الهرم الرابع

أعجبنى رسم فى «الأهرام» للفنان جورج البهجورى بمناسبة مرور 35 عاما على رحيل أسطورة الغناء أم كلثوم، فى الرسم مرشد سياحى ومجموعة من السياح أمام الأهرامات الخالدة، وهو يشير إليها ويشرح لهم: هذا هرم خوفو، وهذا هرم خفرع، وهذا هرم منقرع، والرابع: أم كلثوم.. جورج البهجورى على حق لأن أم كلثوم لها شموخ وعظمة الأهرامات، وهى مثل الأهرامات لا ينال منها الزمن، 35 عاما مضت على رحيلها ومازالت تغنى وصوتها يتردد فى أرجاء العالم.
ولم أعد اندهش كلما زرت بلدا من البلاد العربية واسمع صوت أم كلثوم ينبعث عاليا مجلجلا من راديو أو تليفزيون أو جهاز تسجيل أو حتى من «دندنة» رجل يسير فى الشارع، ولكنى دهشت عندما وجدت كل من قابلتهم يعرف أم كلثوم سواء فى أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو الهند أو الصين، ومنذ فترة قصيرة قابلت سيدة من بلجيكا قالت لى إنها تحب أن تسمع أغانى أم كلثوم، ولكى أتأكد سألتها: وهل تذكرين أغنية لها، أجابت: «أنت أمرى» وكانت تقصد طبعا أغنية «أنت عمرى»؟! أما أن اكتشف أن العالم الكبير أحمد زويل يجرى أبحاثه فى المعمل على صوت أم كلثوم وهو الذى غيّر نظريات العلم والعلماء بنظريته عن «الفمتوثانية» و «التلسكوب الرباعى الأبعاد»، وما ترتب على ذلك من فتوحات فى علوم الطبيعة والأحياء والطب حتى قيل إنه أعظم من «أينشتين» لأنه أعاد النظر فى نظرية أينشتين وتجاوزه، وأضاف إلى العلم الإنسانى ما استحق به جائزة نوبل.. وهو حريص على أن يشترى فى كل زيارة للقاهرة مجموعة شرائط أغانى أم كلثوم ليضعها «احتياطى» فى المعمل والسيارة والمكتب والبيت خشية أن يصاب أحد شرائطه بالتلف (!).
ومازالت أذكر عندما كنت تلميذا فى دمنهور كيف كان الناس يعيشون ليلة الخميس الأول من كل شهر وكأنهم على موعد مع السعادة.. محلات بيع المأكولات والفاكهة والحلويات واللب والسودانى تبيع فى هذا اليوم ما تبيعه فى بقية الشهر.. وكل الناس سهرانة تلتف حول الراديو- ولم يكن التليفزيون قد ظهر بعد- وفى بيتنا كنت أشارك أخوتى وأخواتى فى الإنصات إلى أم كلثوم وكأنه على رؤوسنا الطير- على حد تعبير القدماء- وقبل «الحفلة» نجتمع على «عشوة» يتفنن الجميع فى إعدادها، وفى «الاستراحة» نتسلى باللب والسودانى.. ومازالت أذكر سهرة من سهرات الخميس الأول من كل شهر فى مقهى المحطة فى دمنهور وهو المقهى الذى لا يجلس فيه إلا الصفوة وكبار المدينة والأعيان لارتفاع أسعار المشروبات وارتفاع قيمة «البقشيش».. ولا أنسى منظر «العمدة» كبير السن الذى كان يستند إلى عصاه ويجلس صامتا فى مهابة واضحة، وفجأة وجدته ينتفض ويلوح بالعصا ويرقص على نغمات أغنية «يا ظالمنى».. وبعد سنوات عندما جئت من دمنهور إلى القاهرة ذهبت إلى قهوة أم كلثوم فى شارع عماد الدين التى قرأت عنها ويذهب إليها نوع خاص من الزبائن العاشقين «أم كلثوم» لأنها تضع سماعات كثيرة فى الأدوار الثلاثة وتذيع أغانى أم كلثوم طول الوقت، وجدت الدور الأول مزدحما ومسموحا فيه بلعب الشطرنج والدمينو بشرط عدم الازعاج، والدور الثانى مسموح فيه بالهمس والتعليق والله يا ست بصوت خافت، أما الدور الثالث فأشبه بمكان من أماكن الأساطير.. الضوء خافت.. جدا فلا تكاد تشعر بأحد حولك.. والجميع جالسون فى صمت تام وكأنهم نائمون فلا تسمع همسة ولا ترى حركة ومستغرقون فى الاستماع إلى «الست» وهى تتجلى..وممنوع الكلام أو طلب الشاى أو القهوة إلا فى «الاستراحة» وبين حين وآخر تشعر بانتفاضة من شخص هناك وهو يهمس بصوت خافت «يا سلام ياست» أو «الله.. كمان والنبى» وكانت هذه بالنسبة لى تجربة فريدة.
***
واستمعت بعد ذلك وقرأت الكثير عن أم كلثوم «المعجزة» و«الأسطورة» و«هبة السماء» وأنها احتاجت إلى إجراء عملية جراحية فى الرقبة بعد أن تضخمت الغدد، ولم يجرؤ جراح فى مصر على إجراء هذه العملية خشية أن تصاب الأحبال الصوتية ويفقد بذلك سمعته ومستقبله، وقرر الرئيس جمال عبد الناصر سفرها إلى الولايات المتحدة لإجراء العملية فى مستشفى القوات البحرية التى يعالج فيها رؤساء أمريكا والدول الأخرى، وعوملت فى أمريكا وفقا للبروتوكول الخاص برؤساء الدول، وصرح الأطباء بعد العملية بأنهم وجدوا حبالها الصوتية ليست مثل كل الناس وأنها فعلا معجزة لأنهم لم يشاهدوا مثلها من قبل.
تربعت أم كلثوم فوق قمة لم يصل إليها أحد قبلها ولا بعدها.. كان الملوك والرؤساء يحرصون على الالتقاء بها كلما زارت بلادهم، ويعاملونها معاملة الملوك، وكان من حظى أن أجد فى بعض الحفلات تذكرة أحيانا تكون فى الصفوف الخلفية فى الصالة، وأحيانا تكون (بلكون) أى (أعلى التياترو) والجمهور من كل الطبقات.. وزراء.. وسياسيون.. ووكلاء وزارات.. ورؤساء تحرير.. وعمد ومشايخ.. وأمراء وشخصيات عربية تحجز مقاعدها فى جميع الحفلات مقدما وتركب الطائرة لتعيش ليلة عيد مع صوت أم كلثوم.. ورأيت الشاعر أحمد رامى ينزوى فى الصف الأول مطرقا برأسه سارحا فى ملكوت الله فى شبه إغماء، ويسند رأسه بيده ويهز رأسه طربا مع نهاية كل جملة وكل مقطع، وفهمت بعد ذلك من الدكتورة رتيبة الحفنى عميدة الفنون الموسيقية أن أم كلثوم أقدر من أى مغن فى العالم على أداء «القفلة» التى تعتبر أصعب امتحان للصوت، وتحتاج إلى شجاعة وإحساس عميق، وصوت مدرب وقوى وهذه المزايا من الصعب أن تجتمع فى حنجرة واحدة غير أم كلثوم، ووفقا لرأى الخبيرة المتخصصة الدكتورة رتيبة الحفنى فإن أم كلثوم فيها عشر مغنيات، لأن كل ميزة من مزاياها تجعل منها مطربة كبيرة.. وهى بارعة.. وليس لها مثيل فى التعبير بالجسم واليدين، والإيماء بالوجه بالضحك أو بالعبوس أو بالإحساس بالحنين والشوق أو بالألم والفراق أو بالاستعطاف للحبيب القاسى، وهى لا تفتعل.. بل تعبر عن إحساسها بالكلمة والمعنى واللحن وتعيش فى (حالة) وجدانية تتوحد فيها مع كلمات ومعانى الأغنية وتجسدها بتلقائية مذهلة.. فهى تغنى وتحس بالمعنى إحساسا صادرا من القلب تحس بالغضب، أو الفرح، أو العتاب، وتلخص الدكتورة رتيبة الحفنى رأيها وكأستاذة للموسيقى والنقد الموسيقى بأن أم كلثوم كانت مجموعة عجيبة من عطايا الله، والصفة العظيمة فيها أنها ظلت «هاوية» ولم تكن «محترفة» حتى آخر العمر، وكانت مستمعة من الطراز الأول لكل المطربين تقريبا، ومستمعة لنفسها وهى تغنى وأحيانا تهمس بعد لحظة «تجلى» الله!
وتبكى حين تتأثر بأغنية فهى تغنى لنفسها وتستمع لغيرها بكل حواسها وأعصابها.. ولذلك أصبحت «مطربة عظيمة»، هى الوحيدة التى جمعت بين القوة والعاطفة والحساسية فى صوتها، والصوت الوحيد الذى لم يكن عبدا للميكروفون.. والمطربون الآخرون بدون الميكرفون تائهون وباهتون، ولذلك تراهم يكادون يضعون الميكروفون داخل أفواههم، وأم كلثوم حين تغنى تبتعد عن الميكرفون، لأن قوة صوتها تتعارض مع الاقتراب منه.
***
35 عاما مضت على رحيل أم كلثوم.. هل يشعر أحد أنها ماتت؟.. إنها مازالت تغنى وتغنى.. وكان يقال إن جمهورها من كبار السن.. ويقال إن الشباب يريد أن يرقص مع المغنيات الراقصات العاريات، ولكن الشواهد تقول إن هناك شبابا يكتشف أم كلثوم كل يوم.. فى البداية يكون ضحية هذا «التلوث» الذى يسمونه غناء بما فيه من كلمات ساقطة، وأصوات نشاز وضعيفة وموسيقى مسروقة من الأغانى والألحان التركية واليونانية والغربية والهندية.. إلخ.. ويقولون إنهم لا يحتملون الاستماع إلى أغنية واحدة لمدة ساعة أو أكثر ولا يطيقون التكرار ويرون أن أم كلثوم «تعيد وتزيد» وبعد فترة يصلون إلى درجة من النضج والفهم فيكتشفون أن أم كلثوم ليست مغنية تلقى بالأغنية وهى تقفز وتهز وسطها، ولكنها «حالة» تستمع إليها فتنتقل إليك هذه «الحالة» وتعيش مع صوتها فيتسلل إلى قلبك ربما دون وعى منك بالكلمات واللحن.. ولكنك تشعر بالنشوة وبالفرح وبأنك فى عالم خاص بعيدا عن العالم الأرضى.. أنت تحلق فى السماء.. وهل يستطيع الذين يقال اليوم إنهم «مطربون» أن يغنو أغنية مثل «الأطلال» أو «أنا لن أعود إليك مهما استرحمت دقات قلبى» أو «ولدى الهدى» أو «ذكريات» أو عشرات من أمثالها.. لغة راقية ومعان رقيقة، وإحساس صادق، وتعبير شديد الدقة والجمال عن العواطف، فى زمن أم كلثوم كان الحب صادقا.. وكان الشاعر مؤلف الأغنية صادقا.. وكان الملحن عبقريا.. وكان الجمهور محترما ذواقا وحساسا ومحبا للفن الراقى.. ولم نكن قد وصلنا بعد إلى أغنية «باحبك يا حمار»!
ولا تزال أم كلثوم حية فى قلبى وقلوب الملايين، لأن الفن العظيم لا يموت.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف