من مفكرة الدكتور بطرس
من حين لآخر أحب أن أعود إلى القراءة فى مذكرات الدكتور بطرس غالى التى يحرص على كتابتها يوما بيوم فى مفكرة يخفيها عن العيون. فأجد متعة وفائدة كبيرة فى معايشة رجل مثل الدكتور بطرس له كل هذا العلم، وكل هذه الخبرة الأكاديمية والدبلوماسية والسياسية، ويكفى أنه عاش سنوات فى قلب الصراعات الدولية كأمين عام للأمم المتحدة واطلع على الأسرار والخفايا فى دهاليز السياسة العالمية ورأى عن قرب مؤامرات ومناورات القوى الكبرى وشارك بنصيب فى صياغة العلاقات الدولية. وفى كل مرة أعود إلى مذكرات الدكتور بطرس اكتشف فيها حكايات وأحداثا لم أتنبه إليها فى قراءتى السابقة.
فى هذه المرة وجدت الدكتور بطرس يتحدث كثيرا عن ابن أخيه الدكتور يوسف بطرس غالى وزير المالية الحالى والذى يعتبره البعض أقوى وزير الآن فى الحكومة الحالية، خصوصا بعد أن أشاد به الرئيس الأمريكى جورج بوش. كما أشاد أيضا بوزيرين آخرين هما المهندس رشيد محمد رشيد وزير الصناعة، والدكتور محمود محيى الدين وزير الاستثمار ومعهما رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف.
وبحكم عمله التقى الدكتور بطرس بعشرات من الملوك ورؤساء الدول والزعماء السياسيين فى أنحاء العالم، وطبعا لابد أن يكون له رأى فى كل واحد منهم، ولكنه كان شديد الحرص على ألا يصرح برأيه ويخفى حقيقة آرائه ومشاعره وراء عبارات دبلوماسية وابتسامة يجيد رسمها على شفتيه.. ولكنه كان يعود فى الليل ليكتب رأيه فى هذه الشخصيات بصراحة ولكنها صراحة غير مطلقة فى مذكراته التى لم يطلع عليها أحد من قبل، وأخيرا نشر بعضها فى كتابه (بانتظار بدر البدور) وبذلك عرفنا ما كان حريصا على إبقائه سرا.
وفى هذه المذكرات كتب يوم 6 مايو 1997 بعد لقائه فى باريس مع الدكتور يوسف بطرس غالى وزير المالية الآن يوسف هو ابن أخى المفضل. ابنى بالتبنى. إنه يمثل الجيل الخامس الذى يواصل بكل تألق تقليد العائلة التى ترفد الدولة المصرية بالمصريين الكبار. إنه وزير التعاون الدولى (فى ذلك الوقت). هو شاب مديد القامة. يبلغ طوله 180 سنتيمترا. حاد الذكاء. جاد فى عمله، وطموح. بعد إنجاز دراساته العليا فى القاهرة ونيل شهادة الدكتوراه من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (فى أمريكا) بدأ عمله فى صندوق النقد الدولى فى واشنطن. ولدى عودته إلى مصر عين مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء عاطف صدقى. وبعد فترة قصيرة من انتخابى أمينا عاما للأمم المتحدة عين وزيرا للتعاون الدولى. ولم يكن حينها إلا فى الأربعين من عمره مما جعله مرات عديدة يمازحنى بقوله: (سبقتك بخمس عشرة سنة، فأنت كنت فى الخامسة والخمسين حين أصبحت وزيرا). لم يتمكن قط من التخلص من هذه الثقة المفرطة الشائعة لدى الكتنوقراطيين. ينقصه ذلك اللطف التلقائى، وحسن التواصل، والمبادرة العفوية التى تجعل التكنوقراطى سياسيا أو تحجب أحيانا البعد التكنوقراطى فى شخصية رجل السياسة، وهذا ما أكسبه أعداء أكثر من الأصدقاء بدأ برئيس الوزراء كمال الجنزورى الذى لا يفوّت مناسبة لمعارضته..
إنى موضع ثقته والمؤتمن على أسراره، فأنا على معرفة واسعة بالوسط السياسى فى القاهرة (لقد تربيت فى السرايا لذا أعرف كل الخفايا) كما يقول الشاعر. وكان علىّ على مدى أكثر من خمسة عشر عاما أن أتخطى المنافسات بين الوزراء، ونلت أنا كذلك نصيبى من الإهانات، أليست هذه هى القاعدة فى السلطة؟ ولكن ها قد مضت ستة أعوام على مغادرتى القاهرة ولم أعد ملما بأجواء المشاحنات الأخيرة، لذا فلا يمكن لنصائحى إلا أن تبقى على مستوى العموميات.
ويستكمل خواطره بعد ذلك فيقول: أراه اليوم مشغول البال يساوره القلق فأقول له: (انتظر التغيير الوزارى المقبل، حينها سيكون الوقت مناسبا للتفكير بوضوح، ولكن إذا كان فى نيتك ترك السياسة فيجب أن يتم ذلك قبل نهاية العام وبموافقة الرئيس حسنى مبارك، فكلما تأخرت أصبح من الأصعب عليك إيجاد موقع فى القطاع الخاص لأن الشركات المتعددة الجنسيات تفتش أكثر فأكثر عن موظفين قياديين شباب.
هكذا نعرف أن الدكتور يوسف بطرس غالى كان يفكر فى ذلك الوقت فى ترك الوزارة والعمل فى شركة من الشركات العالمية الكبرى المتعددة الجنسيات، ويستشير عمه فى ذلك، وذلك تحت ضغط الصراع الذى كان بينه وبين رئيس الوزراء الدكتور الجنزورى.
ويعلق الدكتور بطرس على ذلك بقوله: (يبدو أن الوزير الشاب يفضل السلطة على المال. لا أظنه سيترك الحكومة، على الرغم من العداوة التى يكنها له رئيس الوزراء الجنزورى.
وبعد لقاء آخر بينهما فى باريس أيضا ولكن بعد ثلاث سنوات تقريبا (فى يوليو 2000) يكتب الدكتور بطرس: (ابن أخى يوسف يشعر ببعض الخيبة. فالوضع الاقتصادى فى مصر صعب. أنصحه بأن يبدأ الاهتمام بصحته إذا كان يرغب فى الاستمرار فى مزاولة عمله السياسى، كذلك أنصحه بأن يخفف من عدائيته، وبألا يعمل على إبراز كفاءته كأخصائى فى علم الاقتصاد، وبألا يظهر تفوقه العلمى. يجب ألا ننسى أبدا أنه فى الحياة العامة لا وجود لإنسان لا يمكن الاستعاضة عنه بآخر، ولكن ثمة عزاء هو أن نعتقد أنه لا يمكن أن يحل أحد مكاننا فى قلوب من نحب).
نصيحة من السياسى والدبلوماسى العجوز الذى يعرف خبايا ودهاليز السياسة وكيف تسير الأمور. لا تظهر تفوقك وكفاءتك! واهتم بصحتك وبحب الناس لك.
أما رأى الدكتور بطرس فى الدكتور الجنزورى فلم يصرح به أبدا. ولكنه أشار إليه فى يومياته عقب لقاء فى القاهرة يوم 20 أكتوبر 1997 كتب بعده: (لقاء مع رئيس الوزراء كمال الجنزورى. إنه رجل معقّد وميال إلى الإمساك بكل نشاطات البلد. علاقته بابن أخى يوسف ليست على ما يرام. اتفقت مع يوسف على أن ينضم إلينا خلال اللقاء فى محاولة لتحسين العلاقات. لست مقتنعا بأن هذا اللقاء الثلاثى قد ساهم فى تحسين وضع يوسف).
وفى عام 1997 أيضا وبعد لقائه مع شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوى يوم أول نوفمبر كتب الدكتور بطرس: (يستقبلنى شيخ الأزهر بمنزله، وهو أعلى سلطة إسلامية فى مصر والرئيس الروحى لإحدى أعرق الجامعات المصرية (جامعة الأزهر). يسكن فى شقة متواضعة فى الطابق الخامس فى مبنى ليس فيه مصعد. أشرع مع صديقى على السمان بصعود درج ضيق والإنارة فيه سيئة. أصل منهكا إلى المكان المنشود للحصول على بركة الشيخ والاستماع إلى مديحه).
هذا كل شىء!
وماذا يقول عن رئيس وزراء آخر هو الدكتور مصطفى خليل؟ يقول: (هو الأقرب إلىّ من بين رؤساء الوزارات الخمس الذين أتيح لى التعاون معهم خلال 15 عاما من العمل فى وزارة الخارجية. لا يزال محتفظا برونقه بعد الثمانين، ويدير بعقل راجح وذكاء لم تضعفهما السنون أحد أكبر البنوك المصرية (فى ذلك الوقت كان الدكتور مصطفى خليل رئيسا للبنك الدولى الأفريقى).
أما رئيس الوزراء الثالث- د. عاطف عبيد- فيقول بعد لقاء معه فى القاهرة يوم 31 ديسمبر 2001: (يستقلبنى رئيس الوزراء عاطف عبيد. ألاقى رجلا تبدو عليه علامات الشيخوخة والتعب، وأرهقته ممارسة السلطة. أباغته وهو يقاوم النعاس، وعبثا أتكلم بصوت عال، لكن ذلك لم يمنعه من الإغفاء لحظات! أقول له:
-إن صورة مصر كما صورة العالم العربى سيئة جدا. يجب أن تبادر بهجوم مضاد. المجتمع المدنى.. والمنظمات غير الحكومية تستطيع أن تساعدنا فى تصحيح هذه الصورة ولنحذو حذو المغرب وتونس اللتين أنشأتا وزارة لحقوق الإنسان.
يوافقنى الدكتور عاطف ويقول:
-عندما تقابل الرئيس يجب أن تكلمه فى ذلك.
ويستكمل الدكتور بطرس الكتابة: (أحرص على ألا أتكلم عن الأزمة الاقتصادية التى تمر بها البلاد، فأنا أعرف مسبقا بم سيجيبنى.. إنه يشتكى بشدة من انتقادات الصحافة التى لا ترحمه. وأجيبه:
-إننى أعرف من خلال خبرتى أننا نتوصل مع الوقت إلى أن نحتمى وراء درع واق.
أحاول أن أشد من عزيمته مذكرا إياه بالهجوم العنيف الذى تعرضت له أنا من العرب إبّان مفاوضات كامب ديفيد ثم من الأمريكيين، وفى السنة الأخيرة لولايتى (أمينا عاما للأمم المتحدة) وما يعيبونه علىّ اليوم هو عمرى ويقولون عنى (إنه تقدم فى السن كثيرا).. إن الانتقادات.. والنميمة.. هما الضريبة اليومية التى يجب دفعها للمرور إلى (الباب العالى) الذى تمثله السلطة!
لا أظن أن الدكتور بطرس قال فى يومياته رأيه فى هؤلاء الرجال بصراحة كاملة، فأنا أعرفه، متحفظ وكتوم حتى وهو يتحدث إلى نفسه فى خلوته الليلية.. ولذلك بقى طويلا متربعا على مقعد السلطة.. وحين تخلى عن التحفظ وأبدى رأيه بصراحة عن مذبحة قانا أغضب إسرائيل- وأمريكا طبعا- وفقد منصبه على قمة الأمم المتحدة!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف