فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 47 )
وأخيرا جاء يوم 26 يوليو 1952 ليسدل الستار على حكم فاروق وعلى نظام الملكية فى مصر.. وكان لا بد أن يأتى هذا اليوم.. كان المصريون ينتظرون هذا اليوم ولا يعرفون متى سيأتى، ولكنهم كانوا واثقين أنه سيأتى حتما.. وكان السياسيون يتوقعون أن يأتى هذا اليوم وتتغير أحوال البلد.. وكانت تقارير السفارات الأجنبية تتوالى إلى عواصم بلادها بما وصل إليه الحال من تدهور سياسى واجتماعى واقتصادى، وما وصل إليه فاروق من عبث واستهانة بأقدار البلاد إلى حد أن يعين زوج أخته - إسماعيل شيرين - وزيرا للحربية وهو برتبة يوز باشى احتياطى.. وذلك فى آخر الوزارات التى حلفت اليمين مساء يوم 21 يوليو.. ولم يتجاوز عمرها 24 ساعة.. ويحكى مرتضى المراغى آخر وزير داخلية فى عصر فاروق أن السفير الأمريكى قدم إليه «كيم روزفلت» - رجل المخابرات الأمريكية - على أنه صحفى وكاتب مهتم بشئون الشرق الأوسط، وأن «كيم روزفلت» قال له إن أمريكا تريد مساعدة مصر اقتصاديا وتكنولوجيا على أن يبدأ المصريون بترتيب البيت!
وقال «روزفلت» - شارحا مطالب أمريكا - بأنها تقصد بترتيب البيت ما يلى: تقليل الفوارق بين الطبقات بتوزيع جزء من الممتلكات الكبيرة على صغار الفلاحين، وإصلاح زراعى شامل، ومساعدات اجتماعية وصحية للفقراء، ورفع مستوى الأجور.. وأضاف: أنه التقى مع الملك فاروق وتحدث معه فى هذه المطالب الأمريكية، ولكنه لم يتلق من فاروق ردا شافيا واكتفى بأن حول الحديث إلى موضوعات أخرى.. ويقول مرتضى المراغى فى مذكراته إنه بعد قدوم «كيم روزفلت» إلى القاهرة كانت تصل إليه - أى إلى المراغى بصفته وزيرا للداخلية - تقارير عن حركة كبيرة للأمريكيين فى مصر، وإن الفنادق امتلأت بمن يسمون برجال الأعمال الأمريكيين، وكان - وزير الداخلية - يعلم أن الكثيرين من رجال الأعمال هم من رجال المخابرات الأمريكية، وفى نفس الوقت زاد عدد موظفى السفارة الأمريكية زيادة مفاجئة حتى وصل إلى ضعف عددهم.
ويقول وزير الداخلية عن الحال الذى وصل إليه فاروق ما هو أخطر من ذلك يقول: إن غالبية رجال الأمن فى مصر لم يكونوا على ولاء للحكومة، لأنهم كانوا يكرهون الملك. ويقول أيضاً إنه لا يظن أن المصادفة هى التى أتت بـ «كيم روزفلت» إلى مصر خصوصا وقد انكشفت حقيقته وهى أنه من كبار رجال المخابرات الأمريكية، وتأكدت أهميته فكان له دور بارز فيما بعد فى إسقاط حكومة مصدق فى إيران.. وكان حضوره إلى مصر فى وقت كانت فيه البلاد فى حالة غليان ضد حكم فاروق، وكانت حركة الضباط الأحرار قد اشتدت إلى أبعد مدى ووقفت تتحدى علنا إرادة الملك فى انتخابات مجلس إدارة نادى الضباط.. كل الظروف كانت مهيأة لاستقبال ثورة 23 يوليو، ويوم 26 يوليو.. يوم رحيل فاروق.
***
فى صباح يوم 26 يوليو كانت القصور الملكية فى القاهرة والإسكندرية قد احاطتها الدبابات والقوات وحلقت فوقها الطائرات، وكانت المدافع موجهة نحو «قصر رأس التين»، حيث يجلس فاروق وأسرته، وأغلق الميناء. وأمر فاروق بتحصين القصر، وجرى تبادل قصير لإطلاق النار بين قوات الحرس الملكى وقوات الثورة أسفر عن مقتل شخص واحد من كلا الجانبين.. وجرح عدد بسيط واعتقال اللواء عبد الله النجومى باشا قائد الحرس الملكى.. وبعد لحظات استسلم الحرس الملكى.. واتصل فاروق بالسفير الأمريكى وطلب منه المساعدة.. وكان على ماهر الذى أصبح رئيساً للوزراء قد استقبل فى التاسعة من صباح ذلك اليوم كلا من (محمد نجيب وأنور السادات وجمال سالم) وتسلم منهم إنذار الجيش بتنازل فاروق عن العرش لابنه أحمد فؤاد وأن يغادر البلاد فى موعد أقصاه السادسة مساء، وإذا رفض ذلك فإنه يتحمل المسئولية عما سيحدث. وتوجه على ماهر إلى القصر فى العاشرة والنصف صباحا وعرض الأمر على فاروق - دون أن يقدم إليه الإنذار المكتوب - فرفض فاروق وقال إنه قادر على قمع هذا (التمرد)، ولكن على ماهر أقنعه بأن المقاومة ستؤدى إلى حرب أهلية لن يسانده فيها الشعب ولن يقف أحد إلى جواره، أما إذا قبل التنازل فإنه يضمن سلامة حياته وحياة أسرته ويضمن بقاء العرش لابنه.. وأخيرا امتثل فاروق على مضض بعد أن وصل سكرتير السفير الأمريكى إلى القصر ليبلغ فاروق بأن اللواء محمد نجيب تعهد بالمحافظة على حياته وحياة أسرته. وطلب فاروق أن يكون السفير المريكى فى توديعه عند السفر.. وكان قبل ذلك قد اتصل بالقائم بالأعمال البريطانى.. وطلب منه المساعدة فلم يحصل منه إلا على وعد بالمحافظة على حياته.. وكانت ضمن طلبات فاروق أن يغادر البلاد باليخت «المحروسة» الذى سبق أن غادر بها الخديوى إسماعيل البلاد وهو مخلوع عن العرش.. وأبدى رفضه للسفر بالطائرة خشية أن يتم إسقاطها فى الجو والتخلص منه.. وطلب أيضاً أن تكون وثيقة التنازل مثل وثيقة تنازل ملك بلجيكا عن العرش وأنه تنازل عن العرش بإرادته.. وأن تجرى له مراسم توديع ملكية، ووقع فاروق على وثيقة التنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد وتشكيل مجلس الوصاية على ولى العهد برئاسة الأمير محمد عبد المنعم.. وكان الدكتور عبد الرزاق السنهورى - رئيس مجلس الدولة - هو الذى أعد وثيقة التنازل فى صورة أمر ملكى.. وجاء فى مقدمتها أن فاروق يطلب الخير والسعادة والرقى لأمته وأن لديه الرغبة الأكيدة فى تجنبها المصاعب فى الظروف الدقيقة التى تمر بها، وأنه نزولاً على إرادة الشعب قرر التنازل عن العرش لولى عهده الأمير أحمد فؤاد.. وذهب سليمان حافظ بالوثيقة إلى الملك فاروق فاستقبله وهو يرتدى ملابس القائد الأعلى للقوات البحرية. قرأ فاروق الوثيقة أكثر من مرة، وطلب إضافة كلمة (وإرادتنا) بعد إرادة الشعب لكن سليمان حافظ أقنعه بأن الوثيقة فى صيغة أمر منه وتعبر عن إرادته.. وحاول فاروق أن يبدو هادئا، ولكنه وقع على الوثيقة مرتين.. وتقول الدكتورة لطيفة سالم إنه أعدت 150 حقيبة وصندوقاً ليصطحبها فاروق معه، ولم يتمكن من نقل متعلقاته فى قصور عابدين والقبة والمنتزه، ولكنه أرسل «أنطون بوللى» إلى قصر المنتزه فأحضر حقيبتين صرح بوللى بعد ذلك بأن فيهما سبائك ذهب، وقد أثار ذلك قادة الثورة وفكروا فى محاصرة المحروسة بطائرات حربية لاستعادة الذهب، ولكن القائم بالأعمال البريطانى تدخل لمنع ذلك حتى لا يتعرض فاروق لأى خطر وأقنع قادة الثورة بأن ذلك يمكن أن يسبب انطباعا سيئاً فى الخارج عن حركة الضباط، وبدلا من ذلك يمكن الاتصال بالحكومة الإيطالية بالطرق الدبلوماسية لإعادة السبائك مع المحروسة، ولم ينفذ هذا الاقتراح، نشر تكذيب لما صرح به بوللى، وتقول الدكتورة لطيفة إن نشر التكذيب لا يعنى أن الواقعة لم تكن صحيحة، ولكنها كانت إجراء سياسيا لعدم إثارة مشاكل كانت أمريكا وبريطانيا تحذران منها.
***
فى الخامسة مساء وصل إلى القصر رئيس الوزراء - على ماهر - والسفير الأمريكى «جيفرسون كافرى» وسكرتيره. ووصف السفير الأمريكى حالة فاروق بأنه كان حزينا وقلقا، وطلب منه أن تقابل المحروسة إحدى القطع البحرية الأمريكية لحمايته، ولكن السفير اعتذر بأن القطع البحرية الأمريكية فى أثينا ولن تتمكن من تنفيذ هذا الطلب.. وكرر له التأكيد على ضمان سلامته.. وطلب فاروق من على ماهر إعداد الأمور جيدا لابنه الذى أصبح ملكا على مصر تحت الوصاية، ولم يستطع أن يضبط أعصابه فى اللحظة الخيرة فقال إن الذين اضطروه للخروج فى غاية الإجرام وإنهم لن يستمروا فى الحكم إلا أياماً قليلة.. وكان ذلك عشم إبليس فى الجنة!
وأصدر محمد نجيب - بوصفه القائد العام للجيش - الأمر إلى قائد اليخت المحروسة - جلال علوبة - بالإقلاع وإعادة اليخت بعد انتهاء المهمة، وسمح لستة من ضباط الحرس الملكى وبوليس القصر بالسفر مع فاروق على أن يعودوا على المحروسة، وطلب فاروق أن يصحبه بوللى، ولكن قادة الثورة رفضوا سفر بوللى معه.. وسمحوا له بمرافقة بترو الحلاق، وكافاتشى مدرب الكلاب، وعددا من الحراس الخصوصيين الألبان، ومربية أحمد فؤاد، ومربية الأميرات، ووصيفة ناريمان.
وفى الخامسة والنصف غادرت ناريمان مع ابنها وبنات فاروق القصر واستقلوا زورقا أوصلهم إلى المحروسة بينما وقف فاروق يصافح موظفى القصر وضباط الحرس الملكى. وعندما وضع قدمه على آخر درجة من سلم القصر أنزل العلم الملكى من ساريته، وسار فاروق يتفقد حرس الشرف.. وعزفت الموسيقى السلام الوطنى.. وتقدم الضابط الذى يحمل العلم فطواه وسلمه له. كما تقضى التقاليد العسكرية، وحلقت أربع طائرات مشاركة فى التحية، واطلقت المدفعية 21 طلقة، وأدى حرس الشرف التحية العسكرية، ووقف رئيس الوزراء على ماهر أمامه.. وركب فاروق الزورق البخارى ومعه بعض رجال القصر، بينما واصلت إحدى المدمرات إطلاق مدافعها تحية له، ووصل محمد نجيب متأخرا وقال إن الطريق كان مزدحما وإن السائق ضل الطريق.. وكان بصحبته أحمد شوقى، وجمال سالم، وحسين الشافعى، وإسماعيل فريد، ويسجل السفير الأمريكى فى تقريره أن العداء كان باديا على وجوههم، واستقلوا زورقا بخاريا للحاق بالمحروسة قبل إبحارها، وأدوا التحية العسكرية للملك المخلوع.. وطلب فاروق من محمد نجيب الاعتناء بجيش آبائه وأجداده.. وقال لهم: أنتم سبقتمونى فيما كنت أريد أن أفعله ولم يفصح عما كان يريد أن يفعله.. وختم حديثه إلى محمد نجيب قائلا له إن مهمته صعبة للغاية لأنه ليس من السهل حكم مصر.. استمر اللقاء ثلث ساعة.. وعندما لاحظ فاروق أن جمال سالم يحمل عصاه امره بإلقائها فألقاها، وانتهى المشهد الأخير فى حياة فاروق فى مصر التى لم يحسن قيادتها.
وفى السادسة مساء - مع لحظات الغروب غروب الشمس وغروب عصر الملوك - تحركت المحروسة واعطيت الأوامر إلى جميع قطع الأسطول برفع اعلام الوداع، وعندما مرت المحروسة على طابية المكس اطلقت 21 طلقة.. وكانت هذه آخر تحية لفاروق كملك
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف