معارك احمد بهاء الدين 2
خاض أحمد بهاء الدين معارك كثيرة، وكان له بسببها خصوم وأنصار، ولكن- كما هو الحال الآن- كان الخصوم أقوى من الأنصار، ولم يستطع كثير من تلاميذه أن يستمروا فى خوض المعارك التى بدأها واستسلموا إيثارا للسلامة، أو استسلموا أمام الإغراءات التى حاصرتهم من الداخل والخارج.
كانت معارك أحمد بهاء الدين من أجل الحرية والديمقراطية أولا، ومن أجل إعلاء سلطة العقل على تسلط ميراث الخرافة والشعوذة الفكرية والسياسية ثا نيا، ومن أجل الفكر الدينى مما أصابه من الجمود فى عصور الضعف والهزيمة التى عانت منها الشعوب الإسلامية قرونا طويلة.
خاض معركة عنيفة مع الجماعات الإسلامية المتشددة التى انحرفت عن طريق الإسلام الصحيح، ومن يعتنق الفهم الصحيح للإسلام يجد فيه أن الديمقراطية هى أساس النظام الاجتماعى والسياسى، بينما تدعو هذه الجماعات إلى نظام اجتماعى يقوم على سلطة الفرد.. وهم يحلمون باستعادة الخلافة، وهى فى تصورهم حكم الفرد الذى يعاونه عدد من المستشارين فيما يقترب من نظام الحزب الواحد، وقد ظل بهاء فى كتاباته يسوق الأدلة على فساد رأى هذه الجماعات فى دعوتها إلى تنصيب أمير يخضع له الجميع ويقسمون له على السمع والطاعة باعتباره الناطق باسم الإسلام والمعبر عن إرادة الله سبحانه وتعالى والذى لا يقع فى خطأ كسائر البشر ولا يطرأ عليه فساد أو انحراف.. والإسلام لا يعرف الدولة الدينية ولا يعرف حكم الفرد، ولكنه يدعو إلى دولة مدنية تطبق تعاليم الدين ويمارس فيها الشعب حقه فى المشاركة فى الحكم ومحاسبة الحاكم، فليس للحاكم فى الإسلام قداسة ولا سلطة إلهية.
ويذكرنا الدكتور مصطفى عبد الغنى فى دراسته الشاملة عن أحمد بهاء الدين بأن بهاء تصدى لمجموعة السلفيين المتعصبين الذين تبنوا نظرية مؤداها أن الحاكم المسلم ليس مضطرا للشورى، وإن لجأ إلى الشورى فهو غير ملزم بما تستقر عليه آراء مستشاريه، وكتب بهاء كثيرا عن الفقهاء الذين قدموا تفسيرات للقرآن تؤيد رغبات الحكام مما جعل الإسلام على أيديهم وسيلة للنفاق وتحقيق المصالح الشخصية، والمنافع الدنيوية، ومن هؤلاء من أعلن أن الديمقراطية مستوردة ودخيلة على الإسلام.
ويقول بهاء: ليس المهم إطلاق اسم «الديمقراطية» ويمكن أن نطلق عليها اسم «الشورى» ولكن بشرط أن تكون معبرة عن رأى أغلبية الشعب، وملزمة للحاكم، بحيث لا يتخذ قرارا يتعلق بمصير الأمة دون الرجوع إلى أًصحاب السلطة الحقيقية، أى إلى الشعب فى مجموعه فى القضايا المصيرية وإلى ممثلى الشعب ونوابه فى التشريعات التى تنظم شئون المجتمع، وأن يخضع الحكام على مختلف درجاتهم للرقابة الشعبية عن طريق ممثلى الشعب، وفى النهاية سنجد استحالة تطبيق نظام الشورى الذى كان مطبقا فى عصور الإسلام الأولى حين كان المجتمع الإسلامى صغيرا، ويمكن أن يجتمع أهل الحل والعقد جميعهم فى المسجد أو فى مجلس الحكم، وقد أصبح المجتمع اليوم مجتمعا كبيرا، يضم عشرات الملايين ولا يمكن أن يجتمعوا معا، وليس أمامهم إلا اختيار ممثلين عنهم وفقا لنظام الانتخاب الحر المباشر، وهذا هو نظام البرلمان الذى يجتمع فيه ممثلو الأمة المعبرون عن سلطتها ليتولوا شئون التشريع، ورقابة الحكومة ومحاسبتها ومنحها الثقة أو سحب الثقة منها.
***
وفى كتاب د. مصطفى عبد الغنى عن أحمد بهاء الدين أمثلة كثيرة على حرص بهاء على تخليص الإسلام مما أصابه بسبب التحريف والانحراف والجمود فى الفهم ومعاداة العقل وإغلاق باب الاجتهاد، ومن أمثلة الجمود إصرار هؤلاء على ملابس معينة ومظهر معين، والحكم على من يخالفهم فى ذلك بعدم الالتزام بحكم الإسلام، بينما أفتى الإمام محمد عبده منذ عشرات السنين بأن الإسلام ليس فيه زى معين، وأن العرب المسلمين كانوا يلبسون ملابسهم البدوية، وكان الفرس بعد أن دخلوا الإسلام يلبسون ملابسهم، وكذلك فعلت كل الشعوب التى أسلمت دون أن يلزمها الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة من بعده بارتداء زى معين، لأن الملابس تتغير بتغير الزمان والمكان ولا تمس جوهر الإسلام الثابت، ولكن الدعاة المحترفون ونافخو الأبواق لإثارة العامة يحكمون بالكفر على من يخالف الزى الذى يريدون فرضه على الجميع.
وكل ما يفرضه الإسلام أن تكون ملابس المسلم تستر عورة الرجل وتلتزم المرأة بما جاء فى القرآن بالنص الصريح بالنسبة لملابس النساء دون تزيد، وليس من حق أحد أن يفرض تفسيره هو بالقوة، ويزعم أن هذا هو الإسلام، وليس من حق جماعة سرية تعمل فى الخفاء ولا تعلن فكرها أن تتآمر لتفرض فكرا أو تفسيرا معبرا عن التعصب وضيق الأفق أو لتحقيق مصلحة معينة، ولا تدرك هذه الجماعات أن عصور الإسلام الذهبية كانت مزدهرة بسبب إطلاق حرية التفكير وفتح باب الاجتهاد وإعلاء قيمة العقل والعلم، ولو كانت هذه الجماعات مخلصة وصادقة فى السعى إلى استعادة مجد الأمة الإسلامية لكانت دعوتها هى التفكير فى المستقبل، والالتحاق بركب الحضارة الحديثة، وتشجيع البحث العلمى وإطلاق ملكات الفكر والإبداع دون قيود كما كان الحال فى عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، ولكانت تعمل على كسب عقول الناس بالحوار والإقناع وليس بغرض الخضوع وممارسة الإرهاب.
وأشار بهاء كثيرا إلى كتاب العقاد «التفكير فريضة إسلامية» وهو كتاب رأى أنه يجب على كل مسلم أن يقرأه جيدا ليدرك حقيقة الإسلام.
وفى معارضته لفكر وأسلوب القيادة فى الجماعات الإسلامية يكرر بهاء كثيرا انحراف هذه الجماعات بادعاء العصمة لأمير الجماعة أو غيره من قادتها، بينما العصمة اختص بها الله الرسول صلى الله عليه وسلم وحده ولا تمتد إلى غيره من البشر كائنا من كان.
ونحن لسنا اليوم فى صدر الإسلام، فلا نبى بيننا، ولا حتى خلفاء راشدين، فلا يجوز ولا يليق الاستشهاد بالرسول صلى الله عليه وسلم فيما يفعله أى إنسان فى هذا الزمان، فللرسول صلى الله عليه وسلم خصوصية ليست لأحد غيره أبدا.. والقرآن بالفعل هو دستور المسلمين، ولكن من الذى يفسر نصوص القرآن؟.. يفسرها بشر، وتختلف تفسيراتهم باختلاف العقول والأزمان والأماكن، ومن الذى سيطبق القرآن؟ سيطبقه بشر وفقا لفهمه ورؤيته، وربما وفقا لمصالحه واهوائه، فنظام الحكم دائما وفى كل الأحوال هو نظام يضعه بشر ويطبقه بشر، ولابد أن يكون واضحا الفرق بين ما هو إلهى وما هو بشرى، ومادام نظام الحكم يديره بشر، فليس هناك ما يمنع فى الشريعة من الأخذ بالنظم الحديثة للحكم مثل اختيار الحاكم بالانتخاب والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
***
وكانت بينى وبين أحمد بهاء الدين مساجلة انتصر فيها طبعا، فقد كتبت مقالا فى الأهرام طالبت فيه بأنه يكون للأزهر موقف من الآراء والمواقف المتناقضة فى شئون الدين والدنيا، وكتب أحمد بهاء الدين مقالا يعارض فيه هذا الرأى ويقول: ليست لأية مؤسسة دينية سلطة اتخاذ قرار أو إصدار تشريع، وليس لرجال الدين سلطة تعطيهم الحق فى المشاركة فى إدارة شئون الدولة أو التدخل فى شئون الحكم والسياسة، وتصدى لشيخ كبير له شعبية جارفة أعلن يوما رفضه لدخول الكهرباء إلى الريف وساق على ذلك آيات من القرآن وأحاديث نبوية، فقال بهاء: إن الشيخ الجليل من حقه أن يكون له رأى- نقبله أو نعارضه- ولكن ليس من حقه أن يقوم بتسخير آيات القرآن الكريم لتدعيم رأيه فى شأن من شئون الدنيا التى استجدت فى هذا العصر ولم تكن موجودة فى وقت نزول القرآن، وليس من حق أحد أن ينسب إلى الشريعة ماليس فيها.
***
ومعركته حول التراث لا تنسى، فقد هاجم الذين ينبشون فى الكتب القديمة بحثا عن الأفكار الغريبة التى تسللت إلى الفكر الإسلامى فى الماضى، ويقول: ليس كل كتاب أو اجتهاد مضى عليه ألف سنة يعتبر تراثا، وليس كل من أبدى رأيا قبل ألف سنة له من قدرة العقل والتفسير ما يفوق قدرة المجتهدين والمفسرين فى العصر الحديث، ففى مراحل النهضة الإسلامية ظهر الفلاسفة والمفسرون العظماء، وفى عصور التخلف ظهر دعاة الجمود والتخلف مما يفرض علينا التمييز بين الغث والثمين عند العودة إلى التراث. وفتح الباب للاجتهاد الدائم وقراءة كتب التراث القديمة باستخدام العقل وعلى سبيل المثال ليس من الإسلام فى شىء ما يقول به البعض من تحريم الفنون وإلزام المسلمين بملابس وبطعام وبأسلوب تفكير بعصر من عصور الماضى.
العقل والحرية هما أهم ركائز فكر أحمد بهاء الدين.
وليس هذه كل معارك رائد الإصلاح وداعية التقدم، فقد كانت معاركه كثيرة وكلها لوجه الله والوطن.