رؤية مغلوطةعن العرب

لمرة واحدة اتيح لى أن أجلس إلى رابين وبيريز فى القاهرة مع مجموعة من الزملاء, كان ذلك منذ سنوات, وكان رابين وقتها رئيسًا للوزراء وبيريز سؤلين, وكان سؤالى الأول: أنتم تطلبون من القادة العرب السلام قبل الأرض وهذا ما لايمكنهم تقديمه إليكم لأن لأن الرأى العام لن يسمح له بذلك, فلماذا تتجاهل السياسية الإسرائيلية الرأى العام فى العالم العربى؟

وقال لى يبريز: لأن القرار فى كل بلد عربى فى يد رجل واحد it is one man show. واكتفيت يومها بإن قلت له: هذا غير صحيح.. فى العالم العربى رأى عام يجب أن يؤخذ فى الحساب.

وكان سؤلى الثانى لبيريز: هل تعتقد أنه سيأتى يوم ويتحقق حلمك بإنشاء الشرق الأوسط الكبير وتكون فيه اسرائيل قوة فاعلة؟

وأجابنى: أعتقد أن ذلك سيحدث.. أنتم تريدون أن تكونوا هونج كونج المنطقة ليس لدينا مانع, نحن سنكتفى بإن نكون قاعدة لأنتاج التكنولوجيا الحديثة واسزفت وير.

 هذا هو الخطأ الأكبر فى السياسة الإسرائيلية والأمريكية أيضًا.. تجاهل قوة الرأى العام فى العالم العربى.. وكأنه لا يوجد فيه سوى الحكام وليس فيه شعوب لها تاريخ وإدارة وحق فى تقرير مصيرها كسائر الشعوب. وهذا الموقف الإسرائيلى ليس سوى امتداد, أو أنعكاس, للموقف الإمريكى, خاصة أن الإدارة الأمريكية الحالية لا ترى الأمور إلا من زواية واحدة, ولا تدرك أن الرأى العام العربى ظاهرة معقدة بأكثر مما يعتقد أصحاب الأفكر التقليدية فى الإدارة الأمريكية, فهم يرون أن الرأى العام فى البلاد العربية ليس سوى نخبة نت المثقفين أصحاب الايديولوجيات الفاشلة, وأن الشارع العربى لا تتردد فيه إلا أصوات أنفعالية يمكن تهتف دون وعى لأى شىء يثير انفعالاتها, وكلاهما – المثقفون والجمهور – غير مؤثر فى السياسات والقرارات.. إنهم لا يرون ما حدث من تغير فى المجتمعات العربية من حراك سياسى تتبلور فيه اتجاهات تؤثر على سياسات الحكومة ولا يمكنها تجاهلها.. ولا يرون أيضًا هذا التوافق الذى حدث فى السنوات الأخيرة بفعل الأحداث الضاغطة والمخاطر الماثلة بين آراء النخبة وآراء الطبقة المتوسطة مع رأى الشارع, حول قضايا تبلورت وأصبحت تمثل قضايا التى لا يمكن التنازل عن شىء منها أو المساومة عليها مثل قضايا فلسطين والعراق ورفض التبعية الأجنبية مهما تكن وتحت أى مسمى, والمطالبة بالاستقلال الاقتصادى واستقلال الإدارة الوطنية.


وفى الولا يات المتحدة مراكز أبحاث ترصد هذه الحقائق وتنبه إلى ضرورة مراعاتها فى التعامل مع الدول العربية, ولكنها بعد ذلك ترى أن أمريكا تستطيع التأثير على الرأى العام فى البلاد العربية وتغيير اتجاهاته وقناعاته بحيث يقبل غدًا ما يرفضه اليوم, وهؤلاء يطالبون الإدارة الأمريكية بأن تخوض ما يسمونه "حرب الأفكار" وألا تكتفى بالغزو العسكرى أو بالضغط الاقتصادية والسياسية, وهدف حرب الأفكار فى رأيهم هو تحسين صورة أمريكا فى المنطقة, والاقتناع بما تراه الإدارة الأمريكية وما تعتبره إصلاحات داخلية, وتحسين علاقات أمريكا مع النخبة السياسية, ورجال الأعمال والإعلاميين وأساتذة الجامعات.. ألخ, على أٍاس أن هذا هو المحيط الذى يجب أن تحقق فيه الإدارة الأمريكة الفوز فى "حرب الأفكار".


فى رأى هؤلاء أن الإعلام فى العالم العربى هو الذى كان يعوق نجاح أمريكا فى حرب الأفكار. ففى الخمسينيات آثارت الإذاعات الثورية المصرية الجماهير العربية ضد سياسة أمريكا وغير الأفق السياسى, ولم تكن اللغة الحماسية والأنفعالية الغاضبة التى كان يستخدمها الإعلام المصرى والعربى عمومًا مما يساعد على إيجاد مناخ مناسب للاستماع إلى ما تقوله أمريكا بدون نظرة الشك التى كانت سائدة فى ذلك الوقت, وبعد إنتهاء هذه الموجة أتخذ الإعلام العربى – فى رأيهم – مظهرًا كئيبًا بالاقتصار على أخبار الاستقبالات الرسمية ونشر القرارت الحكومية, وظلت الصحافة والإذاعة والتليفزيون فى الدول العربية جميعها خاضعة لسيطرة الدولة التى حددت خطوطًا حمراء واضحة تحكم الخطاب السياسى والإعلامى المقبول, وبعد ذلك ظهرت موجات من الانفتاح والتحرر والنشاط المثير فى صحافة بعض الدول العربية ولكن ذلك كان مقصورًا على القضايا المحلية الفرعية ولا يمس السياسات العامة, ويقول الباحث الأمريكى مارك لينش إنه حتى هذه الموجات سرعان ما خضعت لترويض نظم الحكم, ولكن ظهر فى النصف الثانى من التسعينيات تيار جديد من المناقشات فى الفضائيات التى تتخطى الحدود وتحاول التأثير فى الرأى العام, ثم أصبحت الصحف متاحة عبر الحدود ومجانًا على الإنترنت لتصل إلى جمهور عريض, حتى إن رئيسًا عربيًا اعترف بأنه يشاهد المحطات الفضائية بأكثر مما يشاهد تليفزيون بلاده.


 




جميع الحقوق محفوظة للمؤلف