كان هذا هو الهدف الذى وضعه دنلوب ممثل الاستعمار البريطانى فى إدارة التعليم فى مصر، وكان يقصد بذلك قتل روح الإبداع والطموح والتقدم فى أبناء هذا الوطن.. لكى يبقى تابعا وخاضعا للاستعمار. وأسوأ من ذلك أن يضطر الشباب بعد التخرج إلى الالتحاق بعمل لا يحبه ولا يتناسب مع دراسته أو قدراته، فمن أين يأتى الإنتاج بينما هذا الشباب يعمل فى مكان وهو فى الحقيقة لا يعمل، ولهذا أصبحت البطالة المقنعة من الأمور التى لا يخفيها أحد مسئول أو غير مسئول، كما لا ينكر أحد أن مؤسسات التعليم- بما فيها الجامعة- لا تعلم الطالب كيف يتعلم ويكوّن عقله ويفكر بمنطق علمى.. ليس فى أى جامعة فى العالم شىء اسمه الكتاب الجامعى يحفظ الطالب بضع صفحات منه ويلغى الأستاذ الباقى لأن ما فيها لن يأتى فى الامتحان.. ليس فى أى جامعة فى العالم أستاذ يعطى للطلبة دروسا خصوصية.. وليس فى أى جامعة فى العالم طلبة يدخلونها ويخرجون منها دون أن تتاح لهم فرصة لقاء الأساتذة لقاءات حرة فيما يعرف باسم (ساعات المكتب).. ليس هناك جامعة فى العالم كما عندنا ليس فيها فرصة أمام الطالب للحوار والمناقشة وإبداء الرأى وممارسة النقد.. وليس هناك جامعة فى العالم مثل جامعاتنا تقدم للطالب الرأى الواحد فتغرس فى عقله أن الحقيقة ليس لها أكثر من وجه وأن كل رأى يحتمل الخطأ والصواب.. وبذلك يتعود على احترام الرأى الآخر.. ولكن نظامنا التعليمى- حتى فى الجامعة- يجعل الطالب آلة صماء يسهل أن ينقاد لمن يقدم له الرأى الواحد على أنه الحقيقة المطلقة، فيتحول إلى التعصب الفكرى والمذهبى، ولا يقدر على رؤية الزوايا المتعددة والاختلافات فى الرأى حول الموضوع الواحد.. ولا يتعود احترام الاختلاف والتعددية فى الرأى.
.. مشكلة!
مشكلة أخرى. الشباب يمر بمرحلة تتميز بطبيعتها بالقلق والاستعداد للتمرد على سلطة الأب والمدرسة والجامعة والمجتمع.. وهو محتاج إلى من يفتح له قلبه ويتحدث معه بصراحة ويفضى إليه بمشاعره ومخاوفه ومشاكله.. ولكنه لا يجد الفرصة لذلك.. لا يجد إلا لقاءات جماعية شكلية ومظهرية، وكبار يتحدثون إليه من فوق المنصة ومن خلال الميكروفون ويكررون عبارات تقليدية محفوظة يرددونها فى كل مناسبة، وأحياناً بدون مناسبة.. فلا حوار.. ولا مناقشة.. ولا علاقة حميمية.. ولا مشاعر ود.. ولا علاقة شخصية.. وطبيعى فى مثل هذه الحالة أن يعانى الشاب من الفراغ.. الفراغ النفسى.. والفراغ الفكرى والثقافى والسياسى فى غياب الأنشطة التى تساعده على بناء شخصيته وتنمية ملكاته الذهنية لإعداده للقيام بمسئولياته فى المستقبل، وللقدرة على التصدى لعمليات الإغواء الذى يسعى إلى جذبه إلى التطرف الدينى أو الانحراف الأخلاقى أو الوقوع فى السلبية واللامبالاة أو الاعتقاد بأن (مفيش فايدة)!
الشباب يحتاج إلى اكتساب المهارات التى أصبحت من ضرورات العصر مثل الكمبيوتر والإنترنت والأدوات التكنولوجية الحديثة ولكن ما هو متاح له من ذلك أقل مما هو مطلوب، والفرق بينه وبين زميله خريج أى جامعة فى دول آسيا- ولا أقول أوربا- كالفرق بين السماء والأرض. والكلام عن مشروعات فى هذه المجالات أكثر مما يحدث فى الواقع، والكبار يرددون كل يوم أن على الشباب ألا يقف على أبواب الحكومة انتظارا لوظيفة لأن هذا الباب أغلق، والحكومة لديها من الموظفين أضعاف ما تحتاج إليه، وعليه أن يدخل مجالات العمل الحر، يقال ذلك دون إعداد هذا الشباب لدخول مجالات العمل الحر، ولا يمكن للشاب أن يخوض هذا البحر العميق وسط الحيتان دون مرشد ودون خبرة.. العمل الحر لا تصلح فيه الفهلوة.. يقول الكبار إنهم يعدون دورات تدريبية لتوجيه الشباب إلى مشروعات مناسبة يحتاجها السوق وإعداده لإدارتها وتسويق منتجاتها والتعامل مع السوق ومع البنوك والقوانين والنظم الإدارية المعقدة.. يقولون ذلك ولكن ما يحدث أقل من ذلك بكثير.. الكلام أكثر من الفعل.
الكبار يرددون أمام الشباب شعارات دون أن يحددوا لهم كيف يمكنهم تحويلها إلى عمل. يقولون لهم: عليكم أن تعبروا عن آرائكم بحرية فنحن فى مجتمع ديمقراطى يؤمن بحرية الرأى، ويقولون لهم عليكم أن تقدموا لوطنكم الولاء والانتماء وتعملوا على خدمة الوطن وحمايته، ولا يجد الشباب من يقول له ماذا يعمل لتحقيق ذلك.. والمسألة كلام فى كلام.. يقولون للشباب لابد أن تكون إيجابيا وتشارك فى الحياة العامة.. شارك فى السياسة.. شارك فى العمل العام.. شارك فى بناء وطنك.. طيب.. إذا اقتنع الشباب بذلك وأراد أن ينفذه فماذا يفعل بالضبط؟ وأين؟ ومع من؟
وحتى فى البيت.. الشباب يشعر بالحيرة والوحدة.. الأب مشغول.. والأم مشغولة.. وليس فى البيت سوى الأكل والسرير والتليفزيون والتليفون.. وليس فى المدرسة تعليم.. فيها فقط مدرس خصوصى ينظم أوقات هذه الدروس ويجمع الفلوس من التلاميذ بالساعة، وأستاذ الجامعة يعمل خارج الجامعة ويقول إنه يبحث عن أكل العيش لأن مرتب الجامعة لا يكفى فليس لديه وقت ليستمع إلى طالب.. طبعا لن يجد الشاب من يقترب منه ويفتح له قلبه سوى أصدقاء السوء.. وهناك عناصر مخصصة لاصطياد الشباب الحائر تستدرجه إلى طريق الانحراف ويسهل عليهم إقناعه بأن طريق الضلال هو الطريق الصحيح.
وماكينة الكلام تردد.. الشباب هم نصف الحاضر وكل المستقبل.. الشباب هم أمل الوطن وذخيرته.. الشباب هم أهم عناصر الثروة القومية.. الشباب هم أساس الأمن القومى.. ولا شىء غير الكلام.. أو للإنصاف هناك كثير من الكلام وقليل من العمل. وبعد ذلك نشكو من أن الشباب يهتم بمتابعة سعد الصغير وهيفاء وهبى والفضائيات العارية أكثر من اهتمامهم بطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ.. وندعى أننا آسفون لأن الشباب أصبح فاقدا للولاء والانتماء ولم يعد راغبا فى المشاركة فى العمل العام والخدمة العامة.
يبدو أن الكبار أيضا حائرون، لا يعرفون، وربما لا يقدرون على التعامل مع الشباب بما يستحق من الاهتمام والتفرغ.. الكبار مشغولون بأنفسهم فليس لديهم الوقت أو الطاقة لغيرهم.. وهذه هى حقيقة المشكلة.. ومن هنا تكون البداية.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف