مقالات لم تنشر لنجيب محفوظ
فى الثمانينات (من القرن الماضى) كنت نائبا لرئيس تحرير الأهرام ومسئولا عن صفحات الرأى، وكان أديبنا الكبير الراحل نجيب محفوظ يكتب عمودا كل يوم خميس بعنوان وجهة نظر، وكان يرسل إلى هذه المقالات فى كثير من الأحيان بالجملة ويترك لى حرية اختيار ما ينشر بما يناسب الأحداث الجارية وكان يسمى المقالات الإضافية (المخزون) ويكتب لى من وقت لآخر كلمات رقيقة لاختيارى ما ينشر.
وكنت لا أخفى عنه دهشتى لهذا الانضباط والالتزام بينما كان كثير ممن هم أقل منه بكثير لا يرسلون مقالاتهم إلا فى آخر لحظة، وسألته يوما: هل تعلمت هذا الانضباط فى الجيش؛ فضحك ضحكته المجلجلة المشهورة وقال لى: أبدا.. وأنا لم أدخل الجيش لسوء الحظ.. والمسألة لا تحتاج إلى التربية العسكرية، ولكنى أشعر أن لدى الكثير مما يجب أن أعمله، فأنا أحب الناس ولابد أن أجد وقتا للقائهم، وأشعر معهم بالأنس والتواصل.. وأحب الجلوس فى المقاهى لأنى ألاحظ فيها شخصيات وتصرفات تلفت نظرى وأختزنها فى عقلى.. وأحب السينما وأحرص على مشاهدة الأفلام العربية والأجنبية.. وأحب أن أقضى وقتا مع أسرتى.. وأحب أن أتجول فى أحياء القاهرة القديمة وخصوصا حى الحسين والعباسية.. ويجب أن أكتب كل يوم شيئا حتى أستطيع أن أنجز مشروعات الروايات التى أعددت لها.. وأحب أن أكتب وجهة نظر أسبوعيا مادمت ملتزما بذلك.. فكيف يمكن أن أقوم بكل ذلك؛ ليس أمامى إلا تنظيم الوقت، والاستفادة من كل ساعة من ساعات اليوم، وهذا ما ساعدنى على إنجاز ما أريد إنجازه فى الوقت المناسب، وربما قبل ذلك، وبذلك لا أكون مقصرا فى حق نفسى كإنسان وككاتب.
وفى عام 1994 انتقلت من الأهرام لأصبح رئيسا لمجلس إدارة دار المعارف ورئيسا لتحرير مجلة أكتوبر، ولضيق الوقت ساعدنى أحد الزملاء مشكورا بجمع أوراقى فى الأهرام وأرسلها إلى مكتبى فى دار المعارف، وانشغلت فى عملى الجديد الذى لم يترك لى فرصة لفحص أكوام الملفات والأوراق المكدسة فى (كراتين). وأخيرا انتهت مهمتى فى دار المعارف وعدت إلى أورواقى فاكتشفت أن فيها بعض (المخزون) من وجهات نظر نجيب محفوظ لم تنشر ولم أتنبه إلى ذلك من قبل.. ورأيت أن أنشرها الآن لأنها جزء من إنتاج الكاتب العظيم الذى سيرجع إليه دارسو ومؤرخو فكره وأدبه، وشجعنى الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش على ذلك.
هذه هى قصة هذه المقالات القصيرة.. وجهات نظر نجيب محفوظ رأيت أن الواجب والأمانة يفرضان على نشرها، أو نشر بعضها على الأقل.
<U>أحلام اليقظة</U/>
لا بأس من أن نحلم قليلا كيلا ننسى فى غمار ما هو كائن ما ينبغى أن يكون، وكيلا ننسى أيضا حقوق الشعب المؤجلة لظروف قهرية. والحلم ترويح عن النفس ولكنه لا يخلو من مغزى، فليس من قبيل التهويمات فقط أن أتصور أن جميع القوانين الاستثنائية قد ألغيت، وأننا عدنا إلى دستورنا ليتمخض عن دستور جديد يكون مرآة لديمقراطية غير مشوبة، ولواقع حى متغير، ومتمشيا أكثر مع ما يحدث فى العالم.
