أحمد بهاء الدين مازال حيا

على الرغم من مرور سنوات على رحيل أحمد بهاء الدين إلا أنه لا يزال حيا بيننا، بينما رحل عشرات من الكتّاب كانوا يتمتعون بالشهرة ويتربعون على القمة وتحيط بهم الأضواء وطواهم النسيان بعد شهور أو بعد سنوات.. أحمد بهاء الدين - على العكس - ما يزال مضيئاً وملهما لجيـل بعد جيل.. لماذا؟ يفسر هذه الظاهرة صديقه الأستاذ محمد حسنين هيكل فيقول إن السر أن بهاء كان يحمل مسئوليته بجد، ويستشعر همومها بصدق، ويؤديها باحترام لنفسه، وللكلمة، وللقارىء، ولكن أحمد بهاء الدين أرهق نفسه فى ادائه لهذه المسئولية بأكثر تستطيع طاقته، وزاد على ذلك ما تميز به من الحياء فتعرض لضغوط وأعباء بأكثر من حدود احتماله فكان هو المغلوب على أمره دائماً أمام أى طارق لبيته أو مكتبه يطلب منه رأياً مكتوباً أو مسموعاً فى قضية من القضايا التى تشغل الرأى العام فى مصر وفى العالم العربى. وهكذا لم يجد فرصة للراحة والتقاط الأنفاس، وظل يضغط على نفسه ويذيب أعصابه فى مقالات وأحاديث ومحاضرات وندوات واجتماعات، ولم يستمع إلى نصائح أسرته واصدقائه بأن يحذر ويراعى ظروف صحته خاصة بعد معاناته من السكر والضغط ثم إصابته الأولى بجلطة فى المخ.
وما كاد يسترد بعض صحته حتى عاود العمل بنفس المجهود تحت إحساسه بالمسئولية وحيائه أمام كل من يقصده، إلى أن أصيب بالجلطة الثانية فى المخ واضطر للرقاد فى الفراش بعيداً عن الأحداث والناس وعن القلم والورق، وعن المحاضرات والندوات فى لحظة من التاريخ العربى كانت أشد ما تكون حاجة إلى عقله وقلمه.
يقول الأستاذ هيكل عنه إن كلمة أحمد بهاء الدين كانت دائما هى الشعاع الذى يضىء العقول، وكان عقله الأكثر قدرة على النفاذ إلى الجوهر وصميم الحدث والوصول إلى الحقيقة.
وفى كلمات مليئة بالشجن يخاطب الأستاذ هيكل صديقه أحمد بهاء الدين نيابة عن كل محبيه واصدقائه وتلاميذه بما فى ضمير كل منهم فيقول: بهاء.. نحن نريدك معنا.. لا نريد عقلك وقلمك فقط، ولكننا -يا أيها الغالى العزيز- نريدك معنا انساناً وصديقاً وجليساً وأنيساً ومحاوراً.
أما أحمد بهاء الدين فكتب يوماً فى يومياته فى الأهرام يقول: تمنيت أن يقوم بيننا عبد الرحمن الجبرتى آخر لكى يؤلف جزءاً من كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» الذى ألف جزءه الأول قبل قرنين من الزمان. ليسجل عجائب الحياة المصرية المعاصرة.. أو «ادوارد لين» آخر يصدر جزءاً ثانياً من كتابه «عادات وتقاليد المصريين المحدثين» ولا شك أن هناك جانباً آخر كان سيلفت بالتأكيد نظر عبد الرجمن الجبرتى.. ذلك هو أنواع الجرائم العجيبة التى نقرأها كل يوم.. قال لى عالم اجتماع كبير : كنا نقول عن أنفسنا فى مجال التفاخر غير المفهوم جملاً غريبة مثل:«إحنا اللى دهنا الهوا دوكو» أو «إحنا اللى خرمنا التعريفة»، الآن لدينا قول صحيح على الأقل، إذ يمكن أن نقول:«إحنا اللى سرقنا الونش»! وكان هناك خبر آخر فى الصحف عن الزفاف الذى تقدم موكبه رجل يقود «وابور زلط» مملوك للدولة مشاركة فى الابتهاج. أو الخلاف على 24 شيكاً مزوراً باسم وزير الاقتصاد! أو بيع ممتلكات «الديب» لسداد 52 مليون جنيه، قلت له - لعالم الاجتماع - نتحدث دائماً عن سمعة الحكم وهى أمر مهم طبعا ولا تحتاج إلى شرح، ولكننا لا نتحدث عما سميته «سمعة الشعب» ومعنى ذلك أننا - كشعب - نسقط كل المشاكل والعيوب على السلطة أيا كانت، ولا نتحدث عن دورنا فى هذا المجال.
إن كل شعب له «سمعة» بالمعنى العام. زمان كان يقال عن شىء ما «يابانى» بمعنى أنه «فالصو»، وكان ذلك واليابان غير يابان اليوم، الآن عبارة «صنع فى اليابان» صار لها معنى الدقة والكفاءة والتقدم، لأن هذه هى «السمعة» العامة التى خلقها الشعب اليابانى بنفسه. ومنذ زمن أبعد والناس يقترن فى ذهنها الشعب الألمانى مثلا بالدقة والعمل الشاق والانتاج الجيد، فهذه «السمعة» تغنى عن ألف إعلان عن سلعة فى بلد من هذا النوع. وهذا يجعلنا نتفحص عيوبنا كما نتفحص عيوب السلطة، ونهتم بسمعة الشعب كما نهتم بسمعة الحكم، ولا نتملق صفاتنا الذاتية كمصريين ونترك ذلك للأغانى، وشركة التخلف طيلة قرون جعلتنا لا نشتهر بالنظافة -مثلا- فى حين أن من لا ينظف بيته ليس له الحق فى المطالبة بتنظيف الشارع، ولا بأداء الواجب مهما كان هناك من أسباب الشكوى، ولا بالدقة فى المواعيد، ابتداء من موعد لقاء إلى موعد انجاز عمل.. ومن سماتنا الاسراف المظهرى، ونحن لسنا من الشعوب «الادخارية»، فمن زوايا قياس أنماط وطبائع الشعوب قياس ميل هذا الشعب إلى الادخار، وكلما ارتفعت هذه النسبة كان هذا من علامات النضج الاجتماعى. و«سمعة الشعب» فى البلاد السياحية التى يتدفق عليها الملايين كل سنة كاسبانيا وايطاليا واليونان، هى أنها شعوب تعلمت التعامل مع السياح.. فى حين أن هناك شعوباً غير سياحية مثل شعب مصر أو شعب ألمانيا.. وحين نرفع شعار التصدير و«صنع فى مصر» فإن أهم وسيلة لنجاحها هو أن تكون لشعبنا سمعة فيما يرزع ويصنع، وألا نتردد فى نقد أنفسنا كشعب كما ننتقد الحكام، ومسئولية الحكام هنا هى إعطاء «القدوة» الحقيقية التى تقنع المواطن، وليس مجرد المناداة بأى شعارات.
***
وفى احدى يومياته يضع أحمد بهاء الدين يده على مظهر من مظاهر سطوة المال الحرام، فيروى أن الكاتب الراحل محمد سيد أحمد كان يسكن فى احدى أفخم الشقق القاهرة ورثها عن والده سيد أحمد باشا. على الرغم من أن محمد سيد أحمد كان منغمساً فى التيار اليسارى ودخل السجن واعتقل أكثر من مرة، المهم دقت الباب سيدة بدينة مظهرها أقل من العادى وتحمل حقيبتين وقالت له أنها سمعت أنه يريد ترك الشقة وأنها تحمل فى الحقيبتين نصف مليون جنيه مستعدة لدفعها له فوراً كخلو للشقة، وعندما أكد لها أنه لا يفكر فى ترك الشقة لفت نظرها طقم الصالون فقالت له إنها مستعدة لشرائه بمائتى الف جنيه والفلوس جاهزة، ويضيف أحمد بهاء الدين إلى هذه القصة حادث سرقة نصف مليون جنيه من سيارة طبيب ولم يحاول الطبيب الإبلاغ عن الحادث، وطبعا لم يحضر أحمد بهاء الدين السنوات الأخيرة التى أصبح نصف المليون جنيه ثمناً لشقة صغيرة فى حى من الأحياء المتوسطة ولم يدرك زماننا الذى نسمع فيه أن فلانا يملك شقة ثمنها ستة ملايين جنيه وفلانا يملك فيلا بعشرة ملايين جنيه وفلانا اشترى طائرة ثانية بالاضافة إلى الطائرة الخاصة التى كان يملكها، ولم يسمع ما نسمعه اليوم عن المليارات، ولا أعرف ماذا كان يحدث له لو سمع عن المليارات.. المهم أنه يروى أنه حدثه صديق مستشار فى دار القضاء العالى إنه يركب الأتوبيس من بيته ولكنه ينزل قبل المحطة المواجهة لباب المحكمة ويسير على قدميه، حتى لا يراه أحد بعد «بهدلة الزحام» فى الأتوبيس، وإنه يجد سيارات بمئات الآلاف، وبعضها بالمليون متراصة وفيها الذين سيقفون أمامه فى الجلسة بعد قليل.. ويقنع نفسه بأنهم عندما يرونه سائراً على قدميه قد يظنون أن الطبيب نصحه بالمشى أو لعله يسكن قريباً من المحكمة، ويعلق بهاء: هكذا صارت للمال الحرام سطوة هائلة، ومصر بلد يحكمها ويربط بينها جهاز حكومة منذ آلاف السنين، وانهيار مقاومة هذا الجهاز كارثة يصعب حسابها!
***
الدس فن رفيع! هكذا كان عنوان المقال الذى كتبه أحمد بهاء الدين يوما وقال فيه ما يستحق العودة إليه مراراً لعل وعسى (!).. قال: إن الدس فن رفيع. لا يتقنه إلا القليلون، وهو قديم قدم المجتمعات. فمسرحية «عطيل» لشكسبير بطلها ليس «عطيل» ولا «ديدمونة» ولكنه «ياجو» الذى ظل يدس على ديدمونة عند زوجها «عطيل» برشاقة ولباقة وأناة وصبر حتى أقنعه بأن زوجته تخونه، وجعله يخنقها بيده ويفلت دون عقاب ويختفى فى الوقت المناسب. ففى فن الدس يوجد دائماً ثلاثة أطراف: المدسوس عليه، والمدسوس لديه، والدساس نفسه الذى يدس على الأول لدى الثانى.. الدس أحد أهم الممارسات العامة والخاصة والسياسية بالذات التى تحفل بها حياتنا العامة والسياسية على كافة المستويات:من الموظف الصغير الذى يدس على زميله عند الباشكاتب أو رئيس القلم، إلى الذى يشغل موقعاً مهماً يسمح له بأن يدس على من يشاء عند من يشاء. والدس ليس نقل حقائق غير صحيحة إلى شخص أكبر، فهذا قد يكون وشاية تنجح أو تفشل، ولكنه فن يحتاج إلى موهبة وتدريب وحنكة كما أنه يحتاج إلى صبر ولباقة عالية.
والدساس حين يدس عليك ليفسد ما بينك وبين أحد، لا ينتقدك ببساطة لأنه يحب أولا أن يفهم المدسوس إليه أنه صديقه وينطلق من نقطة مدحه وصداقته ولكن.. وبعد كلمة «لكن» تسقط الكلمة الصغيرة كما تسقط قطرة الماء لا يحس بها أحد.. وقطرة.. ثم قطرة.. ثم حكاية.. ثم نكتة.. حتى تتكامل لدى المدسوس لديه صورة لا علاقة لها بالحقيقة، ولا يشعر المدسوس لديه بتسرب هذه الصورة وتكاملها فى ذهنه عن فلان وعلان. وغاية الدساس هنا أن ينفرد بأذن الحاكم، أو يبعد عنه منافسا. أو يفسح الطريق لآخر.. وهكذا..
هل فهمت شيئا؟
لا أظن، والسبب أولاً أن أحمد بهاء الدين رسم صورة شائعة فى حياتنا، وثانياً لأنه ادعى فى آخر المقال أنه لم يحسن رسم هذه الصورة.

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف