بحث عن السلبية
كانت الحوارات حول المواد الجديدة للدستور فرصة للتعرف على أتجاهات النخبة من السياسيين والمفكرين وقادة الرأى العام. معظم الحوارات كانت موضوعية وبناءة ولقيت تجاوبًا من المتابعين لها, ولكن ما دعا إلى القلق ذلك الأنقسام الحاد بين الأقلية التى كانت تدعو الناخبين إلى إتخاذ موقف سلبى بالإمتناع عن التصويت, وبين الأغلبية التى كانت تدعوهم إلى المشاركة وإبداء الرأى سواء بالقبول أو الرفض, بينما تستسلم الاغلبية كعادتها بعدم المشاركة كما تفعل فى كل الانتخابات والاستفتاءات ليس استجابة لدعوة المعارضة ولكن لأسباب أخرى تتعلق بالتكوين الثقافى والسياسى.
والآن, بعد الاستفتاء نحتاج إلي وقفة أمام ظاهرة السلبية فى المجتمع المصرى التى تتجلى فى مواقف تستلزم المشاركة, وتدل بذلك على وجود مرض اجتماعى يجب البحث عن أسبابه والعمل بجدية على علاجه, والتوصل إلى الإجابة الصحيحة عن السؤال: لماذا يعزل المواطن ـ العربى عمومًا ـ نفسه عن الشأن العام, وما هى القيم التى تحكم سلوكه الاجتماعى وتوجه علاقاته الفردية والاجتماعية على أساس أن السلبية فى مظاهرها المختلفة تمثل أهم العوائق للتنمية ولتحديث المجتمعات العربية.
وفى بحث للمجالس القومية أن السلبية تظهر فى مرحلة الدراسة فى الغش فى الامتحانات حتى وصلت إلى "الغش الجماعى" وفى دراسة ميدانية لأكبر علماء النفس العرب – الدكتور مصطفى سويف – أن 56% من طلبة المدارس اعترفوا بقيامهم بالغش فى الامتحان, وهو ما يعنى أنهم – فى هذه المرحلة المبكرة من العمر – ليست لديهم ثقة فى جدوى الاجتهاد وبذل الجهد فى التحصيل. وتكشف البحوث التى اجرتها الجامعات ومركز البحوث الاجتماعية عن ضعف الثقافة السياسية لدى الشباب وعزوفهم عن المشاركة السياسية, ويحذر تقرير المجالس القومية من أن هذا الوضع يجعل الإنتماء والولاء للوطن فى خظر, ويمكن أن يؤدى إلى نمو فئات الرفض والعنف.
وفى تفسير أسباب هذه الأزمة يشير تقرير المجالس القومية إلى أن قيمة العمل المنتج استيدلت بها قيمة المال ونزعة الحصول عليه بأسرع وأسهل وسيلة بغض النظر عن نوعية العمل وقيمته أو حتى مشروعيته! يضاف إلى ذلك الفراغ الفكرى لدى الشباب وتحول اهتماماته إلى مجالات سطحية فى الثقافة والفن والدين والمعرفة عمومًا, واستخدم الانترنت للبحث عن المواقع المدمرة للروح والعقل, كما أن أسلوب التربية يشجع الشباب على السلبية والاتكالية وعدم الإحساس بالمسئولية تجاه الأسرة والمدرسة والمجتمع.
والرأى الغالب لدى الباحثين أن الشخصية المصرية ـ والعربية عمومًا ـ لم تعرف السلبية ـ تاريخيًا ـ والدليل على ذلك الحضارة المصرية والحضارة العربية وهما من أعظم الحضارات التى عرفتها البشرية وكل منهما أسست لكل حضارة بعدها ولكن فريقًا من الباحثين يرى أن السلبية لها جذور فى المجتمع لفتت أنظار كثيرين ممن كتبوا عن طبائع المصريين عبر التاريخ, أما علماء الاجتماع فإنهم متفقون على أن السلبية ليست من الصفات الفطرية للمجتمع أو للفرد, وأنها وليدة ظروف تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادية, فإذا كان هيكل المجتمع يتكون من طبقتين, قلة تملك وتحكم, وأغلبية لا تملك ولا تشارك فى الحكم , فإن هذا التمايز يؤدى إلى تعميق قيم السلبية وعدم المشاركة.
ومن أسباب السلبية التى يشر إليها تقرير المجالس القومية التغيير الكبير فى المجتمع وإنتقال فئة محدودة إلى قمة الهرم الاجتماعى بما تحقق لها من ثروات كبيرة فى فترات قصيرة من أعمال مشروعة أو غير مشروعة, وتزايد سماسرة الصفقات الكبرى, مع تدهور أوضاع فئات من الطبقة الوسطى تكاد تنحدر إلى القاع وتراجع الدولة عن توفير المساكن. الكافية للفقراء لقصور مواردها أو لتحول مفهومها للسكن من اعتباره خدمة إلى إعتباره سلعة لمن يملك ثمنها.
السلبية إذن ليست قدرًا مقدورًا على الإنسان العربى, ولكنها وليدة الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية فإذا تغيرت هذه الظروف فسوف تزول السلبية تلقائيًا ويعود المواطن العربى كما كان أجداده.. صانع حضارة.