حوار شيخ الأزهر وبابا روما
عقب إلقاء بابا روما محاضرته التى أثارت غضب المسلمين فى أنحاء العالم وجه فضيلة شيخ الأزهر إليه دعوة للحوار حول الاتهامات التى وجهها إلى الإسلام بأنه دين يدعو إلى العنف ولا يتفق مع العقل، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يأت إلا بكل ما هو سيىء وشرير. وقد بعث شيخ الأزهر برسالة إلى البابا تحمل هذه الدعوة سلمها إلى سفير الفاتيكان فى القاهرة وإلى نائب بطريرك الكاثوليك فى مصر، ولكن البابا لم يرد على الرسالة، ولم يستجب للدعوة إلى الحوار.
وأثناء زيارته إلى تركيا أراد البابا الالتفاف على الدعوة إلى الحوار، وتجاهل إصرار مئات الملايين من المسلمين على أن يعلن اعتذاره عما قاله، فحاول إصلاح علاقته مع العالم الإسلامى بتصرفات شكلية لا تتضمن التراجع عن الأفكار العدائية للإسلام التى تبناها فى محاضرته.
وقد انتشرت فى تركيا مظاهرات الاحتجاج على الزيارة حتى أن قوات الأمن التركية انتشرت بصورة جعلت مدينة أنقرة شبه مغلقة، واكتفى البابا- لإلهاء المسلمين- بالدعوة إلى مواصلة الحوار بين المسيحيين والمسلمين، واقتبس هذه المرة كلمة للبابا جريجورى السابع فى عام 1076 قال فيها (إن الكرم الذى أظهره أمير مسلم فى شمال أفريقيا لرعاية المسيحيين يرجع إلى أننا نؤمن بإله واحد على الرغم من أن إيمان كل منا لا يتم بنفس الطريقة)، هذه العبارة التى اختارها البابا على النقيض من العبارة التى اختارها فى محاضرته الشهيرة: (أرنى ما الجديد الذى أتى به محمد، ولن تجد سوى كل ما هو سيىء وغير إنسانى مثل أنه أوجب نشر الاعتقاد الذى يعلمه بحد السيف)، وهذا يتناقض مع جوهر الله وجوهر الروح.. الله لا يرضى عن الدماء، وإن التصرف بشكل لا عقلانى ليس من صفات الله.. العقيدة ثمرة الروح وليست متعلقة بالجسد.. من يريد إذاً أن يوصل أحدا إلى الاعتقاد ينبغى أن تكون لديه ملكة الكلام الطيب والتفكير السليم وليس التهديد والعنف.. إن هداية الروح لا تحتاج إلى اليد أو أدوات الاعتداء والتهديد بالموت.. وإن الآية (لا إكراه فى الدين). إنما جاءت فى وقت كان فيه محمد نفسه مهددا وبلا سلطات.. وكذلك فإن تعاليم الإسلام تعتبر الله كيانا بعيدا عن كل إدراك ولا تخضع إرادته لقوانين حتى ولا لقوانين العقل، بينما المفهوم المسيحى لله أنه يتصرف بحكمة وعقلانية.. وليس بعشوائية.. الخ).
وبدلاً من أن يعلن استجابته لدعوة شيخ الأزهر للحوار قام بما اعتبرته الصحافة تحولا دراميا لموقفه، فقد وقف مستقبلا القبلة فى مسجد السليمانية فى اسطنبول وصلى فيه وإلى جانبه مفتى اسطنبول، وهذه لفتة طيبة ولكنها لا تدل على أنه تراجع أو راجع موقفه العدائى من الإسلام الذى كشف عنه فى محاضرته، فإن قيامه بالصلاة فى أى مكان لا يعنى احترامه للدين الذى ينتمى إليه المكان.
ومع عدد مجلة الأزهر الجديد ملحق عبارة عن كتاب يضم نصا باللغة الألمانية لمحاضرة البابا بندكت التى هاجم فيها الإسلام، وترجمة حرفية لها إلى اللغة العربية، كما يضم المقالات الخمس التى نشرها شيخ الأزهر فى الأهرام للرد على البابا مع ترجمة لها باللغتين الإنجليزية والفرنسية، واعتبرها شيخ الأزهر حوارا مع البابا، ولو من طرف واحد. ويشير شيخ الأزهر فى البداية إلى زيارة بابا الفاتيكان الراحل- البابا يوحنا بولس الثانى- إلى مشيخة الأزهر خلال زيارته لمصر فى يناير 2000 والاتفاق الذى تم فى لقاء البابا يوحنا وشيخ الأزهر على احترام الأديان، ولكن البابا بندكت بدلاً من إبداء الاحترام للدين الإسلامى اقتبس عبارات تسيىء إلى الإسلام قالها امبراطور بيزنطى دون أن يعلق عليها باستنكاره لهذا الكلام الخبيث، ويقول شيخ الأزهر: عند العقلاء من يذكر كلاما سيئا عن غيره ثم لا يعلق أو يعقب عليه بالحق، فكأنه راض عن هذا الكلام القبيح، أو كأنه هو قائله، وما كنا نود أن يقع قداسة البابا فى هذا الخطأ الذى يتعارض مع الأدب الدينى والمنهج العلمى، لاسيما ومحاضرته كان موضوعها عن المسيحية وعقيدتها ونظرتها إلى العقل، وهى أمور لا داعى لحشر ما يتعلق بالإسلام بها، ولقد ذكر القيصر البيزنطى أن الإسلام دين قام على الإكراه والعنف وحد السيف، واستشهد البابا بكلامه وكأنه راض عنه.
يرد شيخ الأزهر على البابا بآيات من القرآن تدل على أن الله أرسل جميع الأنبياء برسالة واحدة مبشرين ومنذرين، فمن آمن من الناس وقدم العمل الصالح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وليس من وظيفة الأنبياء إجبار أحد على اتباعهم والدخول فى دينهم. والدليل على ذلك قول الله للنبى صلى الله عليه وسلم: (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) الرعد- 40- وقوله (إن عليك إلا البلاغ) الشورى- 48- وقوله: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية- 21-22- وقوله: (وما أنت عليهم بجبار) ق-45- وقوله: (ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) يونس- 100،99- وغير ذلك كثير من الآيات التى تدل دلالة قاطعة على أن دعوة النبى (صلى الله عليه وسلم) إنما تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هى أحسن.
ويعرض شيخ الأزهر الأدلة من القرآن على أن شريعة الإسلام تهدر كل قول أو فعل أو اعتقاد يأتى عن طريق الإجبار، ولا تعتد إلا بما يصدر عن الإنسان بإرادة حرة وعن رضا واختيار واقتناع، لأن الإكراه على العقائد لا يأتى بمؤمنين صادقين، ولكن يأتى بمنافقين كذابين يقولون بألسنتهم ماليس فى قلوبهم، ولذلك جاءت عشرات الآيات فى ذم النفاق والمنافقين وتحذير المؤمنين من مكرهم.
والجهاد- كما يقول شيخ الأزهر- موجه لرد العدوان من الذين يحاربون دعوة الإسلام ويعلنون عداوتهم للمسلمين، أما غير هؤلاء من غير المسلمين فإن حكم الله: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) التوبة-7- والقرآن واضح فى تحديد مفهوم الجهاد ومشروعية القتال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة 8 -9، ومفهوم الجهاد فى الإسلام- كما جاء فى القرآن- له معان كثيرة منها مجادلة الكفار، وجهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد المعتدين بدحر عدوانهم (وإن كان قد شاع سوء الفهم لمعنى الجهاد فى الإسلام بافتراض أنه يعنى الحرب، فإن معناه الحقيقى المجاهدة.. مجاهدة النفس.. ومجاهدة الشيطان- ومجاهدة العدو.. فالجهاد بمعنى القتال هو أمر لا يلجأ إليه المسلمون إلا لمقاومة العدوان.. لأن الإسلام فى جوهره دين سلام.. والسلام اسم من أسماء الله.. والجنة فى الآخرة هى دار السلام.. وتحية الملائكة للمؤمنين عند دخولهم الجنة هى السلام، ولا يسمع أهل الجنة إلا السلام (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) مريم- 62- والخلاصة أن الحرب فى الإسلام ضرورة للدفاع وليست للاعتداء على المسالمين.
والإسلام قائم على أن الرُسل جميعا أرسلهم الله لهداية البشر للإيمان به وعبادته والالتزام بالفضائل الأخلاقية وحُسن المعاملة بين الناس وإقامة العدل.. وعلى ذلك فإن العداء بين أصحاب الديانات السماوية غباء وخروج على إرادة الله. والمسلمون يؤمنون بجميع الديانات وجميع الكتب السماوية وجميع الرسل.. (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله..) البقرة-285-.
أما العقل فإنه جوهر الإسلام- على عكس ما قال البابا- والقرآن يناقش الإيمان ووحدانية الله بالعقل (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) الأنبياء- 22- (وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) المؤمنون- 91- ويواجه القرآن المشككين فى البعث بتذكيرهم بأن الله الذى خلق الناس من العدم قادر على إعادة خلقهم (أوليس الذى خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) يس- 81.
ودعوة شيخ الأزهر للبابا للحوار ما زالت قائمة فى انتظار الرد، ولكى يصل الحوار إلى نتائج إيجابية يحدد شيخ الأزهر الأسس المنطقية له، وهى: الصدق، والموضوعية، والرغبة فى الوصول إلى الحق والصواب وليس التباهى أى طلب الشهرة، كما أن الحوار يجب أن تسود فيه روح التواضع.
ويوجه شيخ الأزهر حديثه إلى البابا بندكت فيقول له: إنى قصدت- يا قداسة البابا- أن أوضح لك أن الحوار الذى تنادى به قد نادى به الإسلام على اعتبار أن الناس جميعا من أصل واحد، وأن الاختلاف بينهم فى العقائد لا يمنع من التعاون، وأن الأنبياء جميعا جاءوا برسالة واحدة هى إخلاص العبادة لله ووجوب التحلى بمكارم الأخلاق.
ويوجه شيخ الأزهر حديثه إلى البابا قائلاً: لقد أرسلت إلى قداستك منذ شهور رسالة عن طريق سفيرك بالقاهرة أطلب من قداستك فيها رأيك بعد حادث الصور المسيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبينت فيها لقداستك استعدادى للحوار حول هذه المسائل التى فيها إساءات بالغة وقبيحة إلى الرُسل الكرام. ولكن لم يصلنى من قداستك أى رد لا من قريب ولا من بعيد، فهل هذا من أدب الحوار الذى تنادى به بأعلى صوتك يا قداسة بابا الفاتيكان؟
ثم يختم شيخ الأزهر حديثه إلى البابا بقوله: أرجو أن يكون كلامنا، ونحن رجال دين- يطابق أفعالنا، كما أدعو الله لنا جميعا بالهداية إلى الطريق المستقيم.
وهذا مسك الختام. وإن كنت أرجو فضيلة شيخ الأزهر أن يأمر بإرسال كتابه الذى يتضمن الرد على البابا إلى جميع المهتمين بالدراسات الدينية فى أنحاء العالم، وأن يرسل كميات كبيرة منه إلى سفاراتنا فى الخارج ليكون تحت يد كل من يهمه أن يعرف حقيقة الإسلام.