معارك أحمد بهاء الدين(1)

أعتقد أن كل صحفى، وكل كاتب وكل مثقف فى مصر والعالم العربى بل وكل شاب وشابة، يجب أن يدرس حياة وفكر أحمد بهاء الدين، ليس فقط لأن ذلك ضرورى لتكوينه العقلى ولبناء شخصيته، ولكن ليتعلم كيف يفكر بعقلانية، وكيف يوازن بين الخيارات المطروحة أمامه، وكيف يحرص على القيم، وأولها قيمة الوطنية والشرف.. شرف الكلمة، وشرف العمل، وشرف الموقف.. وليتعلم ألا يبيع وطنه أو يبيع ضميره مهما كان الثمن، وكان الإغراء.
وفكر أحمد بهاء الدين له خصائص مميزة لا تتوافر فى كثير ممن يملأون ساحة الصحافة اليوم، وفى دراسة الدكتور مصطفى عبد الغنى التى نشرها فى كتابه «أحمد بهاء الدين سيرة قومية» تناول فيه تفاصيل حياة ومواقف أحمد بهاء الدين وانتهى فيه إلى أن بهاء مفكر مغامر لا يتردد فى طرح قضية غير مألوفة، ويخوض معارك دفاعا عما يعتقده ويتحمل الكثير من السهام سواء من رجال الدين المتشددين والجماعات التى ابتعدت عن الإسلام السمح واختارت التعصب والعنف، وأيضاً تحمل مشاكل عديدة بسبب إصراره على مواجهة الفساد بكل صوره. ويذكرنا الدكتور مصطفى عبد الغنى بالحملة التى شنها بهاء على شمس الدين الفاسى، السعودى الجنسية المغربى الأصل الذى جاء إلى القاهرة على اعتبار أنه رئيس المجلس العالمى للصوفية واشترى عددا غير قليل من علية القوم وكبار وصغار الصحفيين بأمواله التى كان ينفقها بالملايين بغير حساب، ويدفع مئات الآلاف فى إعلانات بالصحف حتى صارت شخصيته محورية يتهافت الجميع على الاقتراب منها والاغتراف من أمواله. وقد أشار جميل عارف مدير تحرير مجلة أكتوبر الراحل إلى بعض المنتفعين من الفاسى فى كتابه الشهير «أنا وبارونات الصحافة»، أما بهاء فقد كتب مقالا هاجم فيه السلطات التى سمحت للفاسى وهاجم وزير الأوقاف لأنه أعطى للفاسى الفرصة لممارسة دوره الغريب على اعتبار أنه قيادة روحية بينما الهجوم عليه فى صحف العالم لما ارتكبه فى عدد من الدول والمدن الأمريكية والأوروبية من لوس أنجلوس وفلوريدا إلى لندن وسريلانكا وأخيرا القاهرة، ولكن جريدة الأهرام لم تنشر المقال، ويتصل به من يطلب منه أن يكتب مقالا آخر لأن «الأهرام» له مصالح مع الفاسى ولا يريد الإساءة إليه، ويمتنع بهاء عن كتابة عموده اليومى «يوميات» فى الأهرام، ويفضل البقاء فى منزله. بينما كان «كّدابين الزفة» يهاجمونه ويشنون عليه حملة لم تتمكن من النيل منه وهو العملاق الشريف الذى لم يتكسب ولم يتربح ولم يساوم ولم يمارس بقلمه الابتزاز أو الاستجداء.. وكانت الحملة عليه مما ينطبق عليه قول الله تعالى «ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار» صدق الله العظيم.
وفى منتصف الستينات نشر بهاء كتابا قال فيه إن الصراع بين العرب وإسرائيل هو فى الأساس صراع حضارى وليس صراعا عسكريا، وكالعادة استغل خصومه هذه الفكرة ليروجوا الادعاء بأن بهاء يشكك فى القدرة العسكرية لمصر والعالم العربى وأنه يدعو إلى تأجيل المواجهة إلى حين استعادة العرب لحضارتهم المفقودة. كان هدف بهاء من هذا الطرح التنبيه إلى ضرورة إعادة بناء العقل العربى والمؤسسات العربية بما يتناسب مع الحضارة الحديثة، وعدم الاستسلام للجمود والظن بأنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان، أو تصور إمكان العودة إلى فكر وممارسات الماضى لتكرار ما كان عليه المجتمع العربى منذ قرون ورفض التحديث بينما تتعامل اسرائيل بعقلية العصر وتتقدم بالعلم إلى أن تتمكن من أن تصبح دولة نووية! كان ما قاله بهاء يبدو فى نظر كثيرين محبطا للعرب فى وقت يحتاجون فيه إلى الثقة بالنفس، بينما كان بهاء يريد أن يقدم الحقيقة لكى يكون الاعتراف بها بداية للتغيير والتقدم وإعادة التفكير وإعادة البناء.. كان داعية للنهضة وللحداثة وللتقدم ولكن أهل السوء ادعوا أنه داعية لليأس.. ولكن المجتمع تفهم ذلك بعد عشر سنوات تقريبا وردد الرئيس السادات فى زيارته للقدس هذا المعنى.. ويذكر لبهاء أنه فى أعقاب هزيمة 67 كان الوحيد الذى ارتفع صوته بالنقد للأوضاع التى أدت إلى النكسة ومطالبته بالبدء من جديد لبناء العقل والفكر والثقافة والإعلام والقيم الاجتماعية وكتب كثيرا عن خطورة استمرار «الفجوة الحضارية» بين العرب والعالم المتقدم.
