اعترافــات أمريكيـــة
تتوالى فى هذه الأيام الاعترافات بالفشل فى العراق من القادة والسياسيين وواضعى الاستراتيجية فى الولايات المتحدة، كما بلغ الغضب لدى الشعب الأمريكى درجة غير مسبوقة حتى أن 61% من الأمريكيين أعلنوا عدم رضاهم عن سياسة الرئيس بوش فى العراق، و64% قالوا إن هذه الحرب لم تقلل خطر الإرهاب كما لم توفر الأمن والديمقراطية فى العراق كما وعد بوش الشعب الأمريكى والعالم.
حتى دونالد رامسفيلد وزير الدفاع المسئول عن خطة الغزو الأمريكى للعراق والذى ظل يعلن انتصار أمريكا ونجاحها فى توفير الأمن والاستقرار والديمقراطية للعراقيين اعترف قبل أن يترك منصبه غير مأسوف عليه بفشل أمريكا فى العراق، وذلك فى مذكرة سرية قدمها إلى الرئيس بوش وتم تسريبها إلى صحيفة نيويورك تايمز، واقترح فيها أن تعبر الإدارة الأمريكية عن خيبة الأمل لفشل عملية نقل المسئوليات من القوات الأمريكية إلى السلطات العراقية، وأوصى فى مذكرته بدراسة الأفكار التى طرحها الديمقراطيون الخاصة بسحب القوات الأمريكية من العراق، والإسراع بحماية القوات الأمريكية من الهجمات المستمرة وتزايد القتلى من الجنود الأمريكيين.
وتضمنت توصياته- قبل الرحيل- بسحب القوات الأمريكية من المدن ونقلها إلى مناطق أكثر أمنا فى العراق أو الكويت وتحويلها إلى قوات للتدخل السريع، وخفض عدد القواعد الأمريكية من 55 قاعدة موجودة الآن إلى خمس قواعد كبرى لتقليل ظهور القوات الأمريكية، مع القيام بحملات عسكرية لتأديب ومعاقبة العراقيين فى المناطق التى ترفض التعاون مع القوات الأمريكية. وكما هى عادة السياسة الأمريكية دائما اقترح رامسفيلد إعطاء مزيد من الأموال (الرشاوى) إلى القيادات السياسية والدينية و(الإعلامية) بالعراق لكى تساعد القوات الأمريكية.
كانت هذه اعترافات وتوصيات مهندس الحرب على العراق والمسئول عن جرائم الحرب وتعذيب العراقيين فى سجن أبو غريب وعشرة سجون أخرى تعذيبا لا يختلف عن أسلوب النازى على حد وصف المعلقين الأمريكيين أنفسهم، وقد أدلى باعترافاته وهرب من الميدان كقائد مهزوم وعاد إلى العمل فى شركات البترول التى كان يعمل فيها قبل توليه منصب وزير الدفاع والتى قدم لها خدمات جليلة بنهب بترول العراق وتحقيق أرباح بعشرات المليارات من الدولارات.
أما الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر فقد كان معارضا لغزو العراق منذ البداية، وكتب مقالات عديدة طالب فيها الرئيس بوش بوضع جدول زمنى للانسحاب من المستنقع العراقى، وفى مقال أخير له قال: إن على إدارة بوش الاعتراف بأن الصراع الجارى فى الشرق الأوسط هو نتيجة لغياب تسوية مرضية وشاملة فى المنطقة، وإن العائق الرئيسى للتقدم فى عملية السلام فى الشرق الأوسط هو السياسة الشاذة التى تنتهجها الإدارة الأمريكية التى تطلب (الخضوع الكامل) من كل الذين يعارضون المطالب الأمريكية.. وحذّر كارتر من أن الفشل الأمريكى فى معالجة القضايا المتفجرة فى المنطقة سيؤدى إلى خلق بيئة غير مستقرة من شأنها تدمير المنطقة بداية من القدس ومروراً ببيروت ودمشق وبغداد وطهران! بينما تستحق شعوب الشرق الأوسط أن تعيش فى سلام.
ومنذ فترة كتب جورج ماكجفرن وجيم ماكجفرن عضوا مجلس النواب الأمريكى مقالا قالا فيه إنه يجب على الولايات المتحدة أن تبدأ فى سحب قواتها من هذه المغامرة الخاطئة فى العراق، بعد أن تبين أن ما وصفته إدارة بوش بأنه عملية عسكرية سهلة قد تحول إلى مستنقع من العنف، وبعد أن فشلت سياسة قادة أمريكا القائمة على الاستهانة بالمقاومة للاحتلال وبالانقسامات العرقية الراسخة فى العراق.
وسخر النائبان مما قاله بول وولفوتيز حين كان نائبا لوزير الدفاع رامسفيلد من أن أمريكا سوف تبقى فى العراق عشرات السنين على الأقل، ورفض النائبان هذه الدعوة لاستمرار الاحتلال استجابة لتفكير البيت الأبيض (ما دمنا هناك فلنبق هناك) وهذا هو المنطق الذى كان سائدا أيام حرب فيتنام وأدى بقاء القوات الأمريكية إلى خسائر هائلة لا يمكن نسيانها، وعارض النائبان ما يقوله المسئولون فى البيت الأبيض من أن الانسحاب سيؤدى إلى الإضرار بمصداقية وهيبة أمريكا فى العالم، وفى رأيها أن الانسحاب سيؤدى إلى تحسين مكانة أمريكا لعودتها إلى التصرف العاقل وعدم المكابرة باستمرار السير فى الطريق الخطأ. لأن استمرار الوجود العسكرى الأمريكى يعزز المقاومة ويمنح المتمردين شرعية فى عيون العالم، ويعلم الأمريكيون أن جميع شعوب العالم ترفض وجود جيوش الاحتلال على أراضيها وتقاومها وتطالب بالتحرر، ويجب أن يعلم البيت الأبيض أن أمريكا لن تستطيع أن تحدد مصير العراق، ولن يحدد هذا المصير إلا العراقيون أنفسهم.. ومع أنه لا توجد حلول سهلة للأزمة الأمريكية فى العراق إلا أنه يجب البدء فى اتخاذ مسار مختلف.
ولكن النائبين يرددان نفس الفكرة التى تراود بعض المسئولين الأمريكيين وهى أن تتولى مسئولية الأمن فى العراق قوة عسكرية من الدول العربية تمولها الولايات المتحدة، وهذا اقتراح من المستحيل تنفيذه، لأنه لا توجد دولة عربية تستطيع تحدى شعبها وترسل أبناءها للموت دفاعا عن قوات الاحتلال الأمريكى فى العراق. وإن كان النائبان يعترفان بأن العنف فى العراق لن ينتهى سواء بقيت القوات الأمريكية أو رحلت، ولكن سيكون العنف أشد مع وجود الاحتلال، وستزداد كراهية الولايات المتحدة فى العالم العربى وفى مناطق أخرى من العالم لسياستها القائمة على الغزو والاحتلال العسكرى.
وينهى النائبان مقالهما بأن العناد وحجة حفظ ماء الوجه أو الاستمرار فى المغالطة والكذب وإنكار الحقائق، كل ذلك لن يؤدى إلا إلى مزيد من الخسائر البشرية (4 آلاف جندى أمريكى قتيل) والخسائر المالية (تكلفت أمريكا فى الحرب 350 مليار دولار).. وأخيراً يقول النائبان: حان الوقت لإنهاء هذا الفصل الحزين فى التاريخ الأمريكى، والاستفادة من دروسه لعدم تكراره فى دول أخرى.. لحماية الخزانة الأمريكية من الإفلاس.. وحماية الجنود الأمريكيين من الهلاك.. وحماية القيم الأخلاقية والروحية الأمريكية من الإساءات التى لحقت بها.
سيل من المقالات من شخصيات بارزة فى الحياة السياسية الأمريكية تعلن الاعتراف بالفشل وتطالب بالانسحاب. الكاتب الشهير ريتشارد كوهين كتب مقالا بعنوان (ما يحدث فى العراق أكثر من غلطة) قال فيه إن الذين أعطوا أصواتهم للحرب ضد العراق يعترفون الآن بأنها كانت غلطة، وبأنهم أخطأوا، ومنهم السيناتور السابق جون ادواردز، والسناتور جوزيف بيرن، وقالا فى برنامج تليفزيونى: لقد كانت موافقتهما خطأ، وعذرهما أنهما صدقا الرئيس بوش ومجلس حربه ونائبه ووزير دفاعه بأن العراق لديه أسلحة دمار شامل وقدرات نووية وعلاقات مع المنظمات الإرهابية وتنظيم القاعدة بالذات، وصدقا وزيرة الخارجية كونداليزا رايس عندما أعلنت أمام مجلس الشيوخ أنها متأكدة ولديها أدلة قاطعة بأن النظام العراقى يمثل تهديدا لأمريكا وللعالم لأن لديه أسلحة بيولوجية وكيميائية ولديه قدرات لإنتاج أسلحة نووية، وأعلن رامسفيلد وزير الدفاع فى الكونجرس أيضاً أن أمريكا ستكون الهدف للأسلحة النووية العراقية، وقال لأعضاء الكونجرس: تخيلوا تكرار هجمات 11 سبتمبر ولكن بأسلحة دمار شامل سوف تقتل عشرات الآلاف.. وقدمت الإدارة الأمريكية أمام الكونجرس وأمام مجلس الأمن وأمام الشعب الأمريكى فى التليفزيون أنابيب من الألمنيوم زعموا أنهم عثروا عليها فى العراق، كما زعموا بأن العراق استورد اليورانيوم من أفريقيا.. وكذبت الإدارة الأمريكية مبعوث الأمم المتحدة فى العراق ومدير هيئة الطاقة النووية بعد أن أعلنا نتائج التفتيش بعدم وجود أسلحة دمار شامل أو قدرات نووية فى العراق..
لذلك يجب أن يعترف القادة الأمريكيون بأنهم كذبوا على الشعب الأمريكى وعلى العالم.
وأخيرا اعترف الأمين العام للأمم المتحدة- كوفى أنان- بأن حال العراق الآن أسوأ مما كان عليه فى حكم صدام حسين. وجاء اعترافه قبل انتهاء عمله بأيام، وبعد استقالة وزير الدفاع رامسفيلد ومندوب أمريكا البشع فى الأمم المتحدة جون بولتون.
وماذا يفيد الاعتراف؟.. وكيف ستكون الاستراتيجية الأمريكية الجديدة فى الشرق الأوسط التى يتحدثون عنها الآن؟
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف