الجانب الآخر مـن حــيـاة أم كـلـثــوم
قد لا يعرف كثيرون أن أم كلثوم كانت لها معارك سياسية هددت مكانتها وهددت حياتها أيضاً قبل الثورة ارتبطت بشخصيات سياسية داخل القصر وخارجه، وكان الملك فاروق نفسه طرفا فى هذه المعارك، وقبل الثورة وبعدها كانت لها معارك مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان عبد الناصر بنفسه طرفا فى هذه المعارك، وفى آخر سنوات عمرها كانت لها معارك مع الذين أرادوا انتزاع مكانتها وتنصيب من هن أقل موهبة منها لإطفاء الأضواء المبهرة المسلطة عليها، وإزاحتها عن القمة التى تتربع عليها، وفى كل المعارك خرجت أم كلثوم منتصرة فيما عدا معركتها الأخيرة التى انهزمت فيها بسبب السن والمرض وماتت وهى متأثرة بها، ولكنها حتى بعد موتها، أثبتت أنه لا يصح إلا الصحيح. فى أثناء الحرب العالمية الثانية اشتدت المنافسة بين دول الحلفاء ودول المحور على أم كلثوم (!).
وتروى الدكتورة نعمات أحمد فؤاد فى كتابها عن أم كلثوم كما يروى محمد التابعى فى ذكرياته أن الحكومة البريطانية طلبت من مخابراتها العسكرية القبض على أم كلثوم ونقلها إلى لندن خوفا من أن يخطفها الألمان لاستغلالها فى الدعاية لصالحهم، وأكد ذلك مدير الإذاعة المصرية فى ذلك الوقت (سعيد لطفى)، وقال إن محطة الإذاعة البريطانية عرضت عليه سفر أم كلثوم إلى لندن لتسجيل أغنية مقابل مائة جنيه، ولكن أم كلثوم - لحسن الحظ - لم تقع فى هذا الفخ، ورفضت هذا العرض دون أن تعلم الهدف الحقيقى لهذه الرحلة. وفى نفس الوقت أنشأت حكومة إيطاليا سنة 1937 إذاعة لاسلكية للدعاية المضادة لدعاية الحلفاء، وعرضت هذه الإذاعة على أم كلثوم إحياء حفلات خاصة لها ورفضت أم كلثوم هذا العرض أيضاً. وللكاتب المتميز حنفى المحلاوى كتاب شامل عن معارك أم كلثوم السياسية والفكرية والفنية يروى فيه الكثير من الجوانب الخفية عن حياة كوكب الشرق تدرك بعد أن تقرأه أن حياتها لم تكن سهلة، وأنها كانت تواجه صعوبات يعجز عن مواجهتها أكثر الرجال شجاعة وصبرا.. عندما كانت صغيرة عرض عليها «العمدة» كل ثروته ليتزوجها بشرط أن تترك الغناء، ومارس العمدة عليها وعلى أسرتها الضغوط لكى تخضع ولكنها صمدت وأفلتت من قبضة العمدة، وفى سنة 1939 اشتعلت ثورة الشعب الفلسطينى ضد الغزاة الصهاينة، وأقامت أم كلثوم حفلاً خصصت إيراده لتمويل هذه الثورة، وواجهت المشاكل بسبب ذلك. وفى سنة 1945 أقامت حفلاً لتمويل جامعة الدول العربية وتأييد فكرة إنشائها، وحضر الملك فاروق هذا الحفل مع عدد من الملوك والزعماء العرب، ولم تسلم من المكائد بعد هذا التألق، ولكنها وجدت نفسها فى مأزق ليس من السهل الخروج منه عندما تقررت إقامة حفل زفاف أسطورياً لزواج الأميرة فوزية - شقيقة الملك فاروق - من ولى عهد إيران محمد رضا بهلوى الذى أصبح شاه إيران بعد ذلك، لكن الملكة نازلى - أم الملك فاروق القوية المتسلطة التى كانت سيدة القصر فى ذلك الوقت - قررت أن تسير أم كلثوم فى الزفة أمام العروسين وبين الراقصات لأداء الأغانى المعروفة فى هذه المناسبة.. وحاولت أم كلثوم إقناع رجال القصر باستعدادها لإحياء الحفل، ولكنها لا تستطيع أن تسير فى «الزفة» والتى تقوم بذلك مغنية من فرق أخرى، ولم تنجو من هذا الفخ إلا بعد أن استعانت بصديقها أحمد حسنين باشا رجل القصر القوى وعشيق الملكة نازلى الذى استطاع إقناع الملكة نازلى بأن هناك من يغنى فى «الزفة» أحسن من أم كلثوم. وفى حفل كانت تغنى فيه أم كلثوم فوجئ الحاضرون بدخول الملك فاروق وجلوسه إلى جانب أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى وارتجلت أم كلثوم تحية للملك فى أغنيتها، وبعد أن انتهت من الغناء طلب الملك إعلان قراره بمنحها وسام الكمال الذى يعطيها لقب «صاحبة العصمة» ويجعلها مساوية فى البروتوكول لأميرات الأسرة الملكية، وأثار ذلك ثائرة الأميرات حتى أن إحداهن أعلنت فى الصحف أنها سوف ترد الوسام الذى منحه لها الملك، وتبعها عدد من الأميرات وزوجات رؤساء الوزارات، وأصيبت أم كلثوم بصدمة جعلتها تنطوى على نفسها إلى أن زارتها فى بيتها السيدة صفية زغلول «أم المصريين» وهنأتها بالوسام الذى جعلها مساوية لأميرات أسرة محمد على وحملت إليها أيضاً تهنئة سعد باشا زغلول زعيم الأمة.. وارتفعت بذلك معنويات أم كلثوم واستعادت ثقتها فى نفسها وفى مكانتها.
مشروعات زواج فاشلة
وكان من نصيب أم كلثوم أن تخوض تجارب زواج فاشلة لأسباب شخصية أو لأسباب سياسية، كان شاعر الشباب أحمد رامى يذوب عشقا فى أم كلثوم، ولكنه كان شاعرا رومانسيا يجد فى أم كلثوم ملهمته بقصائد وأغان خلدتها أم كلثوم بصوتها، وظل رامى على حبه لأم كلثوم حتى بعد أن تعثر مشروع زواجهما، وتزوج هو سيدة أخرى كانت تعلم أن قلبه معلق بأم كلثوم، واعترفت بذلك فى أحاديث صحفية بعد رحيل رامى وأم كلثوم، وفى سنة 1946 طلب منها شريف باشا صبرى الزواج على أن يكون زواجاً سرياً، وهو شقيق الملكة نازلى وخال الملك فاروق، وتدخلت الملكة نازلى بنفسها للضغط عليها، ولكنها استخدمت كل ما لديها من حيل للإفلات من هذا الحصار، وبعد ذلك عرض عليها الكاتب الكبير مصطفى أمين الزواج، ووفقا لما يذكره حنفى المحلاوى أن أم كلثوم ومصطفى أمين كانت بينهما قصة، ويقول إنها وافقت على هذا العرض، ويلمح إلى أنهما تزوجا فعلاً، والمعروف أن أم كلثوم ساهمت بدور كبير فى تمويل ومساندة دار أخبار اليوم وذكر مصطفى أمين أكثر من مرة أنها قدمت مجوهراتها رهنا فى بنك مصر مقابل قرض لأخبار اليوم وأن طلعت حرب - رئيس بنك مصر - رفض رهن المجوهرات ومنح القرض لمصطفى أمين تقديراً منه لأم كلثوم وللمشروع الطموح الذى يسهم فى تطوير الصحافة المصرية. وكانت أكبر مفاجأة فى يوم 7 ديسمبر 1946 حين أعلنت أم كلثوم قرارها بالزواج من الموسيقار محمود الشريف وهو متزوج من أخت محمد عبد المطلب ويصغرها بثمانى سنوات وكانت فى ذلك الوقت نقيبا للموسيقيين ومحمود الشريف وكيلا للنقابة، واستمر هذا الزواج ثلاثة أشهر، وقالت أم كلثوم إنها كانت فترة خطبة فقط، لكن محمود الشريف كتب فى مذكراته يقول:(كانت هناك قوى لا أعرفها وقفت ضد هذا الزواج وحاربته، وبصراحة وقفت السراى ضد هذا الزواج) وتذكر الدكتورة نعمات أحمد فؤاد أن شريف باشا صبرى - خال الملك فاروق - ذهب إلى أم كلثوم ومعه بهى الدين باشا بركات - خال سعد زغلول - وذكّرها بأنها تحمل لقب «صاحبة العصمة» وهذا يجعل زواجها مرهونا بإرادة الملك وأنها ليست حرة فى اختيار من تتزوجه، ويذكر محمود الشريف أنه تزوجها فعلا لمدة ثلاثة أشهر لكن أم كلثوم أبلغته بعدها بأن مصطفى أمين قال لها إن الملك فاروق ضد هذا الزواج، وإذا استمرت مع محمود الشريف فسوف يتخلصون منه (!) وظلت أم كلثوم دون أن تتزوج حتى عام 1954 بعد زوال الحكم الملكى، وبعد أن تعرضت لمرض ونصحها الأطباء بالزواج كشرط لازم للعلاج فتزوجت الدكتور حسن الحفناوى أستاذ الأمراض الجلدية المشهور الذى كان معجباً بأم كلثوم وملازما لها.
معارك بعد الثورة
كانت أم كلثوم تعرف عددا من الضباط الأحرار قبل الثورة، لأنها فى عام 1948 كان لها موقف وطنى لمساندة هؤلاء الضباط وقواتهم وهم محاصرون أثناء حرب فلسطين فى الفالوجا وعراق المنشية، وكانت تتسرب منهم رسائل إليها يطلبون فيها أن تغنى فى الإذاعة المصرية أغانى معينة يعتبرونها رسائل تأييد لرفع روحهم المعنوية، وكانت تستجيب لهم. وعندما أعلن قيام الثورة كانت أم كلثوم فى إجازتها السنوية فى رأس البر، فقطعت الإجازة وتوجهت إلى مجلس قيادة الثورة لتنضم إلى المؤيدين للثورة، ولكن بعض رجال الثورة كانوا يعتبرونها من «العهد البائد» لأنها غنت للملك فاروق وللبشوات وحصلت منه على أعلى وسام، فمنعوا أغانيها من الإذاعة، وقرروا أن تكون ليلى مراد هى مطربة مصر الأولى بديلاً عن أم كلثوم، واختاروا ليلى مراد لتطوف البلاد فى «قطار الثورة» لتغنى للدعاية للثورة وسط الجماهير، كما اختاروها للغناء فى أول حفل بمناسبة عيد الثورة.
ولهذا الموقف بداية قبل الثورة فقد رشحت أم كلثوم نفسها لمنصب نقيب الموسيقيين فى عام 1951 وكانت تفوز بالمنصب بالتزكية ولا يرشح أحد نفسه أمامها اعترافا بمكانتها، لكن هؤلاء الضباط الأحرار - الذى كانوا نشيطين قبل الثورة أيضاً - اقنعوا الموسيقار عبد الوهاب بأن يرشح نفسه لمنافسة أم كلثوم فما كان منها إلا أن أعلنت انسحابها واعتزال الفن واعتكفت فى بيتها.
ولأن الشعوب العربية تساءلت: أين أم كلثوم؟ فقرر عبد الناصر إعادة إذاعة أغانيها، واعتبرها أقوى سلاح لتأييد الثورة، وحين احتاجت لإجراء عملية جراحية دقيقة أمر بسفرها إلى أمريكا وطلب من أنور السادات أن يكون فى وداعها رسميا حتى سلم الطائرة..
ولا تزال لمعارك سيدة الغناء العربى فصول أخرى!