وكان بهاء نقيبا للصحفيين فى أعقاب هزيمة 67 حين قامت المظاهرات تطالب بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة وإعادة بناء مؤسسات الدولة وفتح الأبواب للديمقراطية وحرية الرأى بعد أن تسبب غياب الحريات فى هذه الهزيمة.. وتحرك ضمير بهاء مع الجماهير وأصدر بيانا طالب فيه بالإسراع فى محاسبة كل المسئولين عن الهزيمة مهما كانت مواقعهم، وتوسيع قاعدة الديمقراطية والمشاركة الحقيقية فى القرار، وإصدار قوانين تنظم الحريات وتكفل الضمانات الكفيلة بعدم التراجع عنها أو الانقضاض عليها، وإجراء انتخابات اللجان النقابية ومجالس النقابات التى تجمدت وحرمت من حقها من انتخاب قياداتها، وتحقيق العدالة فى توزيع الأعباء المترتبة على الاستعداد لإزالة العدوان، بحيث تتحمل كل الفئات نصيبها بما يتناسب مع قدراتها ويتحمل الأغنياء النصيب الأكبر وليس العكس.. وصدر هذا البيان باسم مجلس نقابة الصحفيين يوم 28 فبراير 1968، واعتبر أهل السلطة أن هذا البيان فيه تجاوز بخاصة مطالبته برفع الرقابة على الصحف، واعتباره أن المظاهرات هى تعبير مشروع عن إرادة شعبية لإزالة الفساد وضرورة التغيير بينما يعتبرها النظام تعبيرا عن القلة المنحرفة.
وغضب الرئيس عبد الناصر من بهاء لمسئوليته عن صدور هذا البيان، لأنه كان فى ذلك الوقت يفضل أن يلزم الجميع الصمت لإتاحة الفرصة له لإعادة بناء القوات المسلحة فى جو من الهدوء والاستقرار السياسى.. وتحمل بهاء نتائج غضب الرئيس عبد الناصر ولم يقبل أن يلتزم بالصمت فى قضية كان يعتبرها قضية مصير وطن.
وحتى بعد عبد الناصر أثار غضب الرئيس السادات عليه فى سنة 1974، بعد أن بدأ السادات سياسة الانفتاح الاقتصادى، وتحول هذا الانفتاح من انفتاح إنتاجى لزيادة الناتج القومى والثروة القومية وتحسين مستويات معيشة الفقراء إلى انفتاح استهلاكى وظهور طبقة من الانتهازيين والمحتكرين والنصابين ونهبوا المال العام وأراضى الدولة.. فكان بهاء هو الصوت الوحيد الذى ارتفع بقوة يهاجم هذا الانفتاح ويكتب فى الصفحة الأولى من الأهرام «12 يوليو 1974» مقالاً بعنوان «الانفتاح ليس سداح مداح» وأثار هذا المقال ضجة وأدى إلى الشعور العام بالقلق والغضب يمكن أن يصل إليه هذا الانفتاح، وذهب رئيس الوزراء الدكتور عبد العزيز حجازى إلى الرئيس السادات يشكو إليه من الحالة التى تولدت فى الشارع نتيجة لهذه الحملة على الانفتاح فقرر الرئيس السادات منع بهاء من الكتابة ورفض مناقشته فى وجهة نظره عن الأسلوب الذى جرى به تطبيق سياسة الانفتاح..
كان بهاء أول من طالب بعد هزيمة 67 بإقامة دولة فلسطينية على الأرض التى لم تحتلها إسرائيل وتحصل على اعتراف دولى بها يجعلها قادرة على تمثيل الشعب الفلسطينى والمطالبة بتحرير الأرض المحتلة، ونبه إلى أن تأجيل إقامة هذه الدولة واستسلام الفلسطينيين لخلافاتهم سوف يسمحان للاستعمار الجديد «الأمريكى - الإسرائيلى» باستمرار احتلال الأراضى الفلسطينية وبناء المستوطنات عليها. والغريب أن الفلسطينيين هم الذين هاجموا بهاء واعتبروا أن دعوته هذه لا تعبر عن فكره هو ولكنها تعبر عن رأى الرئيس عبد الناصر، وأن تنفيذها سيؤدى إلى تجميد المقاومة الفلسطينية للاحتلال وانشغالها بتدبير شئون هذه الدولة وستجعل العالم يتصور أن الفلسطينيين وقد أقاموا دولتهم فقد حققوا هدفهم وانتهى الأمر ويصبح لإسرائيل حجة فى ضم الأراضى المحتلة.. وكان هذا التفسير كعادة الفلسطينيين فى تغفيل الفرص الضائعة، لأن الرئيس عبد الناصر طلب من بهاء - عن طريق مسئول فى الاتحاد الاشتراكى - أن يتوقف عن طرح هذا الاقتراح حتى لا يتهم عبد الناصر بأنه هو الذى أوحى به. ولكن بهاء لم يتراجع وظل يشرح فكرته فى مقالات متعددة.. وطبعا لم يقتنع الفلسطينيون بها إلا بعد سنوات طويلة.. بل وبعد غياب بهاء نفسه.. وكان فى ذلك رد اعتبار لهذا المفكر العظيم الذى دفع ثمن أفكاره الإصلاحية التى لم تصل إلى الأذهان إلا متأخرة.. وهذه هى عظمة المفكر الكبير.. إنه يسبق عصره..

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف