بين العقل والنقل

عندما صدرت رواية سلمان رشدى "آيات شيطانية" اشتعل المسلمون بالغضب لما فيها من إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة أن الآيات الشيطانية التى كان يقصدها سلمن رشدى هى الآيات المعروفة فى كتب التراث باسم "قصة الغرانيق" وكان رده على ثورة المسلمين عليه أن أشار إلى المراجع التى أخذ منها مثال هذه القصة.

والقصة رواها السيوطى فقال: أخرج ابن أبى حاتم، وابن جرير، وابن المنذر، من طريق بسند صحيح "كما يزعم" عن سعيد بن جبير، قال: قرأ النبى صلى الله عليه وسلم بمكة آية "والنجم" فلما بلغ "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون ما ذكر آلتهنا بخير قبل اليوم، فسجدوا وسجد، فنزلت الآيات: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم، ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاشية قلوبهم وإن الظالمين لفى شقاق بعيد..". وهذه الرواية أخرجها البزار، وابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقد روى ابن حجر والسيوطى هذه الرواية اهتمادًا على ما نسب إلى ابن عباس وسعيد بن جبير.

هذه الرواية نموذج لما يمكن أن نجده فى كتب التراث من روايات وأحاديث غريبة لها سند من أسماء معروفة ولكنها لا تتفق مع العقل. وقد علق على ذلك فضيلة الدكتور محمد أبو شهبة عميد كلية أصول الدين الأسبق فى كتابه: "الإسرائيليات والموضوعات" الذى أصدره مجمع البحوث الإسلاميةعام 1984 فقال إن هذه القصة غير ثابتة لا من جهة النقل ولا من جهل العقل، ونقل عن القاضى عياض قوله: إنما أولع بهذا الحديث وبمثله المفسرون والمؤرخون والمولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف "أى الكتب" كل صحيح وسقيم. وأضاف شيحنا الدكتور أبو شهبة أن نسج هذه القصة مهما تأول فيه المتأولون وهو مهلهل متداع لا يثبت أمام البحث، ويكفى أنها تخالف قوله تعالى: "إن عبادى ليس لك عليهم سلطان.." فليس للشيطان سبيل للتسلط على المؤمنين فكيف برسول الله؟


وكان تعليق الإمام محمد عبد على هذه الرواية أن وصف العرب لآلهتهم بالغرانيق لم يرد لا فى نظامهم ولا فى خطبهم ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوقف كان جاريًا على ألسنتهم، وهكذا خضعت الرواية إلى البحث العقلى.


هكذا نرى أن الكتب القديمة فيها الكثير من الروايات والأحاديث والأقوال فى تفسير القرآن ما لا يتفق مع العقل وهذا ما جعل الإمام محمد عبده وهوه يتحدث عن أصول الإسلام فى كتابه "الإسلام دين العلم والمدنية" الذى أصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عام 1964 يقول: إن كل أمر من الأمور الخارقة للعادة الغير المعتادة مما تواتر خبره أو اشتهر فليس مما يوجب القطع به عند المسلمين، أما الخارق لتحصيل اليقين فهو القرآن وحده، والقرآن هو الذى دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم، والإسلام لا يتخذ من الخوارق دليلاً. وهذا ما جعل الإمام محمد عبده يعتبر الأصل الثانى للإسلام هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، وإذا تعارض النقل والنقل يؤخذ بما يدل عليه العقل، ويبقى فى النقا طريقان: طريق التسليم به مع الاعتراف بالعجز عن فهم وتفويض الأمر فى علمه إلى الله، وطريق تأويل المنقول. ومن أصول الإسلام أيضًا – كما ذكر الإمام محمد عبده – الاعتبار بسنن الله فى الخق ويتبع ذلك ألا ينظر إلى العجائب. ويعيب الإمام محمد عبده جمود الفقهاء وترتديهم لما فى الكتب وجمودهم عند المنقول دون أن يعيدوا النظر فيه ومدى ملائمته مع حقائق العلم والعقل.

المؤسف أن بعض أهل العلم يرددون أمثال هذه المرويات وينقبون عنها فى الكتب القديمة فى عصر الفمتو الثانية  والنانوتكنولوجى!


 




 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف