الصين فى مواجهة العاصفة!
طبعا سوف تنجح الصين فى مواجهة العاصفة الاقتصادية العالمية التى وصفها الأمريكى بأنها تشبه عاصفة تسونامى التى دمرت سواحل آسيوية.
الأرقام دليل لا يكذب على ما حققته الصين، خاصة عندما تكون صادرة من الولايات المتحدة وليس من الحكومة الصينية. تقول الأرقام الأمريكية إن الأمريكيين اشتروا فى العام الماضى ملابس من صناعة الصين بمبلغ 11 مليار دولار، واشتروا بمبلغ 185 مليار دولار سلعا أخرى. ويقول تقرير وزارة الخزانة الأمريكية إن ديون أمريكا للصين تخطت الخط الأحمر، وأن الشركات الصينية تتنافس مع الشركات الأمريكية على الموارد الاستراتيجية وأهمها البترول، وأن الصين أصبحت قادرة على الضغط على السياسة الأمريكية لكى تعترف أمريكا بأحقية الصين فى فرض نفوذها فى المنطقة، وقد أجادت استخدام الورقة الكورية الشمالية وبرنامجها للأسلحة النووية لتحصل على إقرار أمريكى ودولى بأن الصين هى مفتاح الحرب والسلام فى المنطقة.
ولا يخفى الأمريكيون قلقهم من استغلال الصين فترة هدوء علاقاتها مع أمريكا التى كانت مشغولة فى الحرب فى العراق وأفغانستان وحصلت على مزايا ونقاط تفوق سياسية واقتصادية وتحقق قفزات أكدت بها وجودها فى الساحة العالمية كقوة كبرى. وهى ترفض تعويم عملتها بالنسبة للدولار وتحدد له سعرا أقل من قيمته الحقيقية لكى تبقى على الميزة التى اشتهرت بها وهى رخص أسعار منتجاتها بالمقارنة بالسلع الأوروبية والأمريكية المماثلة مع ما يعنيه ذلك من تأثير سلبى على الاقتصاد الأمريكى والأوروبى، وتدعى أمريكا أن الصين تسرق المخترعات الجديدة وتقلدها دون أن تدفع للشركات المالكة لحقوق الملكية الفكرية فى أمريكا وأوروبا، وما يثير القلق أكثر من كل ذلك هو السرعة والتقدم الكبير فى تحديث الصين لقواتها المسلحة.
وتقول الأرقام أيضاً إن مبيعات الصين من تكنولوجيا المعلومات فى سنة واحدة بلغت 220 مليار دولار، وبذلك تفوقت الصين على اليابان التى كانت تسبقها، وأصبح ترتيبها الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث حجم إنتاج وتصدير تكنولوجيا المعلومات. وتخطو مدينة شنغهاى الصينية بسرعة جدا لتصبح المركز المالى الدولى الأكبر فى منطقة آسيا والمحيط الهادى قبل عام 2020. وقبل شهور أعلنت شركة فولكس فاجن وشركة موتورز وهما من أشهر شركات صناعة السيارات أنهما ستزيدان استثماراتهما فى الصين للحصول على نصيب أكثر فى سوق السيارات الصينية الذى شهد فى الفترة الأخيرة ازدهارا فاق التوقعات وتقوم شركة فولكس فاجن ببناء مصنعين فى الصين لإنتاج السيارات وفى المقابل فإن شركة جنرال موتورز بدأت فى استثمار 240 مليون دولار لتوسيع قدراتها الإنتاجية، وأعلنت عن إنتاج سيارات كاديلاك الفاخرة داخل الصين لتلبية الطلب المتزايد على السيارات الفاخرة فى السوق الصينية. وتقول الأرقام إن شركة صينية أصبحت منذ سنوات ضمن أقوى 500 شركة فى العالم آخرها 4 شركات من شركات القطاع العام، ومنها شركة الدولة للشبكات الكهربائية، وشركة باوشان شنغهاى للحديد والصلب، وشركة هوانجبو، وشركة شنغهاى العامة لصناعة السيارات، والشركة الوطنية للصناعات البتروكيماوية، والشركة الوطنية للنفط والغاز الطبيعى، والشركة الوطنية للتأمين، والشركة الوطنية للاتصالات، وبنك الإنشاء الشعبى، وبنك الصين، وبنك الزراعة.. إلخ.
***
قد لا تصدق أن الحكومة تعمل على «فرملة» الاقتصاد الصينى لكى تضمن ألا يفقد التوازن نتيجة هذا الاندفاع الذى جعل النمو الاقتصادى يصل فى بعض السنوات إلى 20% وهو الآن فى حدود 10% ولكنه سوف يزيد على ذلك، لأن الاستهلاك والتصدير يقودان دورات التجارة صعودا وليس الاستثمار كما يحدث فى بلاد أخرى. نتيجة هذه التنمية يرتفع معدل دخل الفرد فى المدن 9.5% كل سنة، وبمعدلات أقل قليلا فى الريف على الرغم من ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية وزيادة دخول المزارعين. وظهرت فى الصين أيضاً مشكلة الزيادة الكبيرة فى اعتماد المؤسسات المملوكة للدولة على الاقتراض من البنوك، مما يعنى احتمال ظهور ازمة القروض المتعثرة وإلى جانب ذلك ظهرت مشكلة الاستثمار العشوائى فى العقارات وخاصة فى المدن الكبيرة اعتمادا على القروض من البنوك. الهدف الذى حددته الصين هو زيادة الناتج القومى المحلى حتى يصل فى عام 2020 إلى أربعة أضعاف ما هو عليه الآن والتغلب على مشكلة البطالة واستكمال نظام اقتصاد السوق الاشتراكى الذى تنفرد به الصين وتجمع فيه بين الاقتصاد الرأسمالى والنظام الاشتراكى ليكون أقرب إلى ما نادى به الرئيس الفرنسى ساركوزى ليأخذ به العالم وهو النظام الرأسمالى ذو الطبيعة الإنسانية الذى يجمع بين حرية السوق والعدل الاجتماعى. وإذا كان العالم يواجه الآن فترة من انكماش الاستثمار فإن الصين على العكس من ذلك، يتزايد فيها الطلب ويتزايد الاستهلاك، وهذا هو ما يمثل إحدى القوى المحركة لنمو الاقتصاد، وهناك قوى أخرى محركة لنمو الاقتصاد مثل زيادة التمويل الحكومى لإنشاء مشروعات جديدة، وزيادة الاستثمارات الأجنبية، وكمثال على زيادة نشاط السوق المحلى زادت مبيعات السيارات 80% مما جعل الصين رابع أكبر سوق للسيارات فى العالم، وزادت ودائع الصينيين فى البنوك 19%، وزادت صادرات الصين 10%، والاستثمارات الصينية فى السوق العالمى تلعب دورا مهما فى تقوية الاقتصاد الصينى، وتجعل الصين قاعدة إنتاج خارج حدودها ومركزا عالميا للاستثمارات الخارجية.
وتقول مؤسسة مورجان ستانلى - أكبر المؤسسات المالية العالمية التى تفخر الدول بشهادة منها - إن الصين أصبحت القوة المحركة الرئيسية لدفع الاقتصاد العالمى الذى يعانى الآن من الركود، وزيادة الواردات الصينية قوة محركة لزيادة الطلب الخارجى، فالصادرات من اليابان وكوريا وألمانيا الجنوبية وتايوان تمثل أهمية كبرى لاقتصاد هذه الدول وقد استفادت من زيادة الطلب فى الصين.
***
لم يكن سهلاً بناء اقتصاد مزدهر إلى هذه الدرجة وتحويل الصين من دولة متخلفة إلى دولة حديثة مزدهرة. قال لى مسئول العلاقات الخارجية فى الحزب الحاكم: لقد حققنا إنجازات اقتصادية مهمة منذ عام 1949 وحتى السبعينات إلا أننا ارتكبنا أخطاء وعانينا من بعض المشاكل والعقبات، وتعطلت مسيرتنا لعشر سنوات بسبب الفوضى الداخلية التى أحدثتها الثورة الثقافية بقيادة أرملة (ماوتسى تونج) حتى وصل الاقتصاد الصينى إلى حافة الانهيار فى الوقت الذى كنا نراقب ما يحدث فى بعض الدول الأخرى من نمو اقتصادى سريع (وربما يقصد اليابان وكوريا الجنوبية). وهذا التناقض أزعجنا بشدة وجعلنا نفكر تفكيرا جادا فى إعادة البناء بروح جديدة.
وفى نهاية عام 1978 كنا قد درسنا التجارب الايجابية والتجارب السلبية فى الصين وفى غيرها من الدول، وفى ذلك الوقت - عام 1978- اتخذت القيادة الصينية القرار التاريخى بالتركيز على النمو الاقتصادى من خلال الإصلاح الداخلى والانفتاح على العالم، واعتمدنا النظرية الجديدة وهى تعزيز الاشتراكية - وليس التخلى عنها - وتطبيق اقتصاد السوق فى نفس الوقت، واستطعنا أن نصل إلى حل لهذه المعادلة الصعبة. لم نعد نأخذ باشتراكية النوذج السوفيتى، ولكن أصبحت لنا اشتراكية بالخصائص الصينية.. وفى عام 1992 بدأنا تطبيق نظرية اقتصاد السوق الاشتراكية بدلاً من نظرية الاقتصاد الحر حرية مطلقة ونظرية الاقتصاد الموجه الشمولى. وعلى مدى عامين أدت سياسة الإصلاح والانفتاح إلى نمو القوى الاجتماعية، وفى عشرين عاما من عام 1978 إلى 1998 زاد الدخل القومى الإجمالى أكثر من خمس مرات، واستمرت الزيادة إلى أن أصبحت الصين اليوم تتصدر العالم فى إنتاج أهم المنتجات الزراعية والصناعية وعلى الرغم من أن الصين لا تمتلك غير 7% فقط من الأراضى الزراعية فى العالم إلا أنها نجحت فى توفير الغذاء لسكانها الذين يمثلون 22% من سكان العالم وتنتج ما يزيد على احتياجاتها للتصدير، وبعد أن كان 25% من الصينيين فى عام 1978 يصنفون عالميا بأنهم فقراء انخفضت نسبتهم إلى أقل من 5% ولم تعد الصين تعانى من نقص أية سلعة فى أسواقها.. وزاد حجم التجارة الخارجية 20 مرة عما كان عليه عام 1978، وتتدفق الاستثمارات الأجنبية بمعدل 100 مليون دولار يوميا، وفى عام واحد أنشئ فى الصين 390 الف مشروع استثمارى أجنبى بمبلغ 750 مليار دولار، وبلغ حجم الاحتياطى من النقد الجنبى 212 مليار دولار، وبعد مفاوضات شاقة فرضت الصين شروطها وانضمت إلى منظمة التجارة العالمية مما يعنى أن التعاون الاقتصادى بين الصين ودول العالم قد دخل فى مرحلة جديدة.
وليس هذا كل ما يدهش الزائر إلى بلد الأرقام الكبيرة وإلى الشعب صانع المعجزات.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف