حكايات عن أم كـلثـوم
مازلت أذكر جنازتها المهيبة وقد احتشد ما يقرب من مليون شخص حملوا نعشها وظلوا يطوفون به شوارع القاهرة ولم تستطع قوة أن تسترد النعش إلا بعد ساعات طويلة. ويومها كتبت «وجهة نظر» بعنوان «عفوا أم كلثوم» أعاتب فيها الذين فعلوا ذلك ورأيته لا يليق بمقام «الست»، ولكن الاستاذ على حمدى الجمال- رئيس تحرير الأهرام وقتها- اقنعنى بعدم نشرها وقال لى: الناس تحبها وأرادوا أن يكرموها على طريقتهم ويطوفوا بها انحاء القاهرة التى أحبتها، وعبّروا عن مشاعر الحب والحزن فى العالم العربى كله، وعلينا أن نحترم هذه المشاعر!
أسمعها اليوم بنفس الشعور حين كنت أسمعها منذ أكثر من نصف قرن.. كل مرة أشعر أنها اول مرة أسمع فيها هذه الأغنية.. أمامى أكداس من الشرائط التى تحمل صوتها المعجزة والكتب التى صدرت عنها.
وأجملها كتاب الدكتورة رتيبة الحفنى عميدة معهد الموسيقى السابقة وابنة الدكتور محمود الحفنى رائد الموسيقى فى مصر وكان أقرب الأصدقاء لأم كلثوم. وفى كتابها حكايات.. وتحليل.. وتاريخ.. وطبعا كتاب صديقى الراحل محمود عوض الملئ بالقصص والأسرار.
كان أبوها الشيخ إبراهيم البلتاجى مؤذن القرية (قرية طماى الزهايرة)، ولدت ليلة القدر (ليلة 27 رمضان) سماها أبوها باسم أم كلثوم بنت النبى عليه الصلاة والسلام. بحث العقاد طويلا عن معنى كلمة «كلثوم» وأخيرا استقر على أنها تعنى فى الأصل «الراية الحريرية» التى كان يرفعها المقاتلون فى حروبهم فى شبه الجزيرة العربية. حفظت أجزاء كثيرة من القرآن فى «الكتّاب». وقالت فى مذكراتها التى كتبها على أمين: «بعد أشهر من التحاقى بالكتّاب سمعت أبى يهمس لأمى عقب صلاة الفجر- أنا مش قادر ادفع مصاريف أم كلثوم، ما عنديش غير قرش واحد أدفعه للولد (خالد) ولكنه استطاع بعد ذلك أن يدفع القرش لتبقى أم كلثوم فى الكتّاب. وتقول: كثيرا ما كان «سيدنا» يأمرنى وبعض زميلاتى أن نذهب لنساعد زوجته فى تنقية الحبوب وقبل أن ننصرف نغافلها ونعيد ما جمعناه من الطين إلى الحب، وفى الصباح يضربنا سيدنا «بالمقرعة» وتروى فى مذكراتها حكايات كثيرة عن «شقاوتها» فى طفولتها. وكان أخوها «خالد» يسهر مع والده ليغنى معه فى الموالد، ولكن صيتها بدأ يلمع فى القرية بعد ان غنت فى بيت شيخ البلد فى حضرة عدد من الرجال فأصبحت تغنى مقابل قرش أو قرشين، وبعدها أرسلوها إلى مدرسة السنبلاوين فكانت تسير على قدميها كل يوم خمسة كيلومترات ونصف ذهابا وإيابا وفى «الفسحة» كانت تذهب إلى بيوت الجيران القريبين من المدرسة لتغنى للزوجات والبنات وتحصل على خمسة أو عشرة مليمات إلى أن سمعها مرة القاضى «على بك حسين» وكان من محبى الغناء فذهب إلى والدها فى قريته ليقول له إن حنجرة هذه «البنت» كنز لا يعرف قدره.
وفى بيت «شيخ البلد» وقفت الطفلة أم كلثوم على «دكة» لتغنى، وتقول فى مذكراتها «لم أشعر بخوف أو رهبة رغم أننى أخاف اليوم من الجمهور وأعمل له ألف حساب». وبدأ الوالد يصطحب أم كلثوم لتشارك معه بالغناء ويسير بين القرى مع فرقته على الأقدام ويحمل كل منهم الطفلة بالتناوب، وبدأت العائلات الكبيرة ترسل فى طلبها لتغنى فى الحفلات والأفراح، وتنقلت من مديرية إلى مديرية، وفى سنة 1915 وارتفع أجرها إلى مائة وخمسين قرشا، فاشترى والدها حمارا تركب عليه، وعلق فى رقبتها خرزة زرقاء منعا للحسد، وبعد سنة زاد الايراد فاشترى والدها حمارين له ولابنه خالد. وتقول: «مسحت بقدمى الصغيرتين القطر المصرى قرية قرية قبل أن أضع قدمى فى القاهرة!
ولعبت المصادفة دورها حين ذكر «عز الدين يكن» من أثرياء القاهرة لناظر عزبته أنه سيقيم احتفالا بليلة الإسراء والمعراج فى قصره بحلوان وقال له ناظر العزبة «عندنا بنت صوتها حلو قوى» وهكذا سافرت مع والدها والبطانة مع ناظر العزبة لأول مرة إلى القاهرة. وصعدت «البنت» على «كنبة» لتغنى واستعادها الحاضرون مرات عديدة.. وتروى فى مذكراتها أنها فى ليلة قارسة البرد اضطرت هى والفرقة إلى المبيت فى «زريبة البهايم» فى البيت الذى غنوا فيه. وتقول عن هذه الليلة: اتخذت من كومة قش فراشا وغطاء وكان يجاورنى جمل ضخم فلم استطع النوم مخافة أن «يرفسنى». وكانت فى هذه المرحلة من عمرها تلبس ملابس الصبيان لأن والدها كان يخشى التقاليد التى تعتبر ظهور البنت أما الرجال عيباً، وامها تخشى عليها من «الحسد». وظلت أم كلثوم تحتفظ بملابس هذا العهد إلى آخر يوم فى حياتها وتتفاءل بها، وقالت: «لقد دعكتنى هذه السنوات وصقلت موهبتى وعلمتنى أن الطريق أمام من يريد الوصول طويل.. طويل».
موهبة وجدت من يرعاها
رغم صغر سنها كانت تختار كلمات الموشحات الدينية من المؤلفين فى السنبلاوين والدقهلية، وأحيانا من تأليف والدها، وكانت تمتاز بإحساس شديد ببلاغة اللغة العربية بسبب حفظها القرآن، فكانت تغير فى كلمات القصيدة وعندما أصبح عمرها 15 سنة أصبحت تؤلف القصائد والموشحات بنفسها ومنها مثلا موشح تقول فيه: «صل يارب وسلم. ع النبى بدر التمام. يا حبيبى يا محمد. أنت مصباح الظلام.. أنت مطلوبى فهب لى. نظرة لو فى المنام» وكانت نقطة التحول فى حياتها حين استمع الشيخ محمد أبو العلا إلى صوتها وكان أشهر مطربى العصر واقترح أن تنتقل إلى القاهرة، وفى القاهرة تعلمت من الشيخ أبو العلا الكثير، وعن طريقه عرفت الشاعر أحمد رامى، وكان رامى يحب الغناء وأم كلثوم تحب الشعر وتعلمت على يديه أوزان الشعر ومعرفة الفرق بين بيت الشعر «المكسور» والبيت الصحيح. وحين مات الشيخ أبو العلا لم يشيعه من أهل الفن سوى أم كلثوم واستاذ الكمان سامى الشوا. تقول: علمنى الشيخ أبو العلا أن أفهم الكلام قبل أن أحفظه وأغنيه.
وفى حفل بقصر آل عبد الرازق غنت أم كلثوم أمام عدلى باشا يكن، وعبد الخالق ثروت باشا، وعلى ماهر باشا، واستاذ الجيل لطفى السيد. وسمعها الموسيقار مدحت عاصم فبدأ يهتم بها. وفى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى سادت مصر الأغانى الهابطة بكلماتها المعبرة عن الانحلال والإسفاف الذى أصاب المجتمع والذوق العام فى ظل الفساد والاحتلال وظهور طبقة أغنياء الحرب، ولم تساير أم كلثوم هذا التيار وظلت تغنى قصائد رامى وإسماعيل باشا صبرى وأمثالهما. وفى ليلة تعرضت لمستمع مخمور يشهر فى وجهها مسدسا ويطالبها بالتوقف عن الغناء «الغم» وأن تغنى أغانى «الفرفشة» لكنها لم تساير موجة الهبوط وظلت تغنى القصائد مثل:
«وحقك أنت المنى والطلب» و «أحب بين يديك سفك دموعى» و «غيرى على السلوان قادر» و «الصب تفضحه عيونه» وفى سنة 1926 كونت أول «تخت» من أشهر العازفين وغيرت ملابسها من «بالطو وكوفية وعقال» إلى ملابس حديثة، وانتقلت من السكن فى شارع قوله فى حى عابدين إلى عمارة بهلر بالزمالك، وانتظمت فى إقامة حفلاتها يوم الخميس الأول من كل شهر على مسارح سينما فؤاد، والبسفور، وحديقة الأزبكية، ورمسيس. وفى هذا العام تعاقدت معها شركة اسطوانات «أوديون» بأجر مائة وخمسين جنيها لكل اسطوانة. وأصبح والدها يدير أعمالها ويتعاقد باسمها ويقبض ما تتقاضاه ويعطيها مصروفها ويوفر الباقى وبذلك تمكنت من شراء مائة وخمسين فدانا فى قريتها زادتها بعد ذلك إلى مائتى فدان، وقامت ببناء بيت من طابقين أقام فيه والدها إلى أن توفى عام 1932. وافتتحت أم كلثوم بصوتها محطة الإذاعة المصرية عام 1934 وتعاقدت معها الإذاعة على إحياء حفلين فى الشهر مقابل خمسة وعشرين جنيها عن كل حفل على أن تغنى فى كل حفل وصلتين وكل وصلة نصف ساعة. وفى سنة 1936 ارتفع أجرها إلى أربعين جنيها ثم إلى خمسين على أن تكون كل وصلة أربعين دقيقة.. ثم قدمت أول حفل مذاع لها بمسرح دار الأوبرا فى يوم 7 يناير 1937.. وذاع صيتها فى مصر ولم يعد لها منافس.
وفى كتاب الدكتورة رتيبة الحفنى الكثير من الحكايات عن أم كلثوم خلاصتها أن النجاح لا يتحقق مصادفة، ولا يتحقق بسهولة، والعبقرية وحدها لا تكفى، ولابد لها من الجهد الشاق والتفرغ التام الذى يصل إلى حد الرهبنة.. وبالجهد والجدية صارت أم كلثوم معجزة العصر، وكروانة مصر، وأميرة الغناء، وكوكب الشرق، ثم سيدة الغناء العربى. ولم تستطع «فقاقيع» الغناء، وطفيليات الموسيقى أن ينالوا من مكانها العالى فى العالم العربى.. أم كلثوم عبقرية لم تتكرر على مدى قرن من الزمان.. وستبقى للقرون القادمة!