مملكة أم كلثوم

كانت- ومازالت- أم كلثوم ملكة متوجة وشاركها فى بناء هذه المملكة أعظم الملحنين والمؤلفين، وبذكائها وإخلاصها لفنها أخذت من كل منهم أحسن ما أبدع. من الملحنين كان وراء صعودها إلى القمة: محمد القصبجى، وزكريا أحمد، والسنباطى، والموجى، وكمال الطويل، وبليغ حمدى، وأخيرا عبد الوهاب، ومن الشعراء أخذت أجمل ما أبدع بيرم التونسى، وأمير الشعراء أحمد شوقى، وعلى الجارم، وإبراهيم ناجى، ومأمون الشناوى، وأحمد شفيق كامل، وفى المقدمة كان أحمد رامى.. كلهم قمم العصر فى مجالاتهم، ولذلك كان التعبير الصادق عن كل هذا الإبداع هتاف الجمهور لها: عظمة على عظمة يا ست.
قال عنها عبد الوهاب- كما ذكر الكاتب الكبير أحمد رجب: إنها «تكلثم» اللحن فتزيده جمالا على جمال، وهى لا «تكلثم» اللحن فقط، إنها تكلثم كلمات الأغنية قبل أن تغنيها، ثم تكلثم معانى هذه الكلمات عندما تغنى، فدورها يشمل خلق الكلمة، والمعنى وأحيانا فكرة الأغنية كلها، وقال عنها طه حسين: إنها بصوتها النادر فى الجمال وسلاسة اللغة العربية ساهمت عندما غنت القصيدة فى إثبات جمال اللغة وطواعية أدائها لموسيقى الغناء حتى فى أصعب الكلمات، وكان لها فضل فى انتشار الشعر العربى على ألسنة العامة والخاصة، وقال عنها مصطفى أمين: رغم أنها كانت أشهر امرأة فى العالم فإنها كانت زاهدة فى الشهرة، وهى عدة شخصيات فى امرأة واحدة، فهى على المسرح تظهر طويلة مع أنها فى الحقيقية قصيرة، وتبدو للناس بخيلة وهى فى الحقيقة كريمة، وتبدو لأهل السنبلاوين فلاحة وهى سيدة صالون من الطراز الأول، ولأساتذة الجامعة هى صاحبة فكر راق مع أنها لم تدخل مدرسة، ومع ذلك فهى أكبر النساء المثقفات فى مصر.. وقال عنها توفيق الحكيم: إنها تؤدى كل أغنية الأداء الكامل، إنها صفة الفنان الأصيل. وقال عنها العقاد: إنها أثبتت أن الغناء فن عقول وقلوب وليس فن حناجر وأفواه فقط. قال الدكتور مصطفى محمود: إنها تفلسف الحب، وتمثل أعظم دار نشر وهى فى الوطن العربى أقوى من ألف خط طيران يربط الأرض العربية، فلو أنك خرجت ليلة حفلتها لتتجول فى الوطن العربى، فكل أرض لا يتردد فيها صوت أم كلثوم فى هذه الليلة تعنى أنك خرجت عن حدود الوطن العربى، إنها أقوى دليل على أن الوطن العربى يعيش فيه شعب واحد، له عقل واحد، وقلب واحد، ووجدان واحد. وقال عنها الشاعر الدكتور إبراهيم ناجى: إنها تملك جوهرة لا تقدر بمال فى خزائن الأرض، وثروتها الكبرى هى ما تملكه من ملايين القلوب وهى بذلك أغنى من قارون. وقال عنها أستاذ الموسيقيين الأول الدكتور محمود الحفنى: لقد وهبت العناية الإلهية لمصر فى نهضتها الحديثة أم كلثوم لتكون لحن التعبير عن مجدها. وقال يوسف السباعى: سيبقى فنها تراثا خالدا تتغنى به الدنيا ويضىء طريق الفن العربى..
هكذا كان يراها كبار الأدباء والمثقفين، وأهم من ذلك أنها كانت من عوامل الوحدة العربية، فأم كلثوم ليست لمصر وحدها ولكنها لكل العرب بدليل أن صوتها يجلجل حتى اليوم وبعد 35 عاما من رحيلها فى كل إذاعة وكل تليفزيون فى كل بلد عربى.
***
حياتها قصة كفاح وعزيمة
فى بدايتها تتلمذت على يد الشيخ أبو العلا، ثم على يد القصبجى الذى مهد لها طريق النجاح وارتبط اسمه باسمها 40 سنة، وغنت من تلحين داود حسنى، وتذكر الدكتورة رتيبة الحفنى أن زكريا أحمد تعرف على أم كلثوم فى قريتها فى بداية حياتها ولازمها فى حفلاتها وقدم لها العديد من ألحانه وآخرها «هو صحيح الهوى غلاب»، ومنذ عام 1945 انضم رياض السنباطى إلى «مملكة أم كلثوم». وقال السنباطى عن بدء علاقته بها بأنه سمع أغنية لها فى الراديو فاتصل بها، وعندما ذكر لها اسمه تذكرت أن والدها كان يغنى مع والده فى الأفراح، وبدأ السنباطى عمله كمدرس للعود بمعهد الموسيقى وظل يتابع ألحانها ويحسد الذين يلحنون لها، ولحن أغنيات ناجحة لبعض المطربين والمطربات الجدد. ويقول السنباطى: كنت على موعد مع القدر حين استمعت أم كلثوم إلى بعض هذه الألحان فطلبت منى أن ألحن لها، وهكذا بدأت أصنع صفحات عمرى مع مطربة العرب الأولى على مدى أربعين عاما، كانت بداية اللقاء الفنى عام 1936 بأغنية «النوم يداعب عيون حبيبى» فكان لحنها تحولا فى مشوار أم كلثوم ورياض السنباطى، وجد السنباطى فرصته فى قدراتها الصوتية غير المحدودة، وفتحت له أم كثلوم أبوابا يظهر فيها إمكاناته الفنية وبخاصة قصائد الشعر التى برع فى تلحينها السنباطى، ومنها: قالوا أحب القس سلامة، وأصون كرامتى، ونهج البردة، وسلوا قلبى، وسلوا كئوس الطلا، وولد الهدى، والنيل، ورباعيات الخيام، ومصر تتحدث عن نفسها، وعرفت الهوى، وقصة الأمس، وثورة الشك.. وعشرات من الأغانى الخالدة التى جعلت الشعر العربى الفصيح على ألسنة العامة، وآخرها الثلاثية المقدسة، ومصر التى فى خاطرى وفى دمى.. ويكفى أنها حين كانت تصل فى أغنية سلوا قلبى إلى البيت الذى يقول فيه أحمد شـوقى:
«وما نيل المطالب بالتمنى.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا»، يثب المستمعون من مقاعدهم بحماس شديد ويهز تصفيقهم جدران القاعة.
***
الدكتورة رتيبة الحفنى أستاذة الموسيقى والغناء لمحت مبكرا وبالتحليل العلمى كيف طرأ التغير فى صوت أم كلثوم بحكم السن، ففى مايو 1967 حينما كانت مصر تستعد لحرب 1967 قدمت فى حفلها الشهرى أغنية «سلوا قلبى» ولكن صوتها كان مختلفا، كانت عندما غنت هذه القصيدة أول مرة عام 1946 يحتوى صوتها 16 مقاما، بينما كانت فى سنة 1967 قد نقص أربع مقامات من مساحته، وأحست أم كلثوم أن أداءها لهذه الأغنية لم يبلغ ما كان يبلغه قبل عشرين عاما، فبدأت منذ ذلك اليوم تختار الألحان التى تناسب صوتها، وكان عبد الوهاب أقدر الملحنين على مراعاة ذلك.
***
ويروى السنباطى أن أم كلثوم كانت فى معهد الموسيقى قبل الثورة لتسجيل قصيدة «ولد الهدى» فجاء إلى المسرح مندوب من السراى الملكية وطلب منها حذف البيت الذى يقول فيه شوقى «الاشتراكيون أنت إمامهم» لكنها تمسكت بهذا البيت، وقبلت أن تتحدى مطالب القصر مع ما فى ذلك من مخاطرة. ويقول رياض السنباطى: أم كلثوم كانت تعبد فنها بعد الله ولا تكتفى بما وصلت إليه من مجد وظلت دائما تتطلع إلى المزيد، وعلى سبيل المثال كانت الجلسات التى تحفظ فيها اللحن تستمر من العاشرة صباحا حتى العاشرة مساء دون كلل أو ملل، وأحيانا تسأله عندما تطول الجلسة أكثر من ذلك إن كان جائعا، وتكتفى بتناول سندوتش من الجبنة وفنجان شاى أو قهوة حتى لا يضيع الجو الجميل الذى اندمجت فيه، وكانت ترفض استقبال أى إنسان أثناء البروفة مهما كان، كانت دائما متحفزة للنجاح. قال عنها السنباطى: كانت مثل السد العالى تحجب كل التفاهات والسخافات الفنية، فلما رحلت بدأت التفاهات تظهر، والموسيقى تنهار، والأغانى تصاب بالانحلال.. أما جمهورها فشىء آخر.. كان يتمتع بحس ذكى يجيد الاستماع، ويحترم الجملة اللحنية فلا يقاطعها، ويعرف أين يصفق، ومتى يقول «الله» ومتى يقول «كمان يا ست» ومتى يطلب منها بإصرار أن تعيد.. كان هذا الجمهور يعلمها ويعلمنى! وقال عنها محمد الموجى: أذكر أنها «بهدلتنى» وأرهقتنى كثيرا فى أغنية «للصبر حدود»، فقد طالت المدة دون أن أعثر على بداية اللحن، فاستدعتنى أم كلثوم وقالت لى: مش أنت لحنت لفايزة أحمد «أنا قلبى إليك ميال» حط فى دماغك إنك بتلحن لها واللى يطلع فى بالك إعمله، بعدها خرجت من عندها هادئا بعد أن كنت عصبيا، وفى البيت أمسكت العود وبدأت التلحين، وتدخلت أم كثلوم كثيرا فى اللحن ولم تتدخل فى «الكوبلية» الأخير «.. ما تصبرنيش ما خلاص..» وفيه يظهر أسلوب الموجى وحده.
وكمال الطويل اشتهر بعد أن غنت له أم كلثوم «والله زمان يا سلاحى» سنة 1956 من كلمات صلاح جاهين واعتمد لحن الأغنية نشيدا وطنيا هو السلام الجمهورى من سنة 1957 حتى سنة 1977 وهو السلام الوطنى فى بلد عربى الآن ولحن لها كمال الطويل عدة أغان كان آخرها «غريب على باب الرجاء» تأليف طاهر أبو فاشا، ولكن هذه الأغنية لم تتم إذاعتها إلا بعد 14 عاما، وتبين أن منعها كان بقرار من أم كلثوم ذاتها لأن كمال الطويل أبدى لها أنه غير مرتاح للحن، فاحترمت رغبة الملحن، مع أن الدكتورة رتيبة الحفنى- الناقدة والأستاذة والخبيرة- ترى أن جهد كمال الطويل فى هذا اللحن جهد رائع.
وبليغ حمدى التقى بأم كلثوم مصادفة فى بيت الدكتور زكى سويدان دعاه إليها الفنان محمد فوزى، وطلب أحد الحاضرين منه أن يسمعهم شيئا من ألحانه، فغنى لحنا كان أعده ولم يقرر لمن يعطيه لأغنية «حب إيه اللى أنت جاى تقول عليه» واستعادت أم كلثوم اللحن عدة مرات، وفى اليوم التالى كلفته باستكمال الأغنية وهى من تأليف عبد الوهاب محمد الذى كان يعمل مهندسا فى شركة شل.. وبعدها غنت له «فات الميعاد» و«الحب كله» و«ألف ليلة» و«حكم علينا الهوى». وقال بليغ بسببها صعدت إلى سلم الشهرة، ومن أجلها لحنت أجمل ما لحنت من أغان ستبقى لأن أم كلثوم غنتها.
أما حكايتها مع عبد الوهاب فهى حكاية يطول شرحها.. فهو كما وصفوه «لقاء السحاب».
أم كلثوم مملكة، كانت فيها ملكة متوجة، وظلت على عرش الغناء حتى بعد 35 سنة من رحيلها وبقيت على عرشها دون أن ينازعها أحد إلى اليوم وستبقى مئات السنين وسيبقى فنها أقوى من الزمن..

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف