رؤية نجيب محفوظ للثقافة والمثقفين
ما زالت فى أوراقى وجهات نظر نجيب محفوظ فى قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية، كتبها بخط يده، وترك لى اختيار ما ينشر منها وما تتجاوزه الأحداث، وكان حريصا كعادته على أن يترك لدى ما يكتبه إدراكا منه لطبيعة الصحافة التى تحرص على نشر ما يتصل بالموضوعات والأحداث الجارية والتى تكون بطبيعتها ضمن اهتمامات القارئ.
وقد وجدت بين الأوراق خطابا كتبه لى كاتبنا الكبير يقول فيه: (أصبح لديكم عدد من وجهات النظر تجمعت منذ مدة غير قصيرة وقد تكون الأحداث تجاوزتها فارجو التكرم بإعادة ما ترونه يستحق إعادة النظر إلى مكتبى بالأهرام).
وبالطبع لم أعد إليه شيئا مما كتبه لأن كل ما يكتبه عملاق الأدب العربى نجيب محفوظ مهم، وكل ورقة كتبها لها قيمة تاريخية، وكل فكرة نشرت أو لم تنشر سوف تفيد الدارسين لأدبه وشخصيته، ومن يعرف قيمة كاتب كبير مثل نجيب محفوظ لا يجود الزمان كثيرا بمثله لابد أن يحتفظ بكل كلمة أتاحت له الظروف أن يحتفظ بها، وأن يحفظ عنه كل كلمة قالها لأنها سوف تكون مادة للتحليل فيما بعد عندما يتفرغ مؤرخو الأدب لتحليل هذه الشخصية النادرة.
وآراء نجيب محفوظ عن الثقافة والمثقفين تدور حول محاور منها: أن الثقافة العربية عموما والمصرية على وجه الخصوص (متوعكة) على حد تعبيره، وتعانى من متاعب وعقبات، وإذا قيل إن التليفزيون لجاذبيته وشعبيته طغى على الثقافة الجادة، فإن ما خسرته الثقافة الجادة الممثلة فى الكتاب بسبب التليفزيون تستطيع أن تعوضه بالتليفزيون نفسه، وحين نتغلب على الأزمة الاقتصادية سيعود إلى الثقافة قدر كبير من توازنها المفقود، أما العقبة التى لا يصح الاستهانة بها فهى تأثير الآراء المتطرفة على الشباب التى جعلتهم يكرهون الثقافة، ومن هنا فإن المثقفين لهم دور فى مناقشة وتحليل فكر التطرف، والتصدى لآرائه، وتشخيص هذا الفكر من النواحى الاجتماعية والنفسية والاجتهاد فى اقتراح العلاج المناسب له.
ونجيب محفوظ يرى أن الإنتاج الفنى والأدبى والفكرى سوف يستقل عن أجهزة الدولة عاجلا أو آجلا، وسوف يخضع هذا الإنتاج للمواهب أولا، وللجمهور ثانيا، وللسوق ثالثا فى جو من الحرية دون قرارات مفتعلة، لكن ذلك لا يعنى اختفاء الدولة، لأن الدولة سيظل لها دور مؤثر وفعال مهما تكن درجة استقلال الفن والثقافة عنها، والواجب أن يبدأ المثقفون بعرض مطالبهم المعلقة مثل إعادة النظر فى القوانين الخاصة بحرية الفكر، ومثل إزالة العقبات المالية والجمركية التى تعوق التبادل الثقافى، وتشديد العقوبة على جريمة التزوير للكتب والسطو على المكتبة الفكرية، ويقترح نجيب محفوظ إنشاء مؤسسة عربية تابعة للجامعة العربية للترجمة من وإلى اللغة العربية.
هكذا نرى أن نجيب محفوظ كان مهموما بكل قضايا الثقافة وهموم المثقفين.
ولم يكن فى برج عاجى لا يرى منه إلا شخصيات رواياته، كما تصور البعض حين لاحظوا عدم انخراطه فى الأنشطة الثقافية أو السياسية، ولم يكن ذلك انعزالا أو ترفعا ولكن كان حرصا على التفرغ للكتابة والتأمل ومعايشة الواقع والناس، وكان يقول لمن يسأله عن ذلك: لست ممن يجيدون المشاركة فى النشاط العام، ولكنى حريص على المتابعة وكل ميسر لما خلق له.
وهذه بعض وجهات نظره:
<U>عن الثقافة</U/>
ما أسمعه عن حال الثقافة لا يسر، وهو يقال ويؤكد بما يشبه الإجماع ونريد هذه الأقوال أن تنطبق على الأدب والمسرح والسينما والموسيقى. فحق لى أن أصدق ما يقال وأن أتساءل عن أسباب ذلك، هل توجد أسباب تبرر التدهور الثقافى؟
تذكرت حال التعليم فى الفترة الطويلة الماضية، لم يعد لدينا المدرسة اللائقة ولا المدرس اللائق، واكتظت الفصول بالتلاميذ، واختفت التربية أو كادت، فلا مكتبة ولا مجلة ولا أنشطة لكشف المواهب، لم نعد نهيئ الجو الصالح لاكتشاف المبدعين من ناحية وتدريب المتلقين من ناحية أخرى. ضربنا الابداع والتذوق فخلت الساحة من الرونق والماء، وتهاوت إلى الجفاف، ومن أجل ذلك فنحن نتابع أبناء ثورة التعليم بكل اهتمام ورجاء.
تذكرت أيضا سطوة التليفزيون واستحواذه على العقول والأفئدة، إنه يقتنص العديد من جمهور الكتاب ليضيفهم إلى الملايين من جمهوره، كما يقتنص الكثيرين من الكتاب فيتحولون من الأدب إلى خدمة جهازه الساحر مستمتعين بما يهب من شهرة ومال، وطبعا نحن لا ننكر إنجازات التليفزيون وخدماته، ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل أثره على الفن العميق كذلك.
تذكرت أيضا إساءات الأزمة الاقتصادية والبطالة، والأفكار المتطرفة فهى جميعا تناصب الثقافة العداء.
الصورة كما نرى كالحة، ولكنها لا تدعو لليأس، إنها مرتبطة بخطط التنمية الشاملة وبالتحديات التى تواجهنا، وعلينا أن نصبر على الكرب قليلا ولكن الحياة الجديدة آتية لا ريب فيها.
<U>هموم ثقافية</U/>
الثقافة تمر بفترة متوعكة، هذا ما يقال كلما دار الحديث حولها، لم لا؟.. ألا توجد أزمة عامة ملموسة فكيف تفلت من قبضتها الثقافة؟.. والدولة تواجه الأزمة بالتنمية الشاملة والخطط الخمسية المتتابعة، وللثقافة فى ذلك نصيب تجلت آثاره فى ظواهر مبشرة أقربها إلى الذاكرة نجاح مجلات إبداع وفصول والقاهرة، ولكن ذلك لا يمنع من أن نذكر كلمة عن متاعب الثقافة لعلها تلخص بعض ما يقال، فهل توجد عقبات عامة فى طريق الثقافة بصرف النظر مؤقتا عن التفاصيل التى تخص كل مجال ثقافى على حدة.
الحق أن أول ما يشار إليه هو التليفزيون لجاذبيته التى لا تقاوم وشعبيته الكاسحة التى بفضلها أصبح المصدر الأول للامتاع والإعلام والارشاد والثقافة الميسرة، والتليفزيون ليس سلبية عارضة، ولكنه تطور علمى وحقيقة عصرية، لذلك لا يجوز أن يفكر عاقل فى محاصرته، ولكن يجب العمل دائما على التوافق معه وايجاد السبل للتعاون بلباقة وذكاء مما يعود على الناس بالخير والنفع فى سبل امتاعه وإعلامه وإرشاده وثقافته، وقد أدى فى ذلك عملا جليلا للمتعلمين والأميين على السواء ومازالت الفرص متاحة للمزيد، وأنا على يقين من أن ما خسرته الثقافة الجادة الممثلة فى الكتاب بسبب التليفزيون تستطيع أن تعوضه بالتليفزيون نفسه.
وثمة عقبة ثانية، هى الأزمة الاقتصادية، وهى حال يجب أن تزول، كما يجب ألا نتراخى فى مقاومتها، ويوم نتغلب عليها سيعود إلى الثقافة قدر كبير من توازنها المفقود، أما ونحن نعانيها (الأزمة الاقتصادية) فهى لاشك عقبة ثقيلة غليظة فى سبيل الانتشار الثقافى، ولعل فى نشر المكتبات وتجديد دار الكتب ما يمكننا من التخفيف من وطأة هذه الأزمة.
وأيضا توجد عقبة ثالثة لا يصح الاستهانة بها، وهى تأثير الآراء المتطرفة على الشباب فى هجومها على الفنون والآداب والفكر، واستقطابها فى ذلك للعديد من الشباب الذين كرهوا الثقافة تأثرا بها، ولعله من المفيد ألا يخلو الحوار الدائر مع هؤلاء الشبان من الدفاع عن الفن والثقافة والفكر.
على كل من يهمه بناء الإنسان وتكوينه ألا يفوت فرصة للدفاع عن الثقافة، والعمل ما وسعه ذلك على ازدهارها.
<U>فى جو الثقافة غيم</U/>
كما أن جونا الطبيعى يكدره التلوث، فجونا الحضارى والثقافى تطبق عليه الخرافة والتعصب والخوف من الحرية والمغامرة والانطلاق، لم يعد لصوت العقل وزن، ولا للابداع فتنة وسحر، ولا تتسع الصدور لرأى مخالف وفكرة جديدة، إننا نمضى من اختناق إلى اختناق ويكاد يصيبنا الشلل والموت، وتلاشى ما بذلته أجيال وأجيال من جهود صادقة لبناء الفرد والمجتمع.
عندما أعود إلى فترة الصبا والشباب أعود إلى فترة متألقة بالحرية والانطلاق الحضارى والثقافى بالرغم من أن الجو السياسى كأن يتأرجح بين الديمقراطية والدكتاتورية، بين التقدمية والرجعية، بين حكم الشعب وحكم الملك، ولكن الانطلاق الثقافى والحضارى لم يكن يوقفه شىء.
قد توجد حكومة رجعية، ولكن الرأى العام كان مع التقدم والحرية، وكان يكتسح أى آراء أو دعوات رجعية، كان أعلى الأصوات أصوات طه حسين والعقاد وسلامة موسى والمازنى وهيكل وعلى عبدالرازق ومصطفى عبد الرازق، وأقوى الدعوات لحرية المرأة والرأسمالية الوطنية وحكم الشعب والعلم والصناعة والحداثة والقيم الخالدة فى تراثنا، وكان عصر المعارك الفكرية بين الشعر التقليدى والشعر الحديث، والنثر التقليدى والنثر الحديث، بين أنظمة الحكم المتناقضة، بين الإلحاد والإيمان، بين التزمت والتحرر، ولم تخرج المعارك عن إطار الفكر والحوار حوار بين مفكرين وتابعيهم من الناشئين ولا دور فيها للشرطة أو الإرهاب.
ماذا جرى اليوم؟
العجيب أننا نحظى اليوم بحرية فى المجال السياسى غير مسبوقة فى قوتها واستمراريتها، لا رقيب من ناحية الحكومة ولا رقابة، ولا تحرش بالفكر والثقافة. ولكن نضب معين التسامح بين الناس وبعض المؤسسات أصبحوا يفضلون الاحتكام إلى القوة والبطش عن الاحتكام إلى العقل والحوار، على حين أن الاحتكام الحقيقى لا يكون فى مجال الفكر إلا للفكر، ولا ينجم عن البطش إلا إرهاب المفكرين وتعطيل قوى الإبداع، فضلا عن الإساءة الظالمة إلى الدين وسمعته على مستوى العالم، لا خوف على الدين من الحرية، لعل العكس هو الصحيح، ولقد قيل فيه كما قيل عنه كل ما يمكن أن يقال، وضاع فى الهواء كل قول مغرض أو حاقد وبقى الدين راسخا فى النفوس ويزداد مع الأيام قوة ورسوخا.
لا خوف على الدين، ولا يعوزنا الإيمان، ولكن تعوزنا الشجاعة للتصدى للحياة.
<U>الاستقلال الثقافى</U/>
ترى هل تطورت علاقة الدولة بالثقافة بما يناسب التحول الجارى من الشمولية إلى الحرية فى السياسة والاقتصاد؟
فى مجال السينما تحرر الإنتاج من زمن غير قصير وأنشئت دور عرض خاصة قليلة، والنشاط المسرحى الخاص يكاد يستأثر بالسوق، أما الكتاب فمجاله متوازن بين الهيئة ودور النشر الخاصة، مع ملاحظة أن المجلات الأدبية تلقى صعوبة غير معقولة ولا مبررة للموافقة على إصدارها.
مهما يكن من أمر فسوف يستقل الفن والأدب والفكر عن جهاز الدولة عاجلا أو آجلا، سوف يخضع الإنتاج الفنى والأدبى والفكرى من ناحيتى الكم والكيف للمواهب والجمهور والسوق، ثم يتطور ويستقر من خلال الصراع المعهود بين المثل العليا، والمتطلبات التجارية، فى جو من الحرية دون قرارات مفتعلة.
لكن هذا لا يعنى اختفاء الدولة، فسيظل لها دور مؤثر وفعال مهما تكن درجة استقلال الفن عن الدولة.
الدولة فى بلادنا هى المهيمنة على المعاهد الفنية والأدبية التى تؤسس دراسة الفنون والآداب على أسس علمية وهى المسئولة عن الآثار حفظا وإصلاحا وترميما، وهى التى ترصد الجوائز التشجيعية والتقديرية لاكتشاف المواهب وتقدير الإنتاج الراسخ، كما أنها يجب أن تعين النقابات بما فيها اتحاد الكتاب لتساعدها على أداء رسالتها.
وقد تسهم بالإعانة والاقراض لبناء المسارح ودور العرض والاستديوهات، فضلا عن دورها التشريعى لسن قوانين لحماية الفكر والفن والإعفاء من الضرائب، وتجريم التزوير وإزالة معوقات التصدير والاستيراد أمام مستلزمات الإنتاج الثقافية، إلى واجبها التقليدى فى المشاركة فى المهرجانات وإقامتها.
وحتى إذا نهض المستنيرون من رجال الأعمال للاسهام فى ذلك النشاط الكبير فسيظل للدولة دور لا غنى عنه، ولكن لن يتاح للفن والأدب والفكر حياة طبيعية حرة حتى يستقل عن وصاية الدولة.
<U>خدمة للثقافة</U/>
أصدر الأستاذ حسين مهران رئيس هيئة قصور الثقافة (فى ذلك الوقت) قرارا بتشكيل أربع لجان لمتابعة مهرجان القراءة للجميع بالأقاليم.
نشر ذلك فى 5/8/1992 فنرجو أن تكون اللجان قد بدأت نشاطها الذى سيغطى الجمهورية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، بذلك نضمن النمو والاستمرارية للمهمة الجليلة التى نهضت بها ورعتها السيدة حرم رئيس الجمهورية، والتى نعدها من أهم المشروعات الثقافية إن لم تكن أهمها جميعا بالنظر إلى مركز الكتاب كمصدر أول للإشعاع الثقافى.
والحق أننا رحبنا بالمشروع غاية الترحيب وتابعنا خطواته باهتمام فائق، وسايرنا أخباره من افتتاح مهرجانه وتدشين مكتباته، ودعوة كل قادر على دعمه ونشره بكل ما يملك من حماس وطاقة.
كنا نتابع ذلك بسعادة غامرة مؤمنين بأنه نشاط بارع صادق لبث الروح فى الحياة الثقافية وتعهدها على المدى القصير والطويل بالرعاية والعناية، والتصدى بقوة لسلبيات كثيرة اعترضت مجرى حياتنا الروحية فى السنوات القريبة الماضية، وكنا نشفق أشد الاشفاق من أن يقتصر الحماس على الحفلات والكلمات الطيبة، ثم سرعان ما تهبط الحرارة ويتلاشى الحماس ويرجع كل شىء إلى أصله.. ولنا فى السوابق شواهد تشكك فى جدية الندوات واللقاءات والحفلات التى تتردد فيها الشعارات وتصدر التوصيات ثم ينتهى كل شىء وكأنه لم يكن.. ولكن الحق أيضا أن أملنا هذه المرة تعلق بصاحبة المشروع، فهى سيدة مثقفة تحب الثقافة وتؤمن بها وتعرف لها خطرها فى بناء الفرد والأمة، وهى لن تترك فكرتها السامية لتتلاشى فى قبضة البيروقراطية والسلبية السائدة.
وها هى ذى اللجان الأربع تتكون كأدل بشير بالجدية، ولا يداخلنى شك فى أنها قد وجدت لتعمل وتحقق أهدافها، لتفتش على الوحدات القائمة وتزويدها بما ينقصها من الكتب، ولتعمل على نشر المكتبات بالاستعانة بالجهات الرسمية والأهلية وتقترح كل ما يتراءى لها لمضاعفة النشاط وبث الحيوية.
أرجو أن يكون لكل مشروع خير ذاكرة، ولا تنى الذاكرة عن التذكر والإبداع والعمل.
<U>عن دور المثقفين</U/>
يتساءلون عن دور المثقفين فى التحديات التى تواجهنا وفى مقدمتها الإرهاب، وفى تصورى أنه لا توجد قاعدة تخص المثقفين وحدهم دون بقية الفئات.. بل توجد قاعدة عامة واحدة تنطبق على الجميع، ويمكن تلخيص تلك القاعدة فى الكلمات الآتية:
إن كل مواطن مطالب بأن يؤدى واجبه كاملا فى نطاق إمكاناته المتاحة.
هذه هى القاعدة التى تصح مع الجميع من أميين ومتعلمين بلا ثقافة، ومتعلمين مثقفين ومتخصصين فى الثقافة والفكر، فكل مطالب بأن يؤدى واجبه كاملا فى حدود إمكاناته، الأمى بحسب تدريبه، والمتعلم بحسب تعلمه، والمتعلم المثقف بحسب علمه وثقافته، والمثقف المتخصص بحسب ثقافته عمقا وشمولا، وكل ما تضيفه الثقافة إلى التدريب والعلم أنها تهيئ فرصا لخلق وعى بأبعاد الواجب الاجتماعية والإنسانية..
بعد ذلك التمهيد الذى لابد منه نرجع إلى السؤال الأصلى عن دور المثقفين، والحق أن دور المثقفين حيال التحديات وفى مقدمتها اليوم الإرهاب هو حلقة فى سلسلة متكاملة من الأداء الوطنى، يبدأ أول ما يبدأ بالدفاع الأمنى لأنه إذا كان ثمة جريمة فلا تردد ولا تأجيل فى التصدى لها حماية للأرواح والاستقرار والحياة والآمنة.
ثم يجئ دور الدولة فى علاج الأسباب العميقة للظاهرة، وذلك من خلال خططها الاصلاحية الهادفة للتنمية الشاملة، ونركز هنا بصفة خاصة على مكافحة البطالة، ومحاربة الفساد ومقاومة الغلاء واِلإصلاح السياسى.
وأخيرا وليس آخرا يجئ دور الثقافة لمناقشة التطرف وتحليل فكره والتصدى لآرائه وأساليبه وتشخيصه من النواحى الاجتماعية والنفسية والاجتهاد فى وصف العلاج المناسب، وكما توفر للثقافة وسائل التعبير من صحافة وإذاعة وتليفزيون ومؤتمرات- كانت أقدر على إبلاغ رسالتها وتحقيق أهدافها، وربما تجاوز دور المثقف ذلك على حساب استعداده الشخصى، فيشارك فى الحياة العملية السياسية والاجتماعية، ولا يجوز أن ننتظر رأيا واحدا عند المثقفين، فهم يمثلون جميع الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية والفلسفية والفنية، وتتعدد آراؤهم ومواقفهم تبعا لذلك.
<U>حول حرية الرأى</U/>
الحرية ثمرة جهاد الأحرار، لا تجئ نتيجة لوجود المجتمع الحر، ولكنها هى التى تخلق المجتمع الحر،وهى تخلقه من خلال جهاد مر دام لم يكف يوما- قديما وحديثا- عن تقديم الشهداء والضحايا وهل اطلت الأفكار الجديدة المتحدية إلا فى عصور الظلام ومحاكم التفتيش؟ وهل كان التفكير الحر إلا صنو التعرض للهلاك المبين؟ فلا خوف على الحرية ما وجد المفكرون الأحرار، ولا خوف على الحرية مادام حمل المفكرون أمانتهم وأدوا واجبهم ولم يرهبهم المصير.
ولا عذر لصامت أو متراجع أو متردد اعتلالا بفساد المناخ وسطوة التقاليد وتشدد القوانين وتمادى الإرهاب، فقد يوجد هذا وأكثر منه، وقد يؤيد بالخرافات من كل نوع، ولا بأس من النقد لكل انحراف والحملة على كل سلبية ومهاجمة الرجعية فى مكانها جميعا، لا بأس من ذلك..بل يجب ألا نسكت عنه أو نتهاون فيه، ونعتبره من أهدافنا التى لا نحيد عنها، هذا مطلوب.. بل هو واجب ولكنه لا يعنى أن نؤجل التفكير الحر أو نتراخى عنه أو نضن عليه بالتضحية الواجبة، المجتمع يتحرر لا بتغيير قوانينه وتقاليده، ولكن قوانينه وتقاليده تتغير بالتفكير الحر، وبفضل مفكريه الأحرار.
ولا تقدم فى العلم أو الفلسفة أو الفن بغير الفكر الحر، الفكر الحر بمعناه الصادق، أى الذى يسعى بكل سبيل نحو الحقيقة لخير البشرية وتقدمها، ولن أقف أمام الأفكار المنحرفة التى تفتعل للإثارة أو التجارة أو لفت النظر، وهذه لا تحتاج إلى قوانين تؤدبها.. بل إلى أفكار صحيحة ترد عليها وتكشف زيفها.
خلاصة القول، فإن مجتمعنا فى حاجة إلى الحرية، وتحقيق مطلبه بيدنا رغم كل شىء.
<U>الماضى والحاضر فى عالم متغير</U/>
فى يوم الاثنين 3/8 اطلعت فى صحفنا على عنوانين مهمين، الأول عن أحياء مصر الإسلامية وما تعانيه هياكلها، وآثارها من أحوال متردية، وكيف تحولت إحدى بوابات مجدها التاريخية إلى مقلب قمامة، والثانى عن انعقاد مؤتمر ثقافى لبحث الثقافة العربية فى عالم الغد المتغير والاتفاق على ميثاق يلتزم به المثقفون، هكذا اجتمع البكاء على الأطلال مع التطلع إلى المستقبل فى وقت واحد، وبالحق والصدق فإننى لم أحظ من العنوانين إلا بالكآبة.
لا أدرى كيف أدافع عن أحيائنا الأثرية، فقد قيل فى ذلك كل ما يمكن أن يقال، فضلا عن ذلك فإنى ابن من أبنائها، نعم بملاعبها فى ربوعها الطيبة فى زمن كانت تكنس فيه فى النهار الواحد مرتين، وترش مرتين، وتنضح جوانحها بعبق الماضى المجيد، ماذا يحدث لها اليوم، ماذا أصابها فى العصر الذهبى للسياحة؟.. وهل تغنى فى الدفاع عنها لغة الاقتصاد؟.. أم حسبنا حنين الذكريات؟
أما المؤتمر الثقافى فقد انعقد، والقيت كلمات طيبة كالعادة، وأعلن الميثاق وانفض السامر وأسدل الستار، أى ثقافة، وأى عالم متغير! الثقافة هى الثقافة، هى الإنتاج أولا وأخيرا.. والعالم لا يكف عن التغيير ولا الثقافة تكف، وأما الميثاق فهل كان ينتج المبدعون ويفكر المفكرون دون ميثاق وإن لم يعلن فى مؤتمر؟.. هل كانوا يهيمون فى الضلالة حتى هلَّ عليهم الميثاق بنوره؟. وأى قوة تحمل مبدعا على الالتزام بغير ما يوحى إليه به ضميره.
أفهم أن يجتمع المثقفون لعرض مطالبهم، وما أكثر المطالب المعلقة، ومن أمثلة ذلك إعادة النظر فى القوانين الخاصة بحرية الفكر، إزالة العقبات المالية والجمركية التى تعرقل التبادل الثقافى، تشديد عقوبة التزوير، التبادل الثقافى من خلال المعارض والزيارات، إنشاء مؤسسة على مستوى الجامعة العربية للترجمة من وإلى اللغة العربية، تقوية ساعات البث الإذاعى والتليفزيونى فى مجال الثقافة، إنشاء لجنة دائمة من وزارات الثقافة والإعلام والتربية فى البلاد العربية لموالاة الثقافة بالرعاية والعناية.
وأعتقد أنه توجد مطالب ثقافية أكثر من ذلك، وهى جديرة بالندوات والمؤتمرات حقا.
<U>دور المتلقى فى عالم الثقافة</U/>
رأيى دائما أن المتلقى هو المسئول الأول عن أى نهضة ثقافية، المتلقى يمثل القاعدة العريضة التى ينطلق منها القارئ والمشاهد والسامع إلى ذلك العالم السعيد الرفيع الذى نسميه الثقافة، هو الأساس وجميع ما عداه توابع تعتمد فى وجودها عليه، وعليه قبل أى شىء آخر.
علينا خلق المتذوق للثقافة والعاشق لها، والقادر على التعامل معها فكرا ووجدانا ورؤية، ووسيلة تربيته ميسورة ومجربة لدرجة فيما سبق من تاريخنا، لنسميها التربية الثقافية، وكانت تتمثل فى مكتبة المدرسة ومجلتها وأنشطتها الفنية المختلفة. وقد تبدأ التربية فى البيت، ولكن ليست كل البيوت بمؤهلة لذلك، فليكن الاعتماد على المدرسة بمراحلها المتتابعة، ويجب أن تكملها وتتناغم معها أجهزة الإعلام من إذاعة وتليفزيون ومجلات وصحف، وأن قيامنا بهذا الواجب يمكن أن يمدنا كل عام بالآلاف من محبى الثقافة والمتطلعين إليها فى شتى مظانها، وسرعان ما تتكون قاعدة ثقافية تضمن بوجودها الحيوية والازدهار للفكر والثقافة، وتغرى بتقديم الحلول للمشكلات التى نعتبرها مستعصية، إن وجودها يمثل قوة جذب للإِبداع والمبدعين، والنقاد، والناشرين وأكبر مشجع للاستثمار فى مجالات بناء دور العرض السينمائى والمسارح والمعارض، كما أنه يعيد للفكر والأدب قيمتهما فى الصحف وأجهزة الإِعلام.
الحقيقة أن المتلقى هو أساس السوق الرائجة، والسوق الرائجة أساس الازدهار لكل فرع من فروع الثقافة.
أجل ستظل للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عواقبها السيئة، ولكن القاعدة المتينة تستطيع أن تصمد حتى تنقشع الزوابع.
..
هكذا كان نجيب محفوظ.. صاحب فكر وفلسفة ومواقف.. ولم يكن روائيا عظيما فقط.. وهذه الجوانب للعظمة والعبقرية تحتاج إلى دراسات جادة لإعادة اكتشاف عبقرية نجيب محفوظ.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف