الوزير المظلوم


الوزير المظلوم في مصر هو وزير البيئة‏(‏ ليس الوزير الحالي فقط ولكن جميع الوزراء السابقين أيضا‏)‏ لأنه يعرف اكثر من غيره حجم التدهور الذي حدث وأمامه قياسات التلوث في الماء والهواء والطعام والأرض الزراعية‏,‏ وهو يبذل مع اجهزته وخبرائه جهودا كبيرة ولكنه لايجد المساعدة الكافية من كل الأطراف المسئولة عن التدهور وعن الاصلاح‏.‏

لن تستطيع وزارة البيئة وحدها حل مشكلات البيئة المتراكمة‏.‏ وتدعو الحالة التي وصلت اليها البيئة في مصر إلي أن يعلن مجلس الوزراء حالة الطوارئ القصوي ويتابع في كل جلسة ما فعلته كل وزارة لاصلاح ما افسدته من ضرورات الحياة الانسانية‏:‏ الماء والهواء والطعام والأرض‏..‏ وليس معني ذلك انه لم تبذل جهود للاصلاح‏,‏ ولكن معناه ان الجهود التي بذلت ـ ليست قليلة ـ ولكنها ليست كافية بدليل ما جاء في التقرير الاخير لوزارة البيئة عن حالة البيئة في مصر‏.‏

وليس هناك من يجهل العلاقة المؤكدة بين زيادة معدلات التلوث في الهواء وبين معدلات الوفاة بأمراض القلب وسرطان الرئة والالتهاب الرئوي‏,‏ بينما يسجل التقرير أرقاما تؤكد ان نسبة الأتربة وغاز ثاني اكسيد الكبريت وغاز ثاني اكسيد النتروجين تزيد بنسبة أكثر من‏100%‏ عن الحد المسموح به قانونا‏,‏ وأن نسبة الرصاص ـ وهو عنصر سام ـ في الهواء والطعام زادت كثيرا علي الحد المسموح به وزادت عما كانت عليه في العام السابق‏,‏ وعنصر الرصاص يصل إلي دم الانسان عن طريق الجهاز التنفسي ـ أو المعدة ـ ويؤثر تأثيرا ضارا علي جهاز المناعة‏,‏ وعلي الجهاز الهضمي‏,‏ وعلي الكلي والكبد والاوعية الدموية‏,‏ والأطفال هم أول الضحايا لأن اجسامهم تمتص هذا العنصر السام بنسب أعلي من الكبار‏.‏ وفي القاهرة‏200‏ ألف دراجة بخارية ينبعث منها‏120‏ ألف طن من الملوثات وكل واحدة منها تطلق في الهواء كمية من الهيدروكربونات تعادل ما تطلقه‏15‏ سيارة تعمل بالبنزين‏!!‏

والمياه ليست أحسن حالا‏,‏ فنتائج التحليل اثبتت ارتفاعا في تركيز بعض المواد العضوية تزيد علي الحد الأقصي المسموح به وفق معايير منظمة الصحة العالمية‏,‏ وذلك نتيجة حرق الكيماويات والمخلفات من المصانع علي جانبي النيل‏,‏ والصرف الصحي‏,‏ والصرف الزراعي في مياه النيل‏,‏ ومخلفات المراكب والفنادق العائمة‏.‏ يسجل التقرير وجود مواسير الصرف الصحي علي ترعة الاسماعيلية‏,‏ والقاء الأهالي مخلفات الحيوانات‏,‏ كما يسجل زيادة التلوث في مياه فرعي دمياط ورشيد نتيجة وجود المزارع السمكية فيهما‏.‏ أما الترع فان التلوث فيها اكبر نتيجة اختلاط مياه المصارف الزراعية والصرف الصحي‏,‏ واثبتت التحليلات لمياه المصارف ارتفاع تركيزات الاملاح والعناصر الثقيلة خاصة المصارف في نطاق القاهرة الكبري لأن المصانع والمسابك تلقي مخلفاتها الكيميائية والصناعية فيها‏.‏ وحتي المياه الجوفية تثبت التحليلات زيادة تركيزات الحديد والمنجنيز فيها عن المعايير التي وصفتها منظمة الصحة العالمية‏,‏ ووجدت مياه الآبار الضحلة ملوثة ببكتيريا القولون نتيجة الصرف الصحي دون اتباع الشروط والاحتياطات الواجبة لخزانات الصرف الصحي للمنازل‏,‏ ويسجل التقرير ان الاسكندرية مازالت تلقي مخلفات الصرف الصحي في البحر بعد معالجتها معالجة أولية في بحيرة مريوط‏,‏ وليست الاسكندرية وحدها‏,‏ فهناك‏12‏ مدينة رئيسية علي سواحل البحر المتوسط تلقي مخلفات الصرف الصحي في البحر‏,‏ و‏6‏ مدن فقط لديها امكانات للمعالجة الجزئية لهذه المخلفات‏..‏ وتحليلات مياه البحر المتوسط اثبتت وجود كمية كبيرة من الاملاح الذائبة وبكتيريا القولون‏!‏ وفي مصر‏57‏ ميناء تجاريا وبتروليا وسياحيا تلقي مخلفاتها من الزيت والصرف الصحي في البحر مما يهدد بوضع المواني المصرية في قوائم المواني غير المتوافقة بيئيا‏.‏ وهناك‏21‏ مصرفا تصب‏3‏ ملايين متر مكعب في قناة السويس بما يمثل خطورة علي الكائنات البرية والمصطافين‏.‏

واذا لم ينتفض مجلس الوزراء بكامل هيئته لهذا التقرير وفيه ما هو اكثر مما يضيق المقام عن ذكره‏,‏ فماذا يمكن ان يجعله ينتفض اكثر من ذلك‏,‏ وقد وصلت المسألة إلي الصحة والمرض والموت؟

وتبدو الحكومة عاجزة ـ حتي الآن ـ عن معالجة الضوضاء التي وصلت في القاهرة والمدن الأخري إلي درجة تؤثر علي الصحة الجسمية والعقلية‏,‏ والتقرير يثبت ان نسبة من سكان القاهرة والمدن تعاني من الاجهاد العصبي‏,‏ وعدم القدرة علي بذل المجهود‏,‏ وان هذه النسبة تزداد سنة بعد سنة‏,‏ مما يؤدي إلي تناقص الانتاجية‏,‏ وعدم القدرة علي التركيز‏,‏ والمعاناة من التوتر الدائم وكل ذلك نتيجة التعرض لمستويات من الضوضاء تزيد علي المستويات العالمية اضعافا مضاعفة‏.‏

التقرير مليء بالحقائق والارقام ويشمل تسجيلا للجهود التي تبذلها الحكومة للاصلاح‏,‏ ولكن الواضح ان جهود الاصلاح اقل كثيرا مما يجب‏.


 



جميع الحقوق محفوظة للمؤلف