رجل ليس كمثله أحد!
من أهم خصائص شخصية نجيب محفوظ البساطة والتواضع والقدرة على النفاذ إلى قلب كل من يقترب منه. ولأنه كان يحب الناس ولا يستطيع أن يعيش إلا بين أصدقاء تربطهم به علاقة حب حميمة. فقد كان له عشرات الأصدقاء والأحباب – وربما مئات – وكان كل منهم يشعر بأنه هو الأقرب إلى نجيب محفوظ، ولهم الحق فى ذلك، وكل واحد منهم لديه ما يقوله عن نجيب محفوظ من الزاوية التى رآه فيها، ولكن نجيب محفوظ عبقرية نادرة وله زوايا عديدة يصعب على صديق واحد أن يتحدث عنها جميعًا على سبيل الحصر.
ومع ذلك فقد كان محمد سلماوى هو الأقرب إلى نجيب محفوظ فى السنوات العشرين الأخيرة، ولديه الكثير مما يمكن أن يحدثنا به عن نجيب محفوظ فى بيته، وبين أسرته، ومع أصدقائه، وهذا ما فعله فى كتابه الجميل (المحطة الأخيرة).
وفى لحظات الإبداع، وحين أراد سلماوى أن يصف نجيب محفوظ فى عبارة واحدة قال: (إنه رجل ليس كمثله أحد) ومعه حق فى هذا الوصف الذى لا ينطبق إلا على نجيب محفوظ.
كان سلماوى دقيقًا فى هذا الوصف لأن نجيب محفوظ ليس كمثله أحد فى أخلاقه، وشخصيته الفريدة، وفى حجم إنجازه الأدبى الذى فاق به دستوفسكى، وفى القوالب الروائية التى لا مثيل لها فى الأدب العربى وبعضها لا مثيل له فى الآداب العالمية مثل أحلام فترة النقاهة، وأولاد حارتنا. لم يسبق أن صدرت لكاتب 46 طبعة من أعماله فى الخارج بأكثر من 30 لغة مثل نجيب محفوظ. أما أعماله باللغة العربية فقد نشرت عشرات المرات، ومع ما وصل إليه من مكانة عالمية ظل يمشى فى الطرقات ويتحدث إلى بسطاء الناس فى الشارع ويحرص على سماع رأى كل من لديه رأى فيما يكتب وكأنه كاتب مبتدئ يتحسس طريقه ويسعى إلى تجويد عمله ويريد أن يطمئن إلى رأى الآخرين فيما يكتب!
وفى رأيى أن نجيب محفوظ ابتدع لونًا جديدًا من القصة القصيرة يجمع بين الفكرة الفلسفية، والتجربة الحية، والخيال المنطلق، فى أحلام فترة النقاهة، ولكن سلماوى يرى أن هذه الأحلام ليست منفصلة عن الإنتاج الأدبى لنجيب محفوظ وأنها امتداد طبيعى للقالب الفنى الذى استخدمه فى (أصداء السيرة الذاتية) والفارق أنه فى الأصداء هناك خيط رفيع يربط تلك اللآلئ الصغيرة بينما فى الأحلام كل حلم قائم بذاته يعبر حد رؤية نبيلة للحياة لا تتأتى للفنان إلا فى نهاية العمر حين يكون قد وصل من النضج العقلى مرتبة الحكمة، وقد أضيف إلى ذلك أن الأحلام هى ابتداء من ناحية أخرى، من ناحية التكوين الفلسفى لنجيب محفوظ، فهو دارس الفلسفة بنظرياتها المختلفة، وبعد تخرجه فى قسم الفلسفة بدأ كتابة مقالات فلسفية، وفى إنتاجه نلاحظ تطورًا مهمًا يقترب فيه من الفلسفة فى رواياته واحدة بعد الأخرى إلى أن وصل إلى أولاد حارتنا فكانت تمثل رؤيته لدراما البشرية فى مسيرتها وأشواقها إلى العدل والعلم والحرية، أما نجيب محفوظ نفسه فقال عن الأحلام فى تواضع: (إننى أكتب أشياء صغيرة فى حجم الكف) يقول ذلك بينما كان يسعى إلى زيارته أحد كتاب العالم، وبعد أن وصل إلى مجد لم يصل إليه أحد فى العالم العربى. يحكى سلماوى أن كاتبة جنوب أفريقيا نادين جورديمر الفائزة بجائزة نوبل اشترطت لقبول الدعوة لزيارة مصر أن تتمكن من لقاء نجيب محفوظ لأنها حضرت إلى مصر عدة مرات ولم تتمكن من مقابلته، وأن الكاتب الفرنسى الكبير (روبيه سوليه) قال لنجيب محفوظ حين قابله (أنت الحكّاء الأكبر الآن فى العالم وقد أثرت ليس فقط على القراء وإنما أيضا فى القراء) وأيضًا قال الشاعر الأمريكى (لابان كاريك هيل) لنجيب محفوظ عندما التقى به إن رواية الطريق غيرت مجرى حياته. وهذه الرواية نشرت فى مصر عام 1964 وترجمت إلى الإنجليزية عام 1987 – قبل فوزه بجائزة نوبل. أما مدير النشر فى دار لورشيه الفرنسية فقد جاء لمقابلة نجيب محفوظ ليطلب نشر أحلام فترة النقاهة فى كتاب بعد أن قرأ ترجمتها الفرنسية التى كانت تنشرها صحيفة الأهرام إبدو، وصدرت الطبعة الفرنسية قبل صدورها فى مصر فى كتاب بالعربية بعام كامل. كما يحكى سلماوى أن كاتب البرازيل العالمى باولو كويللو بادر نجيب محفوظ بتقبيل يده وهو يقول: (تلك هى اليد التى كتبت لنا أعمالاً من أعظم الأعمال التى عرفتها الإنسانية).
ليس كمثله أحد فى قدرته على الالتزام بنظام صارم فى حياته، حتى أنه عندما أصيب بمرض السكر امتنع عن كل طعام وشراب طلب منه الأطباء الامتناع عنه، وظل 45 عامًا لا يتناول الحلوى والسكريات. وحين سأله سلماوى: هل يضايقك هذا المرض، قال له: لا.. على الإطلاق.. أنا لست ممن يتذمرون من المرض. يكفى أن تكون مطيعًا للطبيب وتتبع التعليمات ولن تشعر بأى ضيق، وبعض أصدقائى لا يصدقون أننى مصاب بمرض السكر لأننى أمارس حياتى بشكل طبيعى جدًا، فأنا ألتزم بما يقول لى الطبيب حتى أصبح النظام الغذائى الذى نصحنى به عادة لا أحيد عنها. ومع الوقت نسيت أنا أيضًا أننى مصاب بهذا المرض.. هل هناك مريض بالسكر مثله يستطيع أن يمتنع عن كل طعام وشراب فيه سكر لمدة تقرب من نصف قرن؟ وهل هناك إنسان مثله يلتزم ببرنامج يومى لا يحيد عنه.. يصحو ما بين الخامسة والخامسة والنصف صباحًا.. فى السادسة صباحًا يخرج من منزله بالعجوزة ويسير على قدميه بمحاذاة النيل حتى كوبرى الجلاء، ثم إلى الجزيرة، وكوبرى قصر النيل، إلى أن يصل إلى كافيتريا على بابا فى ميدان التحرير، وهى الكافيتريا الوحيدة التى تفتح أبوابها فى هذا الوقت، فيصعد إلى دورها العلوى، ويجلس إلى ذات المائدة التى يجلس إليها كل يوم بجوار الشباك المطل على الميدان، فيقرأ الصحف التى يشتريها فى الطريق، ويتناول قهوة الصباح، ثم يتجه إلى دار النشر الخاصة بالجامعة الأمريكية التى تحتفظ بكل ما ينشر عنه وعن كتبه فى الصحافة العالمية، فيطلع عليها، ثم يسير على قدميه إلى مكتبه فى الأهرام.
وقد لا يعرف كثيرون أن نجيب محفوظ كان يعزف على القانون فى شبابه، وأنه التحق بمعهد الموسيقى العربية أثناء دراسته بكلية الآداب، وكان يفكر فى ذلك الوقت فى احتراف الموسيقى، واستمر فى الدراسة فى المعهد سنة كاملة حصل فيها على أعلى الدرجات، لكنه لم يتمكن من التوفيق بين دراسته فى المعهد ودراسته فى الجامعة.
والنظام الدقيق الذى كان يلتزم به نجيب محفوظ فى كل شئون حياته لا مثيل له، فقد كان يلتقى مع الحرافيش كل يوم خميس فى بيت المخرج توفيق صالح، وكل يوم جمعة مع مجموعة الدكتور يحيى الرخاوى، وكل يوم سبت فى السادسة مساء مع محمد سلماوى، وحين يدق سلماوى جرس الباب يجد نجيب محفوظ عند الباب فى انتظاره ليملى عليه (وجهة نظر) التى كان ينشرها فى الأهرام لسنوات عديدة، ويوم الأحد يلتقى بمجموعة أخرى من الأصدقاء فى فندق شبرد تضم الدكتور محمد الكفراوى والكاتب المسرحى على سالم وإبراهيم عبد العزيز وآخرين، ويوم الثلاثاء يلتقى فى الباخرة (فرح بوت) على نيل الجيزة مع جمال الغيطانى ويوسف القعيد وعبد الرحمن الأبنودى. وفى مرضه الأخير كان الألم الأكبر الذى يشعر به أثناء وجوده فى المستشفى بسبب اضطراره إلى الانقطاع عن جلسات أصدقائه وعن عاداته اليومية التى التزم بها طول حياته وأصبحت هى حياته!
وكان هو القاسم المشترك بين هذه المجموعات من الأصدقاء ومع غيرهم من المعارف والأصدقاء والتلاميذ. كان يلقاهم فى مواعيد منتظمة وكل مجموعة لا تلتقى بغيرها، وقد تكون هناك خلافات أو تنافر بين أفراد مجموعة وأخرى، ولا يجمعهم إلا حب نجيب محفوظ.
بعد سنوات طويلة مع نجيب محفوظ يرسم ملامح الرجل وأهمها: الهدوء، والتسامح، والطيبة، وأيضا القوة، والثبات، والاعتزاز بالنفس دون تكبر أو غرور.
وفى أيامه الأخيرة فى المستشفى فى مرضه الأخير كان يردد كلمتين: يارب.. يارب. يرددهما عدة مرات بينما كان الأطباء يحاولون وضع قناع الأكسجين على وجهه وكان هو يخلعه بيديه، وفى لحظات غياب الوعى ينطق الإنسان بما فى أعماقه دون شعور، ونجيب محفوظ حين يردد: يارب.. يارب فإنه يكشف عن غير قصد وعن غير وعى عن عمق إيمانه بالله، ولعل هذه تكون الإجابة التى تفحم الذين شككوا فى إيمان الرجل ودفعوا معتوها جاهلا ليضربه فى عنقه بالسكين فى محاولة قتله ويدعى أنه كافر، بينما لم يقرأ هذا المعتوه الجاهل كلمة واحدة مما كتبه نجيب محفوظ.
لقد كان نجيب محفوظ مؤمنًا وموحدًا بالله، لكنه لم يتاجر بالدين ولم يتخذه بضاعة يتكسب من ورائها، وعاش حريصًا على أن يكون هذا الإيمان مستقرًا فى أعماقه يظهر كثيرًا فى رواياته، وتفجر على لسانه فى لحظاته الأخيرة وهو على عتب لقاء الخالق الأعظم.
سلماوى معه حق فى وصفه لنجيب محفوظ بأنه رجل ليس كمثله أحد، أما كتابه (نجيب محفوظ: المحطة الأخيرة) فهو نوع جديد من الأدب الروائى التسجيلى يجمع بين السرد الواقعى والمعالجة الفنية، ويفيض بالشاعرية والحب لرجل يستحق الحب والاحترام، وفيه الكثير من نسمات ولمسات وذكاء نجيب محفوظ.