بوش يجمع أوراقه ( 2 )
الاتهامات بالفساد تلاحق كبار مساعدى الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش قل انتهاء فترة حكمه التى يعتبرها الأمريكيون ويعتبرها العالم كابوسا جثم على الصدور، وبدد الآمال، واستسهل إراقة الدماء، وألقى بالآلاف من الأبرياء فى السجون واستباح التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان. آخر فضائح الفساد تلاحق الرأس الكبيرة فى إدارة بوش.. ديك تشينى نائب الرئيس- وهو بحكم الدستور رئيس مجلس الشيوخ- والاتهامات التى تلاحقه هى استغلال سلطته، والسماح بالانتهاكات البشعة لآدمية وكرامة المسجونين لسنوات عديدة فى سجون الولايات المتحدة والعراق وجوانتانامو دون محاكمة، وأغرب ما كشفته الصحافة الأمريكية أن بعض هذه السجون تديرها شركة خاصة يمتلك نائب الرئيس ديك تشينى نسبة كبيرة من أسهمها! وهذا شىء لا يحدث إلا فى الولايات المتحدة زعيمة العالم الحر، والاتهام ليس من قبيل الاتهامات العشوائية، فهو اتهام وجهته هيئة محلفين عليا فى تكساس.. ويشمل أيضاً وزير العدل السابق البرتو جونزاليس مع تشينى. يتضمن هذا الاتهام أن نائب الرئيس-ديك تشينى- يتربح من حرمان البشر من حريتهم، لأنه يستثمر 85 مليون دولار فى شركة تملك حصصا فى سجون خاصة، وهو -بحكم منصبه- يملك نفوذا فى منح عقود الامتياز للشركات لإدارة هذه السجون.. كما أنه –وهو نائب الرئيس- سمح بارتكاب جرائم الاعتداء على المسجونين واستمرار سجنهم دون محاكمة.. وبالتالى يجب محاكمته لمسئوليته عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وضد القانون الدولى الإنسانى.
وشملت الفضائح التى تكشفت مؤخراً أقدم عضو جمهورى من أقرب أصدقاء بوش وتشينى –تيد ستيفنز- الذى سقط فى انتخابات الكونجرس الأخيرة بعد أن ظل يحتل مقعده فى مجلس الشيوخ ثلاثين عاما- ووجهت إليه اتهامات بالفساد فى قضية تلقى رشاوى وتزوير فى إقرارات الذمة المالية، وتم تحديد إقامته بأمر قضائى إلى حين صدور الحكم عليه.
???
وبدأت سلسلة الفضائح تتكشف تدريجيا.. وكان كتاب المتحدث الصحفى باسم الرئيس بوش لثلاث سنوات (من 2003 حتى 2006) وات هابيند قنبلة أثارت ضجة فى المجتمع الأمريكى وهو-كما ذكرت الصحافة الأمريكية- صديق بوش ومساعده ومستشاره منذ أن كان بوش حاكما لولايات تكساس.. وهو الرجل الذى ظل أكثر من عشر سنوات يدافع عن بوش ويعمل على تحسين صورته أمام الرأى العام الأمريكى والعالمى ثم استيقظ ضميره أخيراً ورأى أن يريح ضميره ويقول الحقيقة فأعلن فى كتابه بكلمات صريحة: (إن بوش يخدع نفسه) وأنه جعل واشنطن (عاصمة الخداع) ووصف كوندوليزا رايس بأنها (تهتم بنفسها أكثر من اهتمامها برئيسها).
كما صدر كتاب بعنوان (لا نرى نهاية) عن الفضائح والفظائع التى ارتكبتها إدارة بوش فى حرب العراق كتبه شارلز فيرجسون وانتج فيلما وثائقيا يعتمد على الوقائع التى ذكرها فى هذا الكتاب وقبل ذلك استقال وزير الخزانة بول أونيل فى بداية عهد بوش بعد أقل من سنتين فقط قضاهما فى هذا المنصب وبعدهما لم يحتمل (حماقات الرئيس ورعونة تصرفاته).. وأحدث كتابه (ثمن الولاء) ضجة كبيرة فى الأوساط السياسية فى الولايات المتحدة وفى دول العالم نظرا لأهمية المعلومات التى وردت فيه ولخطورة المنصب الذى كان يتولاه المؤلف وهو منصب يجعله من أقرب الناس إلى بوش ويعرف عنه ما لا يعرفه الكثيرون ممن حوله. انتقد أونيل شخصية بوش وسياساته وكشف كذب بوش بادعائه أنه قرر غزو العراق بناء على معلومات الاستخبارات بينما الحقيقة أنه أعلن عقب فوزه فى الانتخابات وفى الأيام الأولى له فى البيت الأبيض أمام الدائرة الضيقة من مساعديه أنه قرر غزو العراق.. وقال سكوت ماكليلان فى كتابه (ماذا حدث: داخل البيت الأبيض وجو الخداع فى واشنطن) إن الرئيس بوش مسئول مسئولية تاريخية ومسئولية أخلاقية عن غزو العراق وعن الجرائم التى ارتكبت هناك، ومسئول أيضاً عن خطط الدعاية السياسية التى وضعت خطوطها العامة فى البيت الأبيض لإقناع الأمريكيين وقادة العالم بغزو العراق. وكشف ماكليلان أن الرئيس بوش هو الذى كان يقود بنفسه حملة الخداع وجند لها أجهزة الحكومة عسكريا، وسياسيا، واقتصاديا. وقال ماكليلان: لقد كنت متحدثا صحفيا أجمع المعلومات وأقدمها إلى الصحفيين ولم أكن فى ذلك الوقت أعلم كل التفاصيل ولم أعلم إلا مؤخرا، وهذا ما دعاه إلى الاستقالة لأنه لم يحتمل الاستمرار مع رئيس يمارس الكذب والخداع ويقتل مئات الآلاف بدم بارد!
???
أما رامسفيلد وزير والدفاع أقرب مساعدى وأصدقاء بوش فهو الذى أشرف على تنفيذ خطة تخريب العراق وتعذيب آلاف العراقيين فى السجون وطرد عشرات الآلاف من وظائفهم ليعيشوا بلا مورد رزق، وقد ظل حتى آخر لحظة وحتى بعد أن اضطر إلى تقديم الاستقالة يكرر أن أمريكا يجب ألا تكون متساهلة وإلا أصبحت هدفا سهلا. وأنه يجب أن يرى العالم قوة أمريكا فى أفغانستان وفى العراق حتى يتأكد الجميع أنها قادرة على خوض عدة حروب فى وقت واحد وتحقق فيها النصر الساحق ولديها القوة الكافية لذلك. وقد ظل رامسفيلد متحمسا للغزو واستخدام القوة المفرطة على الرغم من عدم ترحيب هيئة الأركان المشتركة بهذه الحرب ذات الدوافع والأهداف المبهمة، ويعتبرونها حربا غير عادلة وعندما أبدى كولن باول وزير الخارجية فى ذلك الوقت رأيه بالتمهل قبل غزو العراق من جانب واحد حتى تتأكد المعلومات وتحصل أمريكا على موافقة حلفائها لم يكن من رامسفيلد إلا أن هاجم كولن باول علنا وبعبارات فيها سخرية لا تليق، وظل على سياسته العدوانية الدموية حتى بعد أن تأكد الفشل الأمريكى فى العراق وتحول إلى فيتنام أخرى.
كان رامسفيلد يعلق فى مكتبه لوحة مكتوب عليها عبارة للرئيس روزفلت تقول: (القتال بكفاءة من أجل الحق هو أكثر مهمة نبيلة يمكن أن يقدمها العالم).
وكان يردد أمام من يتحدثون إليه عبارة آل كابونى (أنك تحصل بالكلمات الطيبة والبندقية على أكثر مما تحصل عليه بالكلمات الطيبة وحدها).
ولذلك وصفه بعض المحللين الأمريكيين بأنه (داعية حرب) وبأنه لا يبالى بما سيحدث من خسائر وكوارث فى الحرب، ووصفه أصدقاؤه بأنه يتميز بالمكر ونفاد الصبر. وذكرت الصحف الأمريكية أنه يوجه النقد علنا وبعبارات قاسية للقادة العسكريين فى وزارة الدفاع (البنتاجون)، وقال عنه آخرون إنه يريد بغزو أفغانستان والعراق استعادة المجد العسكرى لأمريكا ويثأر من هزيمتها فى فيتنام التى مازال جرحها غائرا فى الضمير الأمريكى ويريد أيضاً أن يسجل المجد لنفسه.. وقال أحد المعلقين إن رامسفيلد كان مصارعا شرسا منذ كان طالبا فى جامعة برينستون، وأنه كان دائما يتسم بروح الاندفاع والتهور خاصة عندما كان مشاركا فى الحرب الكورية يتولى قيادة الطائرات النفاثة فى سلاح البحرية وبعد أن هدأ القتال فى كوريا قام بمغامرات كثيرة، منها القفز الجوى، وقيادة الدراجات البخارية بسرعة جنونية والتزحلق على الأمواج وهو بكامل ملابسه مما يدل على أنه (مغامر)، وكانت هذه صفاته وهو عضو فى الكونجرس عندما كان فى الثلاثين من عمره، وكذلك كان بشهادة أصدقائه واستمر كذلك حتى عندما كان رئيسا لهيئة موظفى البيت الأبيض وهو فى سن 42 سنة، إلى أن صار أصغر وزير دفاع لأمريكا فى عام 1975 فى ولاية الرئيس فورد ولم يتجاوز عمره 43 سنة، وبعد ذلك تفرغ لتكوين ثروة وعمل مديرا لعدة شركات للتكنولوجيا الحديثة والكيماويات والأودية، وأصبح يملك أسهما لشركات إنتاج الأسلحة بملايين الدولارات.. وقد أدار عملية غزو العراق بنفسه وتم اعتماد خطة العمليات فى مكتبه وليس فى مقر هيئة الأركان وتجاهله لآراء القادة العسكريين كان السبب فى أنه لم يفز بمساندة حقيقية منهم ومع ذلك ظل لا يستمع إليهم ولا يستجيب لمطالبهم واقتراحاتهم.. والكارثة كانت فى التوافق فى الآراء بين بوش ورامسفيلد وتشينى واقتناع بوش بأن كل ما يقوله رامسفيلد وتشينى هو الصواب.
???
والآن هناك محاولات لفتح ملف رامسفيلد منذ تعيينه مبعوثا خاصا فى الشرق الأوسط عام 1983 أثناء إدارة ريجان، حين اختاره ريجان لهذا الدور لما هو معروف عنه أنه متشدد، وكان عمره وقتها 51 عاما ولم يكن خبيرا فى شئون الشرق الأوسط، وكان معروفا بموقفه المؤيد لإسرائيل فعمل على قضاء الوقت فى رحلات ومقابلات ومباحثات لمجرد تضييع الوقت دون أن يقدم مقترحات ذات قيمة لحل المشكلة الفلسطينية، ولكن أهم ورقة فى ملف رامسفيلد هى الخاصة بزيارته إلى العراق ومباحثاته مع صدام حسين التى انتهت بحصوله على صفقة كبيرة لبيع الأسلحة الأمريكية إلى العراق شملت أسلحة كيمائية قيمتها مئات الملايين من الدولارات استخدمها صدام لإخماد تمرد الأكراد فى الشمال وهى الجرائم التى تمت بعلم الأمريكان والتى حوكم وأُعدم شقيق صدام وحسن الكيماوى عليها مع أن رامسفيلد هو أكثر من يعلم نوعيات وكميات هذه الأسلحة التى حصل عليها صدام ودفع فيها مئات الملايين من الدولارات، وهو الذى يعلم أيضاً هو وبوش أن فرق التفتيش التى دخلت العراق بعد حرب تحرير الكويت أعدمت كل ما تبقى منها وأعدمت الأجهزة والأدوات التى يحتمل أن تساعد صدام على استعادة قدرته على إنتاج هذه الأسلحة.. بيقين كان رامسفيلد يعلم أن صدام لا يملك أسلحة دمار شامل.
أما مسئولية رامسفيلد عن الانتهاكات غير القانونية وغير الأخلاقية ضد المسجونين العراقيين فى سجن أبوغريب فهى مسئولية أكدتها التقارير الرسمية وشهادات الذين أمروا والذين نفوذا عمليات التعذيب وقالوا إن هذا التعذيب كان منهجياً وطبقا للائحة ولتعليمات محددة، وقد ارتكبت فظائع لم يسبق لها مثيل فى سجون العراق.
وليس سجن أبو غريب إلا واحد من أكثر من عشرين سجنا فى العراق كانت تعتبر سلخانات وليست سجونا، وفى سجن جوانتانامو الذى يمثل صفحة سوداء فى التاريخ الأمريكى كان رامسفيلد يعلم كل ما يجرى فيه، فالقائمون بالتعذيب عسكريون لا يستطيعون عمل شىء بدون أوامر.
إن الرئيس بوش وهو يجمع أوراقه استعدادا لمغادرة البيت الأبيض لن يجد من يذكره بخير لما ارتكبه هو شخصيا ويعتبر مسئولا عنه مسئولية مباشرة، وما ارتكبه كبار مساعديه ويعتبر مسئولا عن أفعالهم وتصرفاتهم وهى مسئولية قانونية وأخلاقية لا يمكن التحايل عليها.
ويبقى سؤال: لقد ارتكب الأشرار الثلاثة: بوش، وتشينى، ورامسفيلد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أكبر من الجرائم التى حوكم بسببها قادة الصرب أمام المحكمة الجنائية الدولية.. فهل يمكن أن يحاكموا أيضاً؟.. أم أن العدالة لم تعد معصوبة العينين فى هذا العالم؟.. هل نجح بوش فى أن يجعل العالم غابة!!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف