مجاذيب أمريكا!
لدينا مجموعة من (مجاذيب أمريكا) أصابهم الهوس بكل ما فى أمريكا ويريدون نقله وتطبيقه فى مصر.. ينادون بتحويل مصر إلى سوق مفتوحة على الآخر للمنتجات الأجنبية كما تفعل أمريكا.. وبيع الأراضى والمرافق والموانئ والمطارات والشركات للأجانب وهم يعلمون أن أمريكا تضع قيودا غير مكتوبة على تملك الأجانب. ولعلهم يتذكرون أن أمريكا منعت شركة من الإمارات من الحصول على عقد لإدارة أحد الموانئ الأمريكية، ولكنهم يطلبون ما هو أكثر، إنهم يطلبون تقليص الدعم على السلع والخدمات لتباع لمستهلكيها بثمن التكلفة الحقيقية وترفع الدولة يدها عن دعم الفقراء.. ومن يستطع دفع تكلفة التعليم يتعلم ومن لا يستطيع فلا يطلب ما ليس فى إمكانه ولا بأس من أن يتحول أبناء الفقراء إلى مجرمين أو متطرفين.. وهم يرون أن من لديه القدرة على دفع تكلفة العلاج يعالج. ومن ليست لديه القدرة فعليه أن يتحمل وزر فقره، وينطبق الحال على الشركات والهيئات الحكومية والمؤسسات الصحفية.. من يستطيع أن يقف على قدميه وحده يعيش ومن لا يستطيع فلا يبكى عليه أحد حين يموت لأنه يستحق الموت.
هذا التفكير خطير، لأن مصر ليست أمريكا.. ليس لدينا مساحة الأرض الشاسعة التى تعادل قارة بأكلها.. وليست لدينا وفرة الإنتاج الزراعى والصناعى والعلمى مثل أمريكا.. ولا الثروات البترولية والمعدنية ولا آلاف العلماء والمخترعين والمعامل.. ولا نتعامل بآلاف المليارات وبالتريليون فى الإيرادات والمصروفات.. وليست لدينا القوة السياسية والعسكرية التى لأمريكا.. وبالتالى فإن الأجانب يتملكون فيها ولكنهم لا يستطيعون أن يؤثروا فى سياساتها أو يتحكموا فى اقتصادها.. الإدارة الأمريكية هى التى تتحكم فى المستثمرين الأجانب.. والأمر يختلف بالنسبة لنا وللدول التى لها مثل ظروفنا.
باختصار فإن ما يصلح فى أمريكا لا يصلح عندنا، بل لا يصلح معظمه فى دول أوروبا.. فرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان لكل منها نظام يتفق مع ظروفها وتاريخها وقدراتها. وليس هناك دولة فى العالم تطبق النموذج السياسى والاقتصادى والاجتماعى الأمريكى بحذافيره.. ولكن المشكلة هى أن أمريكا تريد أن تفرض هذا النموذج على العالم، فلا تستطيع طبعا أن تفرضه على الدول القوية المتقدمة ولا تجد إلا الدول الصغيرة المحدودة القدرات فى العالم الثالث-وفى العالم العربى بصفة خاصة-وتمارس عليها الضغوط وتقدم لها الإغراءات.. وبسياسة العصا والجزرة تسعى أمريكا إلى أمركة الدول حتى يسهل قيادها.
وفى كل بلد من بلاد العالم الثالث مجموعة من مجاذيب أمريكا يرون أنها النموذج والمثل الأعلى الذى يجب تقليده فى كل شىء بحجة أن النجاح الذى حققته أمريكا يمكن أن يتكرر فى كل بلد يتبع النظام الأمريكى.. الاقتصادى والاجتماعى والسياسى.
الغريب أن هناك مفكرين أمريكيين كبارا يوجهون النقد المرير إلى النموذج الأمريكى ويطالبون بالتغيير.. ولكن مجاذيب أمريكا لا يعرفونهم ولا يعترفون بوجودهم، حتى بعد أن صدرت دراسات عديدة تشير إلى بدء انحسار قوة الامبراطورية الأمريكية وبدء ظهور قوى دولية أخرى وانتقال النظام العالمى خلال السنوات القادمة من نظام أحادى القطب إلى نظام متعدد الأقطاب.. أوروبا، والصين، واليابان، والهند.. الخ.
والغريب أيضا أن مجاذيب أمريكا لديهم هوس بالديمقراطية والحريات فى أمريكا ويريدون نقلهما إلى مصر والدول العربية مع أن حملات النقد التى يشنها الأمريكيون تزداد قوة لما أصاب الديمقراطية والحريات فى أمريكا من نكسة سلبت الأمريكيين حرياتهم الشخصية التى كانت موضع فخرهم حتى وزير العدل الأمريكى نفسه اعترف بوجود اعتداءات على حريات المواطنين الأمريكيين وليس المهاجرين والأجانب وحدهم كما تدعى الإدارة، ولا يخفى أحد فى الإدارة الأمريكية تدخل أجهزة الرقابة والمخابرات ومكتب التحقيقات الفيدرالية (إف. بى. آى) للتجسس على المواطنين، ومراسلاتهم ورسائلهم بالبريد الإلكترونى، ومكالماتهم الهاتفية وحساباتهم فى المصارف ومشترواتهم (عن طريق تتبع حركة شراء كل مواطن ببطاقة الائتمان وهى الوسيلة للتعامل والشراء فى أمريكا، والقانون (الديمقراطى) فى أمريكا يعطى للحكومة الحق فى سحب السجلات والتقارير الشخصية السرية والتى كان محظورا الإطلاع عليها وكان يعتبر الكشف عنها جريمة.. فأصبحت خصوصيات وأسرار الناس فى أمريكا مستباحة بالقانون! وبالقانون جرى إعداد قاعدة بيانات تتضمن أسرار الحياة الخاصة والتقارير الطبية وتحركات كل إنسان وكل شىء حتى حركة تداول الكتب فى المكتبات العامة والخاصة.. من الذى استعار هذا الكتاب أو ذاك.. ومن الذى اشترى هذا الكتاب أو ذاك.. وبالقانون مسموح فى أمريكا بتفتيش المواطنين فى أى وقت وأى مكان، وليس الأجانب فقط كما كان فى الماضى، حتى ولو لم تكن هناك دلائل أو شبهات عن تورط هؤلاء المواطنين فى أعمال إرهابية أو فى جرائم أخرى. وبالقانون يحظر إخطار أصحاب السجلات بأن المخابرات أطلعت على أسرارهم وحساباتهم وحياتهم الخاصة.. وبالقانون مسموح بتفتيش منازل المواطنين فى غيابهم، ثم إخطارهم بعد ذلك بأن بيوتهم تم تفتيشها.. أى أن انتهاك حرمة البيوت وحرمة الحياة الخاصة هما اليوم من خصائص الديمقراطية الأمريكية! وحتى اعتقال أى إنسان أصبح مسموحا به بالقانون. وبالقانون لا يتم تحديد مدة الاعتقال ولا يسمح للمعتقل بمقابلة محاميه.. وقد وقع الرئيس بوش مرسوما سريا يسمح بترحيل المعتقلين إلى بلاد تمارس التعذيب أثناء التحقيق معهم فى معتقلات سرية!
ومع ذلك فإن معظم مجاذيب أمريكا يعلمون أن التعليم فى أمريكا مجانى أو برسوم بسيطة فى مدارس وجامعات الحكومة وأن الجامعات الخاصة فى أمريكا لا تهدف إلى الربح وتغطى تكاليفها الباهظة من تبرعات الشركات والأغنياء وهى تبرعات بمليارات الدولارات تصل إلى الجامعات ومراكز البحوث ومؤسسات رعاية الفقراء والشيوخ والعجزة والمرضى غير القادرين.. ويعلمون أن فى أمريكا كوبونات الطعام لمن لا يجد الطعام وإعانة بطالة للعاطلين.. فهل يستطيعون تطبيق ذلك عندنا أو أنهم لا يعرفون إلا عقود العمل المؤقتة وإلغاء العقود الدائمة لتظل رقاب العاملين تحت السيف والتهديد.. ولا يعرفون إلا بيع الشركات دون إنشاء شركات جديدة بالأموال الناتجة عن البيع.
مشكلتنا مع مجاذيب أمريكا أنهم لا يريدون التفاهم والحوار، وقد أغلقوا عقولهم وأصبحوا متعصبين، ولا يستمعون إلا إلى النصائح الأمريكية ونصائح البنك الدولى، وهم يعلمون أن كل دولة طبقت نصائح البنك الدولى انتهت إلى الإفلاس.
وأدعو مجاذيب أمريكا إلى قراءة مقال للدكتور جهاد عودة رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة حلوان وعضو الأمانة العامة للسياسات فى الحزب الوطنى، والمقال منشور فى صحيفة الأخبار يوم 17 ديسمبر الماضى بعنوان (الفرز الطبقى فى مصر) ويقول فيه (عادت مصر تتنفس الصراع الاجتماعى والطبقى، عادت مصر إلى الجدل الاجتماعى، وتم تفكيك التأميم السياسى والطبقى. وإن مظاهرات المحلة العارمة التى شارك فيها 27 ألف عامل من عمال شركة المحلة واستمرت ثلاثة ايام يمكن فهمها لتؤشر إلى اتجاهات مهمة فى التطور الديمقراطى المصرى.. ومن هذه الاتجاهات اضطراب فى صياغة منهج لعلاقات العمل والإنتاج فى ظل الخصخصة، فالحكومة تتمزق بين مقتضيات الاستثمار وزيادة التراكم الرأسمالى لمصالح الدولة والرأسماليين، وبين مقتضيات الحفاظ على حقوق فى حصيلة الخصخصة وتوفير أسباب السلام الاجتماعى، وقد ظهر التوتر بين وزارتى الاستثمار المسئولة عن الخصخصة والقوى العاملة المسئولة عن حقوق العمال، وهذا التوتر ظهر فى عدم وضوح مصير العاملين فى الشركات التى تقوم وزارة الاستثمار بخصخصتها والبالغ عددهم 5 ملايين عامل فى 356 شركة ويصل الدكتور عودة إلى أن هناك صراعا بين منهجين: أولهما مالى محاسبى والثانى اجتماعى اقتصادى.. وينهى مقاله بقوله: (إن سلوك الحكومة يعرض مصرإلى عودة الجوع).
إذا كان هذا الإنذار يأتى من واحد من كبار أستاذة العلوم السياسية وقيادى فى الحزب الوطنى، فهو لا يعبر عن رأى شخصى ولكنه يعبر عن رأى معظم الوطنيين الذين أصبحوا يشعرون بالقلق، لأن الحكومة تعمل فى اتجاه الإسراع ببيع الشركات دون خلق فرص عمل جديدة كافية.. وأكرر فرص عمل كافية.. وهى تباهى بزيادة الاحتياطى من النقد الأجنبى ولا تعترف بأن مسئوليتها أن تعمل على تحسين أحوال معيشة الفقراء أولا بحيث تقل أعداد الفقراء لا أن تزيد أعدادهم.. ونجاحها يتوقف على المحافظة على الطبقة المتوسطة وزيادة الفرص أمامها، لأن هذه الطبقة هى مخزن الإبداع وضمان الاستقرار وقوة الدفع فى المجتمع.
والحكومة عليها أن تدرك أن مسئوليتها ليست فى إعلان أرقام وإعداد ميزانيات وحسابات والحديث عن وعود مؤجلة، ولكن مسئولياتها حماية عشرات الملايين من الفقراء.. وتحسين أوضاع المواطنين.. ورعاية من يحتاج إلى الرعاية.. ومنع الاحتكار والاستغلال بكافة إشكالهما وإلا فما فائدة الحكومة؟
ولعل الحكومة حين تسد آذانها أن تسدها بحيث لا يؤثر عليها مجاذيب أمريكا.. ولتكن فقط.. فقط.. مع مجاذيب مصر!