وإن الاستثمارات المصرية والعربية والأجنبية تتكاثر بإيقاع متلاحق فوق استقرار راسخ واثبة بالصناعة والزراعة إلى مستويات جديدة، قاضية على كثير من المشكلات فى مقدمتها البطالة المقنعة والسافرة.
وإن مشكلة التعليم قد سويت على أحسن حال، ببناء المدارس اللازمة وإعداد المدرسين وتغيير المناهج وأسلوب الدراسة تلبية لحاجات العصر، ولتربية الشباب خير تربية عقلية، ووجدانية، وثقافية، وبدنية، وتحقيق النصر الكامل على الأمية.
وإن حقوق الإنسان أصبحت حقيقة لا مجرد شعار، تمارس فى الشارع كما تمارس فى السجون، فى البيوت والمدارس والمصالح والمستشفيات تحظى بها الأقليات كما تحظى بها الأغلبية، والنساء والرجال، والفكر والإبداع.
وتم مشروع السد العالى بمعالجة سلبياته، وتم النصر لنا فى حروب التلوث والمخدرات والأمراض المستوطنة.
وأن مصر أصبحت منارة ورائدة فى مجالات البحث العلمى والثقافة وقوة الإدارة وصفاء العقيدة الدينية الحقيقية والنزاهة والاستقامة.
وبإيجاز قد صرنا وطن الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه.
حقا يا أخى إنه حلم. ولكن حلم اليوم هو واقع الغد.
<U>حلـم</U/>
من حقى أن أحلم. وقد سيكون حلم اليوم واقع الغد. وهذا الحلم ليس جديدا فقد سبق أن أعلنته كرأى فى حوار بمجلة المصور الغراء عام 1988 على ما أذكر. ولعلى لم أعد أتذكر الترتيب الذى عرضته به، ولكن المضمون أهم من الشكل، مع الاعتذار مقدما عن أى خيانة للذاكرة.
الآن عنــاصــــــر الحلــم أو الرأى:
أولا : أن تلغى جميع القوانين الاستثنائية وتطلق حرية تكوين الأحزاب دون قيد أو شرط.
ثانيا : تؤلف لجنة ممثلة لجميع الأحزاب والهيئات لوضع مشروع دستور جديد يجرى عليه الاستفتاء فى حينه.
ثالثا : يكلف الجيش إضافة إلى واجبه فى الدفاع عن الوطن وظيفة لا تقل خطورة عن ذلك وهى حماية الدستور من أى عبث ضمانا للحرية الداخلية وتداول السلطة تبعا لمشيئة الشعب الحرة.
رابعا : يستقل رئيس الجمهورية عن جميع الأحزاب ويكون من أهم صلاحياته حماية الدستور باعتباره رمز الالتقاء بين الشعب والجيش.
خامسا : يكون الانتخاب بالنسبية، بمعنى أن تعتبر الجمهورية دائرة واحدة، وتحدد المقاعد لكل حزب بحسب الأصوات التى حصل عليها، وهى أسلم طريقة لا يهدر فيها صوت واحد كما أنها أصلح وسيلة لحماية الأقليات.
سادسا : تعطى الأحزاب فرصة للدفاع عن مبادئها وتمنح فرصا متساوية بالتليفزيون.
سابعا: فى أثناء ذلك تستمر الإدارة المصرية فى تنفيذ التنمية الكاملة ويتحمل ذلك من يعينه رئيس الجمهورية لتلك المهمة.
<U>للقضاة قضية</U/>
قد يكون لكل فئة قضية ومطالب. فاضطراب ميزان الحياة فى مهب التغيرات الاقتصادية والاجتماعية كثيرا ما يقتضى إعادة النظر فى ميزان العدل ويحرض على تقويم ما اختل من الأمور فتنشأ القضايا والمطالب. ولكن الذى لا يتصور ولا يستساغ ولا يقبله عقل أو ذوق فهو أن يكون للقضاة قضية. إذ كيف يكون للقضاة قضية وهم الذين يفصلون فى القضايا ويحكمون بين الناس بالعدل ويرسخون كل يوم أسس الحق والأمان.
لا يصح أن نتخيل للقاضى إلا صورة الإنسان المصون عن كافة المطالب بالكفاية، الغنى عن جميع الهموم بالرعاية والعناية. تلك بديهية من بديهيات المجتمع المتحضر، ودليل أولى على الإيمان بالعدل واحترام حقوق الإنسان.
ولست أنوى الدخول فى عرض أو مناقشة المطالب نفسها. هى مطالب القضاة وكفى، فهى فوق المناقشة، منزهة عن الجدل، مبرأه من الغرض، هادفة فى المدى القريب والبعيد إلى تحقيق العدل وسيادة القانون واستقرار المجتمع. وتحقيقها واجب على جميع المستويات الوطنية والقومية والإنسانية. وليس ذلك من باب الشرف ولا دلال بالرقى فحسب، ولكنه أساس الأمان والاستقرار، وضمان للحياة والمعاملة بعيدا عن أى عبث أو قهر. وإذا انحسرت مظلة القانون ولو قيراطا واحدا، فقد انتقل المجتمع بمقدار هذا القيراط من مجتمع الحضارة إلى تجمع الغابة. ونحن نتباهى بما نحظى به من استقرار، ونأمل أن يكون فى استقرارنا دعوة للمستثمرين، ولا شهادة للاستقرار مثل نظام الحكم وسيادة القانون.
ولو قدر على إنسان أن يهاجر سعيا وراء رزقه لوجب عليه أن يتحرى عن القانون والقضاء مثلما يتحرى عن الفرص المتاحة للعمل.
ومن حسن الحظ أننى على يقين من أن جميع المسئولين يعتنقون هذا الرأى.
<U>محكمة</U/>
من المعلومات المثيرة التى حفرت فى ذاكرتى رغم بعد العهد ما قرأته فى صباى فى كتاب (مشاهدات سائح).. لأحد أساتذتى فى اللغة العربية وهو المرحوم الشيخ أبو العيون. سجل فى مشاهداته وهو يزور سويسرا أنها كانت تحتفل بمرور خمسة وعشرين عاما مرت على محاكمها دون أن تتلقى أى قضية جنحة كانت أو جناية.
عجبنا لذلك الوطن الذى لم يمس قانونه مواطنا على مدى ربع قرن، وأعجبنا به غاية الإعجاب، وحلمت عقولنا البريئة بأن ترى وطننا يوما على نفس المستوى من السلوك الإنسانى الرفيع.
تذكرت تلك المعلومة حديثا جدا وأنا اقرأ العنوان الآتى فى جريدة أو مجلة وهو : (400 ألف قضية ضد الحكومة فى عام واحد). ذهلت لضخامة العدد وقصر المدة، وتخيلت ما يمكن أن يصل إليه لو مددنا الإحصائية إلى ربع قرن من الزمان. وهى قضايا من نوع واحد، أى التى تقام ضد الحكومة، الحكومة التى نشأت فى التاريخ لإقامة العدل ودفع الظلم ودفاعا عن استقرار المجتمع، فما هذا الذى يجرى فوق أرض مصر؛ بل دعنا نتصور أن أغلبيتها قضايا خاسرة، وأن الحكومة بريئة مما يوجه إليها من اتهامات، فكيف تجمعت القضايا وتضخمت حتى بلغت ذلك الرقم الخرافى؛ لا تفسير لذلك إلا بسوء الإدارة، والبيروقراطية وتعقيداتها، وتعسف الموظفين وتكبرهم. فما بالك والشاكون يكسبون الكثير من القضايا مما يقطع بالظلم والقهر والفساد وعدم احترام حقوق الإنسان.
وتشاء المصادفة أن أقرأ فى نفس الأسبوع عن تعويض مالى لقاتل ضربه حراس السجن الأمريكى.
والخبر يغنى عن أى تعليق.
<U>حرية عادلة</U/>
بالأمس القريب تضخمت الدولة حتى أصبحت كل شىء. هى الأمن والدفاع والتعليم والمواصلات والزراعة والصناعة والثقافة، كل شىء، كل شىء، ونتيجة لذلك تضاءل دور الشعب حتى صار لا شىء، الجميع مستخدمون فى جهاز الدولة، اقتصر اهتمام كل فرد على شئونه الخاصة، وقنع فيما عدا ذلك بالمشاهدة، وربما صرفه الملل عن ذلك أيضا.
اليوم تتغير الأمور. ترى فى المناخ نسمات من الديمقراطية، وتنفتح فى الأرواح قطرات من النشاط الحر، وهناك ما يبشر بالعودة إلى حمل المسئولية، والخروج من السلبية والكسل.
إذن فقد عرفنا طريق النجاة، وما بقى علينا فهو أن نطهر سطحه من العقبات وأن نمهده للسير، بل للانطلاق. ثمة عقبات تتحدى آمالنا بعناد مثل الإرهاب والمخدرات والتلوث والفساد. ويطالبنا الواجب بإجراء إصلاح سياسى جذرى، والمزيد من الانتاج، ويقوم الجهاز الإدارى، وبث الأمن والأمان والاستقرار، ويتساءل قوم هل نضحى بالعدالة الاجتماعية؟
مازال دور الدولة كبيرا. لن يقتصر على الأمن والدفاع. حتى فى أعرق البلاد ديمقراطية فإن دور الحكومة يتجاوز الأمن والدفاع. وسوف تظل الدولة فى بلادنا مهيمنة على الصناعات الاستراتيجية، ومسئولة عن التعليم والصحة، وموجهة للتربية والثقافة، ومتصدية لسلبيات المجتمع والبيئة، ويدخل فى نطاق ذلك محاربة البطالة والفقر.
أبدا لن تكون الحرية واحترام حقوق الإنسان ضربات موجهة للعدالة، ولكننا لن نصادر الحرية والكرامة باسم العدالة وباللجوء للقهر والاستبداد والإرهاب الرسمى.
<U>قدوة ومثال</U/>
إن يكن فى حياتنا اليوم وجه مشرق فهو من نصيب سياستنا الخارجية بصفة عامة. لا ننكر انجازات الداخل ولكن الداخل ينوء أيضا بحمل سلبيات كثيرة نرجو أن نشهد مصارعها. سياستنا الخارجية تتقدم زمنها، وتبشر بمبادئه، وتطرح نفسها نموذجا رائعا للعصر والشرعية. وهى ترسم خططها بثبات وثقة، وتتخذ قراراتها بحزم وحسم، وتصيب أهدافها بإتقان. وجاء حسن الجزاء فى تحسن علاقاتنا بالدول، وتقديرها لنا، وفيما نجنى من ثمرات طيبة لا تنسى، ونحتل من مراكز عالمية رفيعة.
جميل ذلك والله، وقد أعلن عن قدرتنا على التفكير والانجاز، فلم لا نرتفع إلى نفس المستوى فى سياستنا الداخلية؟.
لقد انطلقت السياسة الخارجية لتحررها من قبضته البيروقراطية، وبعدها عن الفساد والسلبيات، ولقيامها على أساس احترام حقوق الإنسان، والإيمان بجريان الحوار بين مختلف الحضارات والعقائد، ونبذ التعصب والتقوقع، ومساندة الحرية والعدل والقانون.
حقا إن الداخل مشاكله كثيرة، وطرقاتها مليئة بالأشواك، وخرائبها لا يحيط بها حصر، ولكن لا شىء يتعذر على همة الإنسان إذا صدقت وجمعت عزيمتها على الإبداع والعمل، وتحدى ما يكدس المعاناة فوق كاهل الجماهير.
ولدينا أناس طيبون صادقون، ذوو نوايا طيبة وقدرة فائقة. يحبون قومهم ويتلهفون على التعمير والبناء، ولا يلقون السلاح أبدا أمام الشر واللا مبالاة مهما يصيبهم من أذى أو كدر، ومهما قل عددهم بالقياس إلى غيرهم.
كلنا عرفنا الكوابيس، ولكننا عرفنا أيضا أن لكل كابوس نهاية.
ولتكن سياستنا الخارجية مصباحا وقدوة.
***
هذا بعض ما فى أوراقى من كتابات نجيب محفوظ أعتبر نفسى مؤتمنا عليها ومسئولا عن نشرها وإن كان قد تأخر.
ولعلنا نلاحظ أن (الحلم) جزء من التفكير المبكر لنجيب محفوظ، وأنه كان سباقا فى التفكير فى إعادة النظر فى الدستور وإعادة بناء الحياة السياسية على أساس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والعدالة.. ولو أعدنا القراءة ووضعنا أمامنا أن هذه المقالات كتبت منذ أكثر من ربع قرن فسوف نكتشف جانبا جديدا من جوانب عبقرية نجيب محفوظ.