الشبـاب والسياسة
جميع المسئولين دون استثناء ورؤساء الجامعات وكثير من أصحاب الأقلام يرددون كل يوم أن ساحة العمل السياسى مفتوحة أمام الشباب، ويزيدون على ذلك دعوتهم للشباب لممارسة العمل السياسى، ويقولون إن اشتغال الطلبة بالسياسة فى داخل الجامعة ليس ممنوعا، وأن الممنوع هو النشاط الحزبى وليس النشاط السياسى، ومع ذلك فإن الشباب المصرى فى الجامعات وغيرها انصرف عن السياسة، ومعظمهم لم تعد له اهتمامات بالقضايا العامة ويهتمون بالكمبيوتر والإنترنت والفضائيات وتبديد الوقت والطاقة فى لا شىء!
لماذا وصل الشباب إلى هذه الحالة؟ وهل يمكن إعادة الشباب إلى الاهتمام بقضايا وطنهم، وهى قضايا مهمة، بل هى قضايا مصيرية؟
فى بحث علمى فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية أجاب أفراد العينة حين سئلوا عن أسباب عدم انضمامهم إلى الأحزاب فقال 27% منهم إنه لا يفهم شيئا عن هذه الأحزاب ولا يشعر بأهميتها، وقال 22% إنه يفضل عدم الدخول فى الحياة السياسية (ربما لأنهم رأوا أن ذلك هو طريق السلامة) وقال 8% إنهم يعتقدون أن مبادئ وبرامج الأحزاب (جميعا) مجرد شعارات، وقال 5% بصراحة إنهم يرون أن ممارسة السياسة أو الاهتمام بها غير مأمون العواقب!
وتحليل هذه النتائج يكشف لنا الكثير عما يفكر فيه شبابنا الآن، كما يكشف عن إهمال وربما عجز وقصور. أو فلنقل بصراحة فشل أجهزة رعاية الشباب الحالية والسابقة، والنتيجة أننا نشكو الآن من قلة أعداد المشاركين فى الانتخابات ولم يزد عددهم على 25% من المقيدين فى الجداول الانتخابية. ومعنى ذلك أن ثلاثة أرباع المواطنين الذين لهم حق الانتخاب لا يريدون ممارسة هذا الحق، وقد انعكست هذه الحقيقة على إجابات أفراد العينة فى هذا البحث، فقد سئلوا إن كانوا قد اشتركوا فى انتخابات الرئاسة رغم أهميتها البالغة كخطوة تاريخية فى الحياة السياسية المصرية فأجاب 59% منهم بأنهم لم يشاركوا، وقال 40% إنهم شاركوا، وقال 8% إنهم لا يشاركون فى أية انتخابات لأنهم يرون أن أصواتهم لن تغير شيئا من النتائج، وقال 3% فقط إنهم يعتقدون أن الانتخابات جميعها ليست نزيهة.
هذا هو حصاد ثلاثين عاما من الحياة الحزبية والتعددية، وبعد أن وصل عدد الأحزاب فى مصر إلى 24 حزبا (فى الحقيقة لا أحد يعرف العدد بالضبط) وهذه الحقائق تتصادم مع ما يتردد فى التصريحات من أن الحياة الحزبية هى جوهر الديمقراطية وأن المشاركة السياسية هى حجر الزاوية لاستقرار النظام السياسى وأنها ضرورة لا غنى عنها لنجاح مشروعات التنمية والتقدم، ولا بد أن نبدى الدهشة- رغم أن أحدا لا يبدى الدهشة- من أن تكون حال الأحزاب بهذه الدرجة من الضعف والبعد عن اهتمامات المواطنين عموما والشباب بصفقة خاصة، مع ما يظهر على السطح من صخب سياسى وحزبى يحسبه المراقب اهتماما عاما فى المجتمع، ثم ها هو يتبين أنه زخم متصاعد وساخن على السطح فقط، وربما على صفحات الصحف فقط.
من الواضح أن هناك حاجة ملحة لمراجعة علاقة الدولة بالأحزاب بعد فترة الجدل الواسع الذى أثارته فئة من النخبة واتهمت خلاله الدولة بوضع قيود على حركة الأحزاب، بينما يؤكد المسئولون فى الدولة أن القصور يكمن فى عدم شعبية تلك الأحزاب وغيابها عن قضايا المجتمع وعن النزول إلى الجماهير والتفاعل معها، والاكتفاء بالزعيق فى الميكروفونات والاجتماعات المحدودة داخل مقار الأحزاب أو خارجها، ويوجه الحزب الحاكم الدعوة كل يوم إلى كافة الأحزاب القائمة لإعادة النظر فى بنائها الداخلى وممارساتها وعلاقتها بالدولة وبحزب الأغلبية وبالجماهير، ويكرر الحزب الحاكم هذه الدعوة فى كل مؤتمر من مؤتمراته وفى كل مناسبة، ولا أحد يعرف إن كان عدم الاستجابة يرجع إلى عجز هذه الأحزاب أم إلى عدم تقدم الحزب الوطنى بمبادرة تؤكد جدية هذه الدعوة.
ومن الأمور التى تدعو للحيرة أن هذا العجز الذى تعانى منه الأحزاب يحدث فى مناخ سياسى يشهد قدرا من التطورات المفروض أن تدفع فى اتجاه تعزيز سبل المشاركة السياسية عبر الأطر المؤسسية ومن خلال الأحزاب، ومن أهم هذه التطورات تعديلات الدستور، وليست هناك وثيقة أهم وأخطر من الدستور الذى يمثل الإطار السياسى والقانونى الملزم لجميع سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
أما عن تفسير هذا الانصراف الغريب عن العمل السياسى والسياسى فإن البحث يحدد بعض النقاط التى تستحق التأمل ومنها مثلا:
أولا: استمرار ميراث من القيود أمام الأحزاب القائمة والأحزاب التى تحت التأسيس على الرغم من تعديل بعض القوانين المتعلقة بمباشرة الحقوق السياسية وقانون الأحزاب السياسية بدرجة تسمح بالقول باحتمال تشجيع المواطنين على المشاركة فى النشاط السياسى.
ثانيا: إن الانتخابات البرلمانية تصاحبها ظواهر من العنف والبلطجة وتدخل الأمن، تدفع المواطنين إلى الابتعاد عن المشاركة، ويضاف إلى ذلك ما يراه المواطنون فى الانتخابات من الرشاوى واستخدام المال لشراء الأصوات، والاعتماد على العصبيات العائلية بما يعنى أن الانتخابات ليست قائمة بين أحزاب وبرامج وسياسات، وأنها تتجاوز دور الأحزاب بحيث يكون تأثير الأحزاب هامشيا فى المعارك الانتخابية، لأن الناخب لا يعطى صوته لفلان لأنه مرشح حزب كذا، ولكنه يعطيه صوته لأنه فلان ابن فلان من عائلة كذا أو من بلد كذا أو لأنه دفع كذا أو لأنه يمارس الضغط والإرهاب عن طريق البلطجية الذين يستأجرهم، ويضاف إلى ذلك أن نسبة من أفراد العينة قالوا إنهم يرون عدم وجود إمكانية لتداول السلطة وأن الحزب الوطنى سيظل فى السلطة لأنه الحزب الأقوى الذى يعتمد على الدولة ومؤسساتها.. وهذا رأيهم وقد يكونون فى ذلك متأثرين بما ينشر فى بعض الصحف من تقارير وآراء حول هذه الفكرة.
وأعتقد أن للحقيقة وجها آخر، وهو غياب الثقافة السياسية فى المجتمع المصرى، على الرغم مما يقال فى ندوات التليفزيون وفى الصحف وفى اجتماعات حزب الأغلبية. والثقافية السياسية التى أقصدها ليست مقصورة على الالمام بالنظريات والمبادئ السياسية، ولكنها أوسع من ذلك وتشمل الثقافة بمعناها الواسع، فالثقافة الدينية فى المجتمع المصرى تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر وهذا ما يقصده أصحاب شعار تجديد الخطاب الدينى، ولكنه مازال حتى الآن مجرد شعار.. وكذلك الثقافة العلمية الغائبة، فالاهتمام بالعلوم وإنجازاتها ومتابعة الجديد فيها والتفكير بأسلوب علمى، هذه أمور غائبة عن معظم الشباب المصرى، والسبب هو تدهور نظام التعليم الذى لا يهدف إلى تكوين العقل وفتح الآفاق أمامه للتفكير والانطلاق والإبداع بحرية، ويعمل بقوة على إغلاق نوافذ الإبداع فى العقل وتعويد الشباب على التكرار والسطحية وترديد ما فى الكتاب المدرسى دون فهم حقيقى ومناقشة وتحليل لما فى هذا الكتاب، ومثل هذه الثقافة التى أقصدها هى التى تجعل الشباب قادرا على فهم العصر ومواكبة التقدم العلمى والمعلوماتى المذهل الذى يتحقق فيه، وهى التى تجعل الشباب يؤمن بأهمية تعبير الكلمة عن الواقع، وارتباط القول بالفعل، لأن التدهور فى تاريخنا العربى لم يحدث إلا عندما انفصلت الكلمة عن الفعل، وهانت الكلمة وتحولت إلى ثرثرة عقيمة لا تؤثر فى الحياة، وليست لها فاعلية فى الواقع، ولا تغير شيئا، ولا تضيف شيئا، فهى مجرد كلمات فى الهواء.
الثقافة السياسية التى أقصدها هى الثقافة التى تحقق الربط فى عقول الشباب بين ماضينا وحاضرنا ومسئوليتنا عن العمل لتطوير الواقع، وعدم الانسياق وراء عادة تكرار الحديث عن أمجاد الماضى والوقوف عند هذا الحد، دون التحرك بعده إلى رسم طريق لاستكمال السير والتقدم للبناء لما بعد هذا الماضى، فالماضى صنعه أجدادنا وآباؤنا، فماذا نصنع نحن؟ الأمر الذى يدعو إلى القلق أن يقتصر حديث الكبار إلى الشباب عن رجال عظماء وأمجاد كبرى من الماضى دون أن يجعلوا ذلك مدخلا لحفز الشباب للعمل لاستعادة هذه الأمجاد والتأسى بنماذج الرجال العظام الذين تمتلئ بهم صفحات الشرف فى التاريخ العربى.. أعتقد أن التوقف فى الحديث عند أمجاد الماضى فقط يستهلك الطاقة فى حديث لا يدفع حياتنا خطوة إلى الأمام، ويشدنا فقط إلى الماضى دون أن يفتح أمامنا الطريق للسير لبناء تاريخنا نحن.. لبناء تاريخ كل إنسان منا.. وبناء تاريخ أمتنا.. وأخشى أن يكون لهذا الجمود والتوقف عند مفاخر الماضى تأثير المخدر على احساس الشباب فيشعروا بالفخر والاعزاز بما لم يحققوه هم ولم يصنعوه ولكن صنعه غيرهم، والاعتياد على ذلك خطير، لأن متطلبات ومعارك الحاضر تحتاج إلى اليقظة والانتباه وجسم العالم العربى يتم اقتطاع أجزاء غالية منه، والضغوط والتهديدات تحيط بالجميع، والمستقبل ينتظر منا أن نعمل بمنتهى الجدية وإلا ضعنا فى الزحام. والعولمة غول إما أن نتعامل معه وإما أن يبتلعنا.
الثقافة التى يحتاج إليها الشباب اليوم هى الثقافة التى تقيم جسورا بين الدين بمفاهيمه الصحيحة- بعيدا عن الخرافة والتطرف والانحراف- وبين الحياة بحيث لا يشعر الشاب بأن ثمة تعارض بين الدين والحياة، أو بين السعى للدينا والسعى للآخرة، هذا التوافق بين الدين وحقائق الحياة المعاصرة بما فيها من علوم وتكنولوجيا وأفكار ونظم سياسية واجتماعية جديدة، هو الذى يحقق التوازن بين أصالة الماضى ومتطلبات الحاضر، فالدين عقيدة وعبادات وأخلاق ومعاملات وإطار عام للسلوك اليومى، وفى الحياة حركة وتطور دائمان، وأمور متجددة تحتاج إلى التعامل معها بعقل مفتوح، وفى مثل هذه الأمور جاءت توجيهات الدين مجملة وترك الله للبشر أن يختاروا لأنفسهم تطبيقها وفقا لتطورات حياتهم.
والقضية تحتاج إلى أن تنشغل بها مؤسسات الدولة والجامعات ومراكز البحث والإعلام.. قضية الشباب والسياسية.. أى قضية مستقبل الشباب ومستقبل السياسة.