خدعة رفع المصاحف.. مرة أخرى
كانت أول وأكبر فتنة فى الإسلام يوم رفع فريق من المسلمين المصاحف لإثارة المشاعر الدينية, بينما كانت أهدافهم تحقيق مصالح سياسية لا علاقة لها بالدين. كان ذلك يوم موقعة صفين بين أنصار الإمام على وأنصار معاوية. فقد رفع أنصار معاوية المصاحف على الرماح وطلبوا تحكيم كتاب الله.
ونحجت الخديعة فأختار معاوية عمرو بن العاص ليمثله, وأختار مأنصار على أبا موسى الأشعرى, بينما أنشقت جماعة رفعت شعار "لا حكم إلا الله", أى لا حكم لعلى ولا لمعاوية ولكن المسلمين إلا الله. وهو شعار شديد الغموض والديماجوجية, ولكنه وجد من يردده بعد ذلك كثيرًا. واتقف المحكمان على عزل على ومعاوية معًا لوقف نزيف الدم بين أنصار كل منهما وترك اختيار حاكم آخر لجموع المسلمين.
وبالفعل أعلن أبو موسى الأشعرى عزل الإمام على, لكن عمرو بن العاص كشف الخدعة فأعلن أنه يثبت معاوية, وبذلك تحولت هذه الفتنة إلى جزء من تراث المسلمين يكررها كل من له أغراض سياسية فيرفع المصحف ويستغل شعار "لا حكم إلا الله", وما أن يصل إلى السلطة حتى يكشف عن حقيقة نواياه فيكون الحكم له وليس لله, ويمارس سلطة دينية إليهية – ليست من حق البشر – فيحكم على من يخالفه بالكفر وبالخروج على الشريعة, وما أسهل, وما أكثر ما ألصقت هذه التهمة بمسلمين يؤمنون بالله ورسوله.
وكان الشيخ محمد عبده أول من تصدى لكشف هذا الخداع بخلط الدين بالسياسة وإستغلال المشاعر الدينية للوصول إلى تحقيق أهداف دنيوية لا علاقة لها بالدين, وحارب بقوة إدعاءات طائفة من المسلمين بأنهم هم وحدهم الممثلون للشريعة والناطقون بأسمها, وأنهم الأصلح والأقدر على تطبيق الشريعة والحكم على المختلفين معهم بالكفر. وكان صريحًا فى بيان أن الإسلام لا يعرف الحكومة الدينية, بل إنه يفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية لإختلاف طبيعة كل منهما, وفى كتاباته أوضح أن الإسلام جاء ليهدم السلطة الدينية, وبحسب تعبيره فإن الإسلام لم يبق للسلطة الدينية أثرًا. ولم يدع لأحد من البشر سلطانًا على أحد من الناس فى أمور الدين, وأن الإسلام يعتق المسلم من كل رقيب عليه فيما يتعلق بالإيمان فهذا أمر بين العبد وربه وليس عليه رقيب سوى الله وحده وليس له أن يفرض فكرًا أة عملاً, فلكل مسلم أن تأخذ أصول عقيدته وما يعمل به من الكتاب والسنة دون وسيط ليس فى الإسلام وسطاء بين الخلق والحق.. وعلى كل مسلم أن يحصل من الوسائل ما يؤهله لهذا الفهم.
محمد عبده كان رائدًا فى بيان أن الإسلام لا يعرف الحاكم المعصوم, ولا يعطى للحاكم الحق فى أت ينفرد بتفسير أحكام الشريعة, وأن رؤية الإسلام لنظام الحكم هى ذاتها الرؤية السائدة فى العصر الحديث وهى لأن الأمة مصدر السلطات, ويقول صراحة: "إن الحاكم فى الإسلام حاكم مدنى ولا يجوز له أن يخلط أمو الحكم السياسة بما يسميه الأفرنج "ثيوقراطية", أى سلطات إلهى يسبغ عليه حصانة دينية تمنع المسلمين من مخالفته. ومن المدهش أن يقول محمد عبده فى وقت مبكر جدًا: "إن من أعمال التمدن الحديث الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية, ولذلك أصبحت للكنيسة أمور الاعتقاد ومعاملة العبد لربه, وتركت للسلطة المدنية أمور التشريع وما يحفظ نظام المجتمع". وقد تصدى للقائلين بأن الإسلام يحتم الجمع بين السلطتين بقوله: "إنلم يكن للحاكم سلطة دينية فهل تكون هذه السلطة للمفتى أو لشيخ الإسلام؟ إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام, وكل سلطة لهؤلاء هى سلطة مدنية فلا يسوغ لواحد منهم أن يدعى الحق فى السيطرة على إيمان أحد أو على عبادته لربه".
هكذا كان محمد عبده منارة أضاءت الطريق الصحيح للإسلام. وقال إن معظم ما تراه مما يسمونه إسلامًا ليس بإسلام, "نعوذ بالله منهم وما يفترون على الله ودينه".