كيف خرجت الصين من عنق الزجاجة؟!
عندما نجحت الصين فى إجراء أول تجربة لقنبلة ذرية من إنتاجها كان من الطبيعى أن يزداد الشعور بالقلق فى الغرب من هذه النقلة الخطيرة للصين. فقد كانت هذه التجربة فى عام 1964 - أى منذ 44 سنة - وكانت الصين قد دخلت فى حرب مع الولايات المتحدة فى كوريا. كما كانت فى ذلك الوقت تمثل بصعودها العسكرى والتكنولوجى خطرا على دول الجوار وخاصة الهند وأندونيسيا. كما كانت تمثل تهديدا مباشرا للنفوذ السياسى والاقتصادى والوجود العسكرى للولايات المتحدة وللغرب عموما بتأييدها للثورات وحركات التحرر فى دول العالم الثالث. واليوم.. وبعد مرور هذه السنوات لم يعد التهديد الذى تمثله الصين للولايات المتحدة وأوروبا تهديدا عسكريا مباشرا، ولم يعد واردا أن يصبح السلاح النووى الذى تمتلكه الصين تهديدا للغرب أو لدول الجوار.
فلا يزال الفارق كبيرا بين القدرات العسكرية للصين وللولايات المتحدة، وميزان القوى حتى الآن يميل لصالح الغرب، ولكنه تخوف الغرب من الصعود المستمر للقوة الشاملة للصين لا يزال قائما لسببين:
السبب الأول أن الصين تحقق على مدى السنوات المتتالية أكبر معدل للنمو الاقتصادى فى العالم، وقد أصبحت من أكبر الدول تصديرا إلى أسواق الدول فى القارات الخمس دون استثناء، واقتصادها يزداد قوة كل يوم ويزداد ميل الميزان التجارى مع الولايات المتحدة لصالحها، حتى أصبحت الولايات المتحدة أكبر دائن لأمريكا وحجم الدين يتزايد ويبدو من الصعب جدا أن تسدد الولايات المتحدة هذا الدين.
السبب الثانى أن الصين وإن كانت لا تملك إلا عددا محدودا من القنابل النووية بالمقارنة بما تملكه أمريكا. إلا أن الصينيين يرون أن ما لديهم يكفى لضمان الأمن لبلادهم وتحقيق التوازن النووى مع القوى الكبرى، ويتمسكون بالحكمة القائلة:(إن الصين لديها قنابل نووية تكفى لتدمير العالم، فلماذا تفكر فى المزيد). والصين ليس لديها مثل العدد الذى تملكه أمريكا من حاملات الطائرات، وما لديها من المدمرات قليل، ولم تنجح إلى الآن قاذفات قنابل طويلة المدى مثل أمريكا، وليست لديها قواعد عسكرية خارج حدودها، بينما الولايات المتحدة لديها قواعد عسكرية وجنود وأسلحة ومعدات فى كل بقعة من بقاع العالم، وما لدى الصين من صواريخ قصيرة المدى لا يكفى لخوض حرب طويلة، ومع ذلك فإن أمريكا تشعر بالقلق من تزايد القدرات العسكرية والعلمية والتكنولوجية للصين، وما يمكن أن تصل إليه مستقبلاً، وتحاول احتواءها. وعندما سئلت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية عن المبرر لوجود كل هذه الأعداد الكبيرة من القوات الأمريكية فى أوكيناوا أجابت بأن هذه القوات ضرورية لموازنة الصعود العسكرى للصين. ويرى واضعو السياسة الأمريكية أن القوة الاقتصادية المتزايدة للصين لا بد أن تتحول على المدى الطويل إلى قوة عسكرية وتهديد لا بد أن يحسب له حساب، وأن زيادة قوة ونفوذ الصين إقليميا يجب أن تراقبه أمريكا بحذر لترى إلى أى مدى يمكن أن يصل؟ وهل للصين أطماع خارج حدودها؟.. هذا التفكير الأمريكى على المستوى الاستراتيجى يعكس قلق أمريكا من التهديد الذى تمثله الصين فى شرق آسيا على الوجود والنفوذ الأمريكى فى هذه المنطقة. وهذا ما يجعل الصين تكرر الإعلان عن حرصها على استقرار الأوضاع كما هى وعدم رغبتها فى تحقيق أى مكاسب إقليمية، وتأكيدها بأنها لا تعترض - ولا تشعر بالقلق - للوجود العسكرى الأمريكى فى المنطقة، بل إنها تعتبر هذا الوجود عاملاً يساعد على الاستقرار الذى يمثل إحدى ركائز الاستراتيجية الصينية.. ولكن هل تطمئن أمريكا بهذه التصريحات وهى ترى القوة الشاملة المتصاعدة للصين؟
***
تواضع المسئولين فى الصين يجعلهم يكررون الحديث عن الصين كدولة نامية وأن نصيبها من التجارة العالمية لا يزال محدودا، وليس صحيحا ما يقال إنها على وشك الهيمنة على التجارة فى شرق آسيا، لأن ما تصدره إلى أسواق شرق آسيا لا يكاد يصل إلى نصف حجم صادرات أمريكا أو اليابان، وأن ما يقال عن تدفق مليارات الدولارات من الاستثمار الأجنبى إلى الصين فيه مبالغات ومغالطات، لأن الأرقام الحقيقية للاستثمارات الأجنبية أقل من الأرقام التى تعلنها المصادر الغربية، والجانب الأكبر من هذه الاستثمارات للصينيين الذين كونوا ثرواتهم فى الخارج، وأن معظم الاستثمارات التى تدخل الصين من شرق آسيا تخرج ثانية عبر هونج كونج، ثم تعود مرة أخرى بعد ذلك لكى تستفيد من اعتبارها استثمارات جديدة وتحصل على الإعفاءات الضريبية المقررة للاستثمارات الجديدة لعدة سنوات.. ولكن الغرب يعتبرها زيادة حقيقية للاستثمارات.
وما تقوله الصين ليس كل الحقيقة، ولكن هذه هى الصين، وهذه طبيعة شعبها لا يباهى بانتصاراته ولا يتحدث كثيرا عن الانجازات، ويكتفى بإعلان هادئ عن تقدمها بتواضع وبحرص على إخفاء الشعور بالتفوق.. وقد لمست ذلك بنفسى وفى حديثى مع كل مسئول قابلته.. يقول لى: نحن نتعلم منكم نحن دولة نامية.. متوسط دخل الفرد عندنا أقل منه فى مصر، وأن ما يقال عن تضخم حجم الصادرات الصينية إلى أسواق العالم لا يساوى مثلا قيمة عدد محدود من الطائرات التى تصدرها أمريكا وأوروبا.. يتحدثون بمنتهى الأدب والتواضع.. ولكن بمنتهى الثقة. ولو لم يكن الغرب يخشى صعود الصين فلماذا كان فرض أمريكا حظر تصدير الأسلحة إليها، ولماذا كان تحريضها لأوروبا لتنضم إليها فى هذا الحظر؟
***
أما السبب الثانى لتخوف الغرب من صعود الصين فهو التقدم العلمى والتكنولوجى السريع الذى تحققه. وقد حرصت فى زيارتى الأخيرة للصين على مقابلة المدير العام لوزارة البحث العلمى وسألته عن مدى اهتمام بلاده بالبحث العلمى فقال لى إن الدولة وضعت استراتيجية للبحث العلمى حددت فيها الأهداف وتحاسب المسئولين إذا لم تحقق هذه الأهداف فى كل خطة خمسية. الهدف هو الوصول إلى المستويات العالمية، ولذلك أنشئت أودية السليكون ويتم زيادتها وتطويرها باستمرار، كما يتم تنفيذ خطة للانفتاح على جميع الدول للحصول على أحدث ما لديها من التكنولوجيا، وتتضمن الاستراتيجية الاهتمام بالبحوث الأساسية، ولكن التركيز الأكبر على البحوث التطبيقية لتطوير الصناعة والزراعة، ونسعى إلى أن نعتمد على انفسنا، والدولة تقدم الجانب الأكبر من التمويل اللازم للبحوث وجزء من التمويل يأتى من عائد المشروعات العلمية التى تنفذها مراكز البحوث لحساب المصانع والشركات لتطوير مستوى الأداء وتحسين منتجاتها، ونطبق أسلوبا جديدا لتشجيع الباحثين على الاختراع. بأن يكون للباحث الذى يتوصل إلى اختراع جديد أن يحصل على 20% من عائد هذا الاختراع، وليس هناك حد أقصى لما يمكن أن يحصل عليه، ولا نمانع من أن يجنى الملايين ما دام ذلك نتيجة جهده وعمله.. نحن لسنا ضد الدخول الكبيرة.. نحن ضد الدخول الكبيرة والصغيرة إذا كانت من مصدر غير مشروع.. إذا لم يكن مصدرها زيادة الإنتاج وتحقيق قيمة مضافة للاقتصاد الوطنى. وفى نفس الوقت نحن نشجع الباحثين على السفر إلى الخارج والاشتراك فى المؤتمرات العلمية والدورات التدريبية وزيادة مراكز ومعامل الأبحاث والجامعات فى مختلف دول العالم للاطلاع على أحدث ما توصلت إليه.. نحن نفتح عيوننا وعقولنا لكل جديد.
والملاحظ أن معظم الدارسين الصينيين فى الخارج يعودون إلى بلدهم بعد انتهاء دراستهم ولا يستمرون فى البقاء فى الخارج. كما يفعل الدارسون من الدول النامية، وعاد إلى الصين عدد كبير من العلماء والباحثين الذين كانوا قد التحقوا بالعمل فى أمريكا وأوروبا، وعادوا بعد أن تحسنت ظروف العمل فى مراكز الأبحاث وفى الجامعات، وبعد أن أصبح للعلماء وأساتذة الجامعات مكانة اجتماعية متميزة وحرية التفكير والبحث دون قيود ودون تدخل الدولة. وتركز الأبحاث فى هذه المرحلة على الأبحاث التى تحقق نتائجها عائدا اقتصاديا فى الصناعة والزراعة، وقد استطاعوا أن يحققوا الكثير على الرغم من أن الموارد المالية محدودة بالقياس إلى الدول الغربية، والمبدأ الذى يردده كل مسئول فى الصين هو:(أن الكفاءة لا بد أن تجد الفرصة كاملة لكى تتقدم وتنجح، وأصحاب المواهب - العلماء وأساتذة الجامعات والمفكرون والأدباء والفنانون - يجب أن يحاطوا بالرعاية الكاملة من الدولة لأنهم هم ثروة الصين الحقيقية.
وهكذا.. خرجت الصين من عنق الزجاجة!