نجيب محفوظ مازال يتكلم!


فى أوراقى الكثير من كتابات بخط يد نجيب محفوظ كان قد أرسلها إلىّ للنشر فى زاوية وجهة نظر فى الأهرام وحين عدت إليها وجدتها وكأنها مكتوبة اليوم وموجهة إلينا تعليقا على الأحداث الجارية الآن على الرغم من أن تاريخ كتابتها يرجع إلى الفترة بين عام 1990 وعام 1993، وقد ترددت كثيرا فى نشرها ولكن الكاتب الكبير الأستاذ رجاء النقاش أقنعنى بضرورة نشرها لأنها جزء من إنتاج كاتبنا الكبير وليس من حقى أن أحجبها، وقد نشر بعضها فى العدد الماضى، وهأنذا أقدم بعض ما لدى وسوف أواصل تقديم الباقى إذا وجدت متسعا لذلك.
ووجهات النظر هذه المرة نتعرف منها على حلم نجيب محفوظ لمصر وللعرب فى بداية عام جديد، وما يطلبه من الرئيس مبارك وخواطره حول الإرهاب والفتنة الطائفية، وخطيئة صدام حسين، وغير ذلك كثير، ومن خلال هذه الرؤى نرى كيف يستشرف العبقرى المستقبل، وكيف يمتلك القدرة على أن يخاطب الأيام القادمة، وتظل كلماته حية متجددة، وهكذا يبقى العبقرى بيننا- حيا- متدفقا بالحياة والحيوية.
ونرى أننا يجب أن نعيد قراءة نجيب محفوظ ونعود إليه دائما، لأن عطاءه مستمر، وصوته سيبقى صادقا مدويا بكلمة الحق وضمير الإنسان العظيم المخلص لوطنه وللإنسانية.
وها هى ذى كلماته.. نجيب محفوظ لا يزال يتحدث إليكم!
<U>عام جديد</U/> سنة طيبة وكل عام وأنتم بخير، بدأ عام جديد من الحوادث التى تدعو إلى التفاؤل والثقة فى الخير، رغم الزلزال والإرهاب والأخطاء الفادحة علينا أن نشحذ إرادة الحياة، ونقوى دوافع الثبات والنصر، لنستمد من تقلبات الحياة العبر، ومن التاريخ الدروس والأمثال، ولنقل رغم الزلزال والإرهاب والأخطاء الفادحة: سنة طيبة وكل عام وأنتم بخير.
لم لا؟.. حتى فى أيام العسر والظلمات سمعنا صوتا يبشرنا بانخفاض التضخم، ويبشرنا لأول مرة بزيادة معدل التنمية على معدل الزيادة السكانية، سمعنا أيضا يطمئننا إلى أن نهضتنا تعتمد على السلام وحسن العلاقات مع الدول جميعا، كما تعتمد على العلم والكنولوجيا.
وفى العام الجديد تشرق علينا فى مطلعه آمال جديدة لا غنى عنها..
أمل فى أن يتحقق السلام الشامل العادل فى شرقنا العربى مما يتيح لنا القضاء على أسلحة الدمار الشامل والتفرغ للتنمية.
أمل فى أن يتجاوز العرب خلافاتهم المتبادلة ليعنوا بمصالحهم المشتركة.
أمل فى تحويل التعاون بين أمم العالم الثالث من عالم الأحلام إلى عالم الحقائق.
أمل فى أن نعالج الإرهاب كما ينبغى لنا، وأن نزيل عن وجه حياتنا السياسية تجعداته المتوترة.
أمل فى أن يكون العام الجديد عام الديمقراطية وحقوق الإنسان..
لم لا؟
لقد بلونا المر، وذقنا السم من الحروب والاستبداد والفقر والتعصب، فليس من الغريب أن نتطلع إلى السلام والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
<U>نشيد العام الجديد</U/>
ماذا نقول عن العام المنقضى إذا التزمنا بتصديق كل ما قيل وما حدث؟
أعنى أنى أريد أن ألخصه مستندا إلى الأقوال الرسمية باعتبارها صادرة عن المسئولين المفترض فيهم الصدق، والواجب علينا تصديقهم، ومستندا أيضا إلى الواقع والمشاهد باعتبارها حقائق لا يمكن إنكارها أو تجاهلها.
فنحن نؤمن بالنوايا الطيبة التى تكنها الدولة نحو الديمقراطية، ونصدق بأنها تتلهف على الوقت المناسب لتبلغ بها غاية الكمال.
ونصدق أن اقتصادنا قد تقدم، وأن خطوات إصلاحه قد استحقت تقدير العالم، وأن عام 1995 سيكون عام الحصاد والرخاء.
ولا نشك فى أن حركة ثورية تقوم فى ميدان التعليم نتمنى لها النجاح بكل قلوبنا، ونصدق أن الحكومة قد أحكمت قبضتها على الإرهاب، وأنه سيتم القضاء عليه بعد أن هتكت جميع أسراره.
ونصدق جميع ما قيل عن إنجازاتنا فى كل المجالات من إنتاج وخدمات.
ولكن لا مفر أيضا من التسليم بما تنبئ به الوقائع.
فكثرة كبيرة من المصريين تعانى من المعاناة من الحياة وما تلقاه فيها من ألوان الشدة مثل الغلاء وتلون الماء والهواء وبعض ما يؤكل والزحام فى المواصلات وسوء المعاملة فى المستشفيات والمصالح الحكومية، وافتقاد الأمن وتتابع حوادث الإرهاب، وصدمات أنباء الفساد والبطالة وما يرويه ضحايا المحسوبية من ظلم منكر.
فياله من عام، أو ياله من عصر جمع بين أجمل النوايا والإنجازات من ناحية، وأنكر الجرائم البشرية من جهة أخرى.
ومهما يكن من أمر فلنستقبل العام الجديد برجاء فى الخير لن يخيب بإذن الرحمن الرحيم.
<U>حسن الرجاء</U/>
بداية الفترة الثالثة فى حكم الرئيس حسنى مبارك.
تهنئة على الفوز ولعله لا يوجد خلاف على شخصه، ولا على المنزلة التى يحتلها فى القلوب، وما موقف المعارضة إلا موقف سياسى يعرب عن الرغبة فى التغيير والحث على الإصلاح، ومضاعفة الحزم فى مواجهة الواقع.
ولكننا لا نقنع بالتهنئة ولا نقف عند حدودها، ولا ندع الفرصة تمر دون أن نعاود التذكير بما يجيش فى صدورنا من رغبات وآمال وأمانى.
إن الرئيس يبدأ خطاه الجديدة بعد ممارسة فترتين مليئتين بالأحداث والتجارب، حدثت إنجازات كثيرة ولاشك واعترضت عثرات خطيرة، وتراوحنا بين مواقف النبل والشجاعة، ومواقف الكوارث الطبيعية والبشرية، فيجب أن نكون اليوم أقرب إلى الحكمة والسداد وتحقيق الآمال والأمانى.
ولو أننى استرسلت فى تسجيل المطالب لملأت صفحات وصفحات، فضلا عن أنها أصبحت محفوظة من طول تردادها ومعاناة الناس منها، فلأكتفى بذكر أمهات المسائل التى أعتقد أنها ستفرض نفسها فى الفترة القادمة.
أولى هذه المسائل هى الديمقراطية باعتبارها المدخل لكل إصلاح.
وثانيتها المشكلة الاقتصادية التى يجب أن يقترن حلها الحقيقى بتحسن حال الفقراء وأشباه الفقراء.
وثالثتها تحديد الموقف من التيار الإسلامى وكيفية التعامل معه، وهو أمر شديد الارتباط بالمسألة الأولى.
ورابعتها تخص موضوعا يكاد يغيب عن البال رغم ارتباط وجودنا به، أعنى استكمال مشروع السد العالى فلا يمكن أن نمضى معه فى نطاق الفعل ورد الفعل. وحقا أننى لم أنس أمورا ملحة مثل الفساد والبطالة والإرهاب ولكنها جميعا أعراض ونتائج.
<U>مراجعة شاملة</U/>
يندر أن تجد قلبا مطمئنا هذه الأيام، يندر أن تجد شخصا راضيا عن يومه ومؤملا خيرا فى غده، وقد صدمنا الإرهاب ولاشك، ولكنه ليس مشكلتنا الوحيدة، وهناك رغبة صادقة فى إعادة النظر فى كل شىء، وهى ناشئة عن إحساس بأن أشياء كثيرة قد تجاوزها الزمن وأفرغها من أى مضمون، نعم ليس الإرهاب بمشكلتنا الوحيدة، فعلى سبيل المثال لا الحصر مازال الخلاف قائما حول الإصلاح السياسى والإصلاح الاقتصادى، ومازال كثيرون يفسرون تعثر الإصلاح الاقتصادى بنقص فى الجوانب السياسية، هل نستطيع أن نحرر الاقتصاد بأيد تربت ونمت وازدهرت فى الشمولية؟.. ونطالب بالاستثمار وتشجيعه فى الوقت الذى ترتفع فيه الشكوى من عراقيل مازالت قائمة فى سبيل الاستثمار، بالإضافة فدستورنا وضع لزمن مضى. أما زماننا الحاضر فلا دستور له.
وعالمنا الخارجى لم يعد بالصفاء الذى كانه الزمان العربى يحتاج إلى ترميم طويل أو إعادة بناء، وما حصل من توتر فى العلاقات بين مصر والسودان، وبين مصر وإيران يحتاج إلى حكمة ثاقبة ومساع حميدة.
نحن فى حاجة إلى إعادة نظر فى كل شىء، إلى قراءة الواقع قراءة صحيحة إلى مواجهة الحقائق بشجاعة، إلى بناء سفينة تصلح لمواجهة أى طوفان.
وثمة بوادر تدعو للأمل فأقلام رصينة تحبذ التغيير، وأخرى تتحدث عن ائتلاف، وثالثة عن حوار ووساطة رشيدة، هذه بشائر تسر نرجو لها التوفيق وأن تتسع لتشمل كل شىء، وأن تفسح المجال أمام المخلصين من أبناء هذه الأمة ليبدعوا نهضة حقيقية تجمع بين أسمى المبادئ الخالدة وأحدث أساليب العصر.
<U>فلنصنع العالم الجديد</U/>
النظرة العامة تدعو للاكتئاب، ما يحدث فى البوسنة وما وقع فى الصومال، والضربة الأخيرة التى تلقاها العراق كل أولئك يدعو إلى الاكتئاب، ويتهم المسلمون ميزان العدل الدولى، ويكشفون عن نية سوء مبيته ضد الإسلام والمسلمين، ويثور الغضب ويحتدم ولكن تنحسر موجاته الفائرة عن تبرعات هنا أو هناك وسخرية مريرة، مما بشروا به يوما وسموه بالعالم الجديد.
والحق أننا لم نعرف سلوكا دوليا جديدا إلا لدى التجاوب مع مصلحة الأقوياء، ولكن لعل النظام الجديد لم تستقر معالمه الجديدة نهائيا، ولعل غده يكون خيرا من يومه، ولكن هل يقتصر دورنا على الانتظار؟
إنى أتصور أن العالم سيرحب بمن ينوى المشاركة الصادقة فيه، من يعتبر نفسه خلية فى جسده ووظيفة من وظائفه مهما يكن حجمها. من يحترم مبادئه العامة ويسهم رغم خصوصيته فى سيمفونيته الكاملة، الذى يحاول الإعطاء بقدر ما يأخذ أو نظير ما يأخذ، الذى يثبت أنه جزء حضارى لا يستغنى عنه، أو فى الاستغناء عنه خسارة يؤسف لها.
لتكن لنا خصوصيتنا ولكن هذا لا يعنى أن نناقض المجموع أو نضاده، أو نسير عكس اتجاهه، إن الخصوصية نغمة مميزة تزيد من جمال الأنغام المتقابلة، ولكن لابد من التوجه نحو روح العصر:
1-نحو الديمقراطية كأسلوب حكم وأسلوب حياة.
2-نحو العلم كمنهج ووسيلة للكشف عن الحقائق والتعايش معها.
3-نحو احترام حقوق الإنسان كمناخ صالح للتعارف والتعايش.
علينا أن نفعل ذلك وأكثر منه لنسهم فى خلق العالم الجديد لا أن نقنع بالانتظار تحت مظلة الحسرات.
<U>لا يقع إلا الخائب</U/>
يثار من حين لآخر كلام عما دبر للرئيس صدام حسين لجره للحرب كى تتمكن الدول التى غررت به من ضربه والقضاء على قوة العراق، ونحن لم ننس ما قيل عن الحديث الشهير الذى جرى بين صدام وسفيرة أمريكا، ولا ما يقال عن بيع أسلحة متطورة للعراق، ومواد تدخل فى تركيب الأسلحة النووية والكيماوية لتشجيعه على الحرب من جهة، ولتستعمل كأدلة لاتهامه من ناحية أخرى.
ولست أبغى تحقيقا فيما يقال، ولا دفاعا عن نوايا أحد، فلنسلم بأن ما يقال صحيح تماما، وبأن كل دولة كبيرة لها رؤيتها فى السياسة الخارجية، وأنها تسعى لتنفيذها بكل وسيلة غير متورعة أحيانا عن تدبير المكائد، والتغرير بالخصوم، ذلك شأنها وهى أدرى بمصالحها ولا نملك منعها أو تهذيبها أو تأديبها.
ولكن لماذا تقع الدول الصغرى فى الشرك؟. وهل يغفر لها قصر نظرها وغفلتها؟.
كونها دولا صغيرة لا يعنى بالضرورة أن تكون دولا حمقاء أو غبية، وإن وقوعها فى الشرك يعنى أن المهيمن على شئونها قاصر أو غبى وغير أهل للمكان الذى يشغله، كما يشير إلى وجود خلل فى نظام حكمها يجعله فريسة سهلة لكل صائد.
ولذلك فمن المدهش حقا أن يعتبر قوم صدام حسين ضحية تستحق العطف على حين أنه ما هو إلا غبى مقصر يستحق العقاب المضاعف ولا يعفى شعبه الذى بايعه على الزعامة من المسئولية.
ولكيلا تتكرر تلك المأساة فعلى الشعوب أن تختار حكامها من الاكفاء القادرين على النجاة بالسفينة وسط العواصف والأنواء، وعلى الشعوب أيضا ألا ترضى بغير الديمقراطية بديلا، فهى النظام الذى تتوافر فيه الشورى، وحرية الرأى والنقد واحترام حقوق الإنسان والاختيار الحر فى رحاب تكافؤ الفرص، فتسلم الأمة من الاستبداد وتوابعه من الكوارث السياسية والهزائم العسكرية.
<U>لصوص ولصوص</U/>
من الأخبار التى اطلعت عليها فى صحفنا خبر يقول إن 90% من قروض العالم الثالث ترجع إلى البلاد الغنية لتودع فى الحسابات السرية للشخصيات البارزة التى تهيمن على البلاد الفقيرة المدينة التعسة، ولعل ذلك الخبر قد تردد أمام ناظرى أكثر من مرة أكثر من صحيفة أو مجلة وعلى فترات متباعدة ومنسوبا لمراجع يحق لها الحديث فى تلك الشئون. وهو خبر يدير الرأس من غرابته ويهز النفس، ويفجر الرثاء والأسى.. وكأن تلك الأوطان لم يكفها ما فعله الاستعمار بها، وما حل بها من فقر وتأخر فابتلاها بشراذم من أبنائها ممن لا خلاق لهم ولا ضمائر، لينهبوها بلا رحمة، ويستغلوها أسوا استغلال، ثم يتركوها كما كانت فقرأ وتأخرا، بالإضافة إلى قيود الديون وذلها.
كيف تولى هؤلاء الأوغاد السلطة فى بلادهم؟.. هل خدعت الشعوب فيهم فأولتهم ثقة لا يستحقونها؟.. هل فرضوا عليها بالقوة والإرهاب؟.. وكيف خلت قلوبهم من أى شعور وطنى أو إنسانى؟.. كيف غلظت وتحجرت حتى تحالفوا مع سوء الحظر على أوطانهم التعيسة؟.
ويجئ أهرام 20 يناير فيطالعنا بخبر مؤداه أن لصين بريطانيين قد أعادوا أطعمة وملابس سرقاها من مخزن فى مقاطعة يوركشير بعد أن علما أنها سوف ترسل إلى بعض الأيتام فى رومانيا، وذكرت مصادر الشرطة أن اللصين تبرعا بعشرة جنيهات واعتذرا عما قاما به من عمل شائن.
خبر غريب أيضا، وبالمقارنة بالخبر الأول ينقض علينا بدهشة لا حدود لها، حقا إن الجميع لصوص، ولكن شتان بين لص ولص، منهم من فقد مع الذمة كل شعور إنسانى، وطفح قلبه، بالأنانية والنذالة رغم موقعه من السلطة والمسئولية، ومنهم من لم يمنعهم فقدان الذمة من بعض من الرحمة والمروءة والشعور بالانتماء إلى الإنسانية..
فإذا ضن الزمان على بعض بلاد العالم الثالث بحكام أمناء فلا يضن عليهم بلصوص من طينة هذين اللصين البريطانيين.
ولنتذكر فى النهاية فضل الديمقراطية فى اختيار الحكام ورقابتهم وعزلهم، ولنتذكر أيضا أن مآسى النهب والسلب قد تمت جميعا فى عصور استبداد وظلام.
<U>مناظرات دينية ومدنية</U/>
تتابعت المناظرات بين أنصار الدولة الإسلامية وأنصار الدولة المدنية، وقد رحبنا بذلك لتوافقه مع روح الديمقراطية التى تفضل الحوار على التعصب والإرهاب، وفى الوقت نفسه وجدنا أن كل فريق رغبة فى الانتصار على الآخر لا يكتفى بتبيان مزايا تصوره السياسى ولكنه أيضا يتصيد نقاط الضعف فى التصور المعارض، فلا تخلو مناظرة من هجوم على الحضارة الحديثة كما لا تخلو من تشنيع ببعض المواقف التاريخية الإسلامية، وخشينا أن يدفع التكرار الفريق الإسلامى إلى سوء ظن شامل بالحضارة الحديثة، كما يدفع المدنيين إلى موقف قريب من ذلك من الإسلام نفسه، وأيضا وجدنا فى الفريقين صفات متقاربة يجب أن تذكر، فكلاهما يؤمن بالحوار والعقل، وكلاهما يدين الأفكار المتطرفة والإرهاب، وكلاهما لا يمكن أن يرفض الحضارة الحديثة بصفة شاملة أو يكفر بالعقيدة الإسلامية من أجل ذلك تمنيت أن يقلع الجانبان عن المناظرة وأن يتلاقيا فى اجتماع موسع لمناقشة هادئة موضوعية للبحث عن نقاط الاتقاء والاجتهاد فى اقتراح دستور يجمع بين المبادئ الإسلامية الثابتة والحضارة الحديثة، ويا حبذا لو ضموا إليهم نخبة من إخواننا الأقباط باعتبار أن الدستور المقترح سيطبق على الجميع، وسوف يجدون مراجع يستضيئون بها، منها على سبيل المثال المتواضع لا الحصر مشروع الدستور الذى قدمه الدكتور حلمى مراد، ورسالة الدكتور كمال أبو المجد وكتاب الأستاذ حامد سليمان (ألغام فى طريق الصحوة الإسلامية).
والحق أن مسافة الخلاف بين الفريقين ليست بالطول الذى يتصوره الكثيرون أنهما يتبادلان سوء ظن لا يقوم على أساس حقيقى، ولو قدم الإسلاميون برنامجا مفصلا لتلاشى أكثر الخلاف إن لم يتلاش كله ولو تراجع الإسلاميون عن اتهام الآخرين فى عقيدتهم لصفا الجو وتهيأ لتفاهم مثمر.
وأنا لا أشك فى أن المدنيين يطالبون بالفصل بين الدولة والحكومة الدينية ذات الحاكم المعصوم، ولكن أحدا لا يستطيع أن يفصل بين الدولة وبين الدين نفسه إلا إذا أرادها دولة بلا قيم ولا أخلاق.
وحتى لو اقترضنا قيام حكم مدنى صرف فلابد أن تصدر قوانينه الوضعية متأثرة تماما بالروح الإسلامية مادام أن المشروعين أنفسهم نشأوا وتربوا فى أحضان ثقافة إسلامية لا يمكن تحدى قيمها الثابتة التى يؤمن بها الشعب.
لذلك أتمنى أن يجتمع الفريقان لتبادل الأفكار والعمل معا بعيدا عن مشاعر الخصومة وسوء الظن، وسعيا وراء وفاق قد ينقذ الصحوة الإِسلامية من محنتها.
<U>غدا يوم آخر</U/>
كيف نعايش العالم الجديد؟
إنه عالم جديد حقا مهما يكن مضمونه، بعد زوال الاتحاد السوفيتى تلاشت صورة قديمة لتحل محلها صورة جديدة، يقول قادة العالم الجديد إنه يقوم على الشرعية الدولية واحترام حقوق الإنسان على حين يعتقد بعض المخضرمين أن العالم القديم مازال قائما فى أهدافه ولكنه يفصح عنها بأسلوب إنسانى جديد.
وأعاود السؤال: كيف نعايش هذا العالم؟
علينا أن نصدق كلمات الخير، فهى عهد والتزام، وألا نتخلى عنها حتى تسفر عن حقيقتها إن تكن لها حقيقة أخرى، هذا خير من المبادرة بسوء الظن الذى لن يجر علينا إلا التورط فى الأخطاء والمشاكل. ومن حسن الحظ أن سياسة العالم الجديد لا تطالب الأمم النامية إلا بالديمقراطية والسلام والتنمية واحترام حقوق الإنسان، وجميعها أهداف طالما تطالعنا إليها دون توجيه أو املاء، وأنه لمن حسن الحظ حقا ألا تتناقض مع مصالح الأقوياء فى العالم الجديد، وقد يحد ذلك من دورنا السياسى والعسكرى، ولكن لا عقبة يمكن أن تعرقل تقدمنا فى مجالات الحضارة الأخرى مثل العلم والثقافة وهى الأهم والأبقى.
وعلينا أيضا أن نوسع من نظرتنا إلى العالم وألا يغيب عن بالنا أنه يجمع بين كبار وصغار وأن مسئولية كل فريق يجب أن تتناسب مع حجمه وعطائه.
ولكن كيف يكون الحال لو تمخض الكلام الجميل عن وجه قبيح؟
حقا نحن لا نملك القوة الرادعة، ولكننا نملك الإرادة والعزيمة والرغبة فى الحياة الكريمة واحترام المبادئ الإنسانية، ونستطيع أن نتكتل فنكون قوة، ونمارس مقاومة سلبية لا يستهان بها، وقد كنا جميعا مستعمرات أو فى حكم المستعمرات، وكنا بلا قوة مادية، ولكننا انتصرنا على أصحاب القوة والحول وفزنا بالحرية والاستقلال.
غير أنى اعترف بأننى مازالت متفائلا ومؤملا خيرا.
<U>كى نعيش حقا فى مجتمع</U/>
إن مطالب الإنسان وأهدافه لا حصر لها، وكلما تقدم فى الحضارة زادت المطالب والأهداف وتعددت وتنوعت، وجملة تاريخ الإنسان هو جملة سعيه وراء تلك المطالب والأهداف وما بذل فى سبيلها من جهد ودماء، فتاريخه الطويل هو تاريخه مع إنتاج الغذاء، وتوفير الأمن، وتحقيق العدل، وغرس روح الفضائل والقانون وطلب المعرفة والعلم والاستمتاع بالفن والثقافة وغيره.. وغيره.
وقد يقوم مجتمع دون تحقيق لبعض المطالب والأهداف أو تأجيلها إلى حين، ولكن لا يمكن تصور وجود مجتمع من غير ركائز جوهرية:
1-العمل لتوفير الغذاء.
2-الأمن لحماية ثمرة العمل من النهب.
3-العدل ولو فى أدنى حدوده لضمان توزيع الغذاء وتكافؤ الفرص.
4-الحرية فى أبسط أشكالها كما تمارس فى الأسرة، والحياة اليومية فى ظل الأمن والقانون.
لا أقول إن ذلك يصلح لتعريف المجتمع الراقى أو الناهض، ولكنه شرط المجتمع البدائى الذى يعنى فقده أو ضعفه أن يفقد المجتمع معناه ومضمونه، ويرجع بنا إلى شراذم الإنسان الأول فى تخبطه تحت رحمة المصادفات والمخاوف.
من الصعب أن أرتب تلك الركائز تبعا لأهميتها، فالحياة لا تسير إلا بها مجتمعة هى التى أنشأت المجتمع البدائى وهى التى نمت بنموه فتضخمت معانيها ومبانيها فأصبح العمل فريضة، والأمن عبقرية، والعدل عقيدة والحرية فلسفة وغاية.
ولا تحسبن أننا نكون قد أنجزنا إنجازا يستحق الفخر إذا حققنا تلك الركائز، ولكننا نكون قد نجونا من العدم، ومهدنا السبيل للحياة فى هذا العصر، عصر التحديات والمغامرات.
<U>اقتراح بانتماء جديد</U/>
لعلى لا أغالى إذا قلت إننا أمة متعددة الانتماءات، وأن ذلك ينذر حينا بنوع من الفوضى، وحينا آخر باللامبالاة.
مصر 1919 آمنت بمصريتها أولا وأخيرا.. كانت نهضتها على أساس من الوحدة الوطنية، وتغنت بالشعار المعروف (الدين لله والوطن للجميع) وكان الانتماء قويا، فسند بكل ثقة ثورتنا الشعبية الكبرى، ولم يعد ذلك على الدين بأى اثر سىء، فظلت مصر مرجع الإسلام والتراث الإسلامى، أما القومية العربية فلم يكن لها من القوة ما كان لها فى بلاد عربية أخرى، واقتصر انعكاسها على أنشطة بعينها مثل الأدب وذكريات التاريخ، كان الأساس المصرى قويا فطوى بين جناحيه الدين والعروبة دون أن يؤثر ذلك فى وضوحه وقوته.
أما مصر 1952، فقد أدركها تغير ملموس، جعلت من القومية العربية هدفها الخارجى الأول، وتجسد ذلك فى الوحدة مع سوريا وحملة اليمن، وكرست أجهزة الإعلام دعايتها لذلك، وتبعتها –أو سبقتها- كتب التربية فى مدارسنا ونشأ فى الوطن فريقان، جيل 1919 الذى لم يفرط فى مصريته حتى فى حال تعاطفه مع القومية الجديدة، وجيل ثورة يوليو الذى انتمى إلى العربية قلبا وقالبا، وقد تلقى ذلك التيار ضربة قاضية بعد 5 يونيو 1967.
عند ذاك، وربما كرد فعل له ظهر انتماء جديد وكأنه المأوى والعزاء، وهو الإسلام السياسى، فكانت الدعوة إلى أن يعود الدين للهيمنة على الحياة كلها، الخاصة والعامة، الداخلية والخارجية، ومن هنا جاء مطلبه بإقامة نظام حكم إسلامى، واصطدم بالنظام القائم فى صراع مازال جاريا محتدما.
ويعاصر هذا الصراع ثلاثة انتماءات قد أشرنا إلى كيفية ظهورها، وهى: المصرى الوطنى، والعربى، والإسلامى، ولعل مهمتنا الحقيقية هى أن نخلق من تلك الانتماءات الثلاثة انتماء أكبر، يحافظ على مكوناتها الأصلية، ويربطها برابطة تكاميلة تزيدها قوة وصلابة بدلا من أن تهدر قواها فى صراعات عمياء.
إنها مهمة الجميع بدءا من رجال التربية وانتهاء برجال السياسة.
***
من يصدق أن هذه المقالات القصيرة كتبها نجيب محفوظ منذ سنوات ليعبر بها عن وجهة نظره فى القضايا والأحداث التى تشغله وتشغل الجميع، وينتظر المثقفون أن يتعرفوا على رأى شيخهم وأستاذهم فى كل قضية وكل حادثة منها، ولم يتردد نجيب محفوظ فى أن يكتب بصراحة بما يرضى ضميره الوطنى وضميره الأدبى.
لكن ما كتبه يبدو وكأنه كتبه اليوم تعليقا على ما يجرى أمام عيوننا.. وهذا هو صاحب العقل الكبير والموهبة والقدرة على أن يتكلم اليوم ليخاطب الغد، ولذلك نقول إن نجيب محفوظ سيبقى حيا بيننا بفكره وأدبه.. لأنه مازال يتكلم.. ومازلنا نجب أن نستمع إليه.. فهو صوت العقل والحكمة والمقدرة على النفاذ إلى العمق والتعبير عن أفكاره بأسلوب سهل، لكنه السهل الممتنع.
ويبقى أن أعود إلى أوراقى وفيها ما كتبه عن الإرهاب والوحدة الوطنية والثقافة والمثقفين.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف