بوش يجمع أوراقه ( 1 )
كان تصرف المواطن العراقى منتظر الزيدى بإلقاء الحذاء على بوش لحظة انفجار لما تمتلئ به صدور العراقيين من كراهية للرجل الذى دمر بلادهم. ولم يتبق من عمر رئاسة جورج دبليو بوش لأمريكا سوى أيام معدودة؛ يجمع فيها أوراقه ويخرج بعدها من البيت الأبيض غير مأسوف عليه، يخرج بوش من البيت الأبيض ليدخل التاريخ تحت عنوان (أسوأ رئيس فى تاريخ أمريكا)، وبعض المعلقين الأمريكيين يقولون إنه دخل البيت الأبيض – بطريق الخطأ أو بطريق التزوير – وهو جاهل جهلا كاملا، بالسياسة الخارجية، وسوف يخرج من البيت الأبيض وهو لا يزال جاهلا بها وبالسياسة الداخلية أيضا بدليل الأزمات التى تسبب فيها بسياساته وقراراته. ومع ذلك كانت لديه الجرأة على اتخاذ قرارات خطيرة يصفها المعلقون بأنها كانت فى مجملها قرارات حمقاء، ويقولون فى تفسير ذلك بأنه جاهل، محدود الذكاء كما يجمع على ذلك المقربون منه وزملاء الدراسة ويعتقد اعتقادا حقيقيا بأن كل ما يفعله هو بوحى من الله وتنفيذا لإرادته.
وأكثر من ذلك فقد سيطرت عليه فكرة أنه مبعوث العناية الإلهية لإصلاح العالم الأخيرة تغيير كل شىء بالقوة، وهو يعتقد أن الله سيساعده لذلك فى كل ما يفعله.. وحتى اللحظات الأخيرة لم يستيقظ بوش من أحلام اليقظة ليدرك إلى أى مدى أدت سياسته إلى الخراب فى أمريكا وفى العالم.. وبالكاد أفاق للحظة مؤخرا جدا وقبل خروجه بأيام واعترف بأنه ارتكب أخطاء فى غزو العراق، وعلق أخطاءه على شماعة المخابرات فادعى أنها قدمت له معلومات غير صحيحة عن وجود أسلحة دمار شامل هناك!
والمضحك أن بوش عندما بدأ أيامه الأولى فى البيت الأبيض منذ 8 سنوات كانت كوندوليزا رايس – مستشارة الأمن القومى فى ذلك الوقت ثم وزيرة الخارجية بعد ذلك – مكلفة بتعليم الرئيس مبادئ السياسة باعتبارها أستاذة سابقة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية فى جامعة ستانفورد، وبالفعل قامت رايس بدعوة مجموعة من خبراء السياسة الخارجية كان من بينهم الخبير الروسى مايكل ماكفول من مؤسسة هووفر، وخبير المصارف والاستثمار الديمقراطى فيليكس روهاتين الذى كان سفيرا لأمريكا فى فرنسا فى إدارة كلينتون، وكان من بينهم أيضا الكاتب والمحلل البريطانى تيموثى جارتون آش الخبير فى شئون أوربا ورئيس قسم أوربا فى صحيفة فاينانشيال تايمز، وطلبت منهم أن يقسموا على الاحتفاظ بمهمتهم مع الرئيس سرا، وقد أقسموا فعلا على ذلك حتى لا يعرف الشعب الأمريكى وقادة العالم أن رئيس أمريكا تحت التمرين، ولكن لا شىء فى أمريكا يبقى سرا لوقت طويل، فسرعان ما نشرت مجلة نيوزويك أنباء محاولات تعليم الرئيس بوش السياسة، كما نشر الصحفيان إيفان توماس وروى جوتمان تفاصيل أنباء الدروس الخصوصية فى غرفة المعيشة بجناح إقامة الرئيس فى البيت الأبيض فى جلسات يقوم فيها الخبراء بتعليم بوش بعض مبادئ وتطورات السياسة الخارجية، ولكن فريق (المدربين) أعلن شكواه من أن بوش لم يستفد من الدروس ويقود الإدارة الأمريكية فى الاتجاه الخطأ بإصراره على العمل الأحادى، وتصميمه على أن تتولى أمريكا قيادة العالم بمفردها واعترف بوش بعد ذلك أمام فريق المدربين بأنه بدأ فى التعامل مع أوربا بخطوة خاطئة على عكس سياسة والده – جورج بوش الأب – عندما كان رئيسا لأمريكا وكان حريصا على أن تكون كل خطوة يخطوها تحظى بموافقة وتأييد الحلفاء الأوربيين، وكان يعمل على تحقيق رؤيته حول أوربا موحدة وحرة، ولكن بوش الابن لم يلبث أن عاد إلى تنفيذ الفكرة التى كانت مسيطرة عليه منذ البداية وكأنها نوع من الوسواس القهرى الذى يتحدث عنه علماء النفس عندما يصفون المصابين بهذا المرض.. وكان واقعا تحت فكرة متسلطة أخرى هى أنه مثل ريجان.. قوى.. ولكنه بتكوينه لم يكن مؤهلا ليدرك الحقيقة وهى أنه لا يملك شخصيه كاريزمية مثل ريجان.
***
يقول إيفان توماس وروى جوتمان: إن بوش – على العموم – ليس أول رئيس يوصف بالسذاجة فى فهم السياسة ولكنه أكثر الرؤساء سذاجة، وقد أحاط نفسه بمجموعة من ذوى الأفكار المتحجرة، المتشددين وليس لديهم استعداد لسماع أصوات غير أصواتهم هم أو الالتفات إلى آراء غير آرائهم، وقد جاءوا جميعا من مدرسة سياسية واحدة وعرفوا باسم المحافظين الجدد ويتميزون بالتعصب الدينى والسياسى والإيمان بالقوة وبالتفوق الأمريكى على العالم، وفى نفس الوقت فإن بوش مصاب بحالة (تضخم الذات) كما يقول المتابعون لتصرفاته وتحليل حركاته وتصرفاته التلقائية وهى حالة تجعل صاحبها لا يدرك مدى جهله، وعلى العكس فإنه يعتقد أنه أقوى وأذكي رجل فى العالم، ولا أحد ولا شىء يمكن أن يقف فى طريقه، وأن إرادته نافذة مهما حاول الآخرون عرقلة مسيرته، وعندما ظهرت إدارته أمام العالم فى موقف حرج أثناء اشتباك اثنين من كبار المسئولين فيها هما وزير الخارجية كولن باول ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد انحاز إلى رامسفيلد أشد الصقور شراسة وأكثر معاونيه رغبة فى استخدام القوة المفرطة لفرض الهيمنة الأمريكية وإرغام العالم – بما فيه أوربا – على الخضوع والانقياد للسياسة الأمريكية.. واعتمد بوش السياسة التى جعلت أمريكا مثل (العربة الطائشة المندفعة بسرعة بدون فرامل كما وصفها الكاتب الأمريكى توماس فريدمان.. وأصبحت الإدارة الأمريكية تتصرف وحدها دون تشاور مع أحد، ودون اعتبار لمصالح أحد، ودون احترام للمعاهدات أو المؤسسات الدولية، ودون أن تبالى بالحلفاء الساخطين، وتعتقد أنها تستطيع إن تسير فى طريقها بدونهم وان (أوربا القديمة – العجوز كما وصفها رامسفيلد) لن تقدر على مسايرة الخطوات الشابة الجريئة التى تقوم بها أمريكا والتى تحتاج على شجاعة وقوة لا تملكها أوربا التى أصابتها الشيخوخة فى رأيهم!
ظل بوش طوال فترة حكمه يستمع إلى آراء ونصائح كوندوليزا رايس، ويبرر بعض المحللين ذلك بأنه عاش حياته خاضعا لإرادة أكثر من امرأة قوية أولهن أمه، والثانية زوجته، والثالثة كارين هيوز التى اختارها مديرة للاتصالات فى البيت الأبيض.. وظل بوش يلتقى بكوندوليزا رايس فى الصباح لتكون أول من يقابله وتعرض عليه آخر الأخبار والتحليلات وتقدم له النصائح والآراء، وتحدد له ما يقوله للصحفيين أو فى أحاديثه الإذاعية.. كما ظل يلتقى بها دوريا فى عطلة الأسبوع فى منتجع كامب ديفيد أو فى مزرعته فى تكساس.. ومن التشنيعات التى أطلقها أصدقاؤه أنه بعد أن يترك البيت الأبيض سيعمل مستشارا لفريق البيسبول باعتبار أن هذه اللعبة هى الشىء الوحيد الذى يفهم فيه ويقول المحللون أيضا إن شخصية كوندوليزا رايس تتميز بحب السيطرة على حد الهوس، وإنها تسيطر على الرئيس وتتحكم فى تحديد من يقابلهم وما يقولونه له ورايس هى التى أقنعت بوش؛ بعدم السير على طريق كلينتون فى اهتمامه بالتوسط لتحقيق السلام فى الشرق الوسط، وجعلته يقتنع بالاكتفاء بترديد الوعود وعن الدولتين وعن خريطة الطريق واللجنة الرباعية وغيرها دون العمل على تنفيذ شىء من هذه الوعود، وقد أعلن فعلا الابتعاد عن مشاكل الشرق الأوسط باعتبار أن هذه المنطقة مضطربة وغير جاهزة للحل النهائى ومحتاجة إلى عملية هدم وإعادة بناء فيما أسمته رايس (الفوضى الخلاقة)، وبنصيحة من رايس أعلن بوش انسحاب أمريكا من معاهدة كيوتو الخاصة بالحفاظ على البيئة والحد من الاحتباس الحرارى.. وأقنعته أيضا بعدم أهمية الالتزام بالقانون الدولى وحقوق الإنسان، حتى أن المعلق السياسى الأمريكى تشارلز كراوثهامر حين وصف سياسة بوش قال إن الأوربيين رأوا فيه وحشا، وقالت مجلة شتيرن الألمانية واسعة الانتشار عن بوش: (لقد ظهر الأمريكى البشع مرة أخرى) وبدأ المعلقون يطرحون السؤال: (هل أصبحت الولايات المتحدة قوة مارقة).
***
ونتيجة للسياسات الحمقاء التى اتبعها بوش فى العراق وأفغانستان والشرق الأوسط وأوربا وروسيا استقال وزير الخارجية كولن باول بعد أن فشل فى إقناع بوش ونائبه ديك تشينى ووزير الدفاع رامسفيلد ومستشارة الأمن القومى رايس (رباعى محور الشر) فشل فى إقناعهم باحترام المؤسسات والمعاهدات الدولية، أما موقف أوربا الساخط فقد وصل إلى حد العمل على إسقاط الولايات المتحدة من عضوية لجنة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، ووجهت أوربا ضربة أخرى عندما رفض حلف شمال الأطلنطى المشروع الأمريكى الخاص ببناء درع الصواريخ، ولم تشعر إدارة بوش بالخجل حين ظلت على إصرارها بإعفاء الجنود الأمريكيين من الخضوع لمحكمة مجرمى الحرب وأعلنت بذلك أنها ستكون الدولة الوحيدة التى ترتكب جرائم حرب دون أن تخضع للمحاسبة.
***
وربما يكون بوش قد أدرك مؤخرا جدا أنه لا يستطيع أن يفرض رؤيته ورؤية المحافظين الجدد على العالم، وأن القوة لها حدود، وأن العالم كبير ومعقد ولا يمكن لقوة واحدة أن تهيمن عليه هيمنة كاملة وتسيره كما تريد.. وقد اعترفت كوندوليزا رايس منذ أيام فقط بأن إدارة بوش أخطأت فى تعاملها مع كوريا الشمالية، وأخطأت أيضا بالانسحاب من معاهدة كيوتو وأن الاحتباس الحرارى خطر حقيقى يهدد الكرة الأرضية، لم تدرك إدارة بوش حقيقته، ولم يشعر بوش بالخجل حين أسقطت الصين طائرة تجسس أمريكية كانت تحلق فوق أراضيها ولم تسمح بإعادتها إلا بعد أن فككتها وعرفت أسرار صناعتها، كما لم يشعر بالخجل وهو يعترف بأن غزوه للعراق لم يكن قائما على مبررات حقيقية وأنه تسبب فى قتل وتشريد مليونى عراقى وتدمير العراق على سبيل الخطأ!!
قال السيناتور الجمهورى تشاك هيجل لمجلة نيوزويك إن بوش مازال تلميذا فى مدرسة تتطلب الكثير ولا تتسامح، وأنه يحتاج إلى كل المعلمين لكى يتعلم!
هذا هو بوش الذى يجمع أوراقه ويستعد للخروج من البيـت البيض بعد 8 سنوات ارتكب فيها من الأخطاء ما يفوق كل الأخطاء التى ارتكبها كل رؤساء أمريكا الأربعين الذين سبقـوه!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف