فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 46 )
كيف كان فاروق وسط أحداث يوم 23 يوليو 1952؟ وكيف تعامل مع إجراءات عزله عن عرش مصر؟ معظم الكتابات تدور حول الأحداث فى ذلك اليوم من الجانب الفائز.. جانب الثورة والضباط الأحرار.. أما تسجيل الأحداث من الجانب الآخر - جانب الملك فاروق ورجاله وخدامه وزعماء الأحزاب الذين كانوا يملأون الساحة - فلم يكتب عنهم غير قلة قليلة جدا أبرزهم مرتضى المراغى آخر وزراء الداخلية فى عهد فاروق والدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذة التاريخ المتخصصة فى دراسة عصر فاروق التى قضت سنوات طويلة وبذلت جهدا خارقا لجمع المعلومات الموثقة والدقيقة عن فاروق وحياته وسياساته من البداية إلى النهاية. يروى مرتضى المراغى أن حكمدار العاصمة - اللواء أحمد طلعت - اتصل به فى العاشرة صباح يوم 22 يوليو 1952 - وذكر له أن سيدة اتصلت به وقالت له وهى تبكى إن ضابطا من زملاء ابنها جاء فى عربة نقل من عربات الجيش ونزل ابنها معه وهو أيضاً ضابط وأخذ معه المسدس (الميرى) وحين سألته: إلى أين تذهب وأنت فى إجازة؟ قال لها: ادعى لى يا أمى. وطلب وزير الداخلية من حكمدار العاصمة أن يتحقق من أن الضباط يتوجهون إلى ثكناتهم. وفى الساعة الثانية بعد الظهر أبلغ الحكمدار الوزير بأن البوليس لم يشاهد أية تجمعات للضباط أمام الثكنات. وفكر الوزير فى احتمال قيام الضباط الأحرار بحركتهم وكانت المعلومات لديه تشير إلى أنهم سيقومون بها فى سبتمبر أو أكتوبر - وليس فى يوليو - وحاول وزير الداخلية الاتصال بوزير الحربية - إسماعيل شيرين زوج أخت الملك - فلم يجده فى أى مكان، فاتصل برئيس الأركان وأبلغه بما ذكره الحكمدار فأكد له رئيس الأركان أن كل شىء هادئ، وربما يكون الضباط ذاهبين لمشاهدة مباراة لكرة القدم. وتساءل الوزير: وهل يذهبون إلى مباريات الكرة بأسلحة؟ فقال له رئيس الأركان: الذى أعرفه أن كل شىء هادئ ووزير الحربية فى رحلة لصيد السمك على ظهر يخت يملكه.. وفى المساء حاول وزير الداخلية الاتصال بالملك فقال له أمينه الخاص: إن جلالته يعوم فى البحر.. وبالليل اتصل به أحد الأمناء وسأله عما يريد إبلاغه للملك، وعاد ليبلغه بأن الملك يقول له أن يبلغ وزير الحربية أو القائد العام للجيش حيدر باشا. *** كان الجميع مطمئنين إلى أن الهدوء يسود البلد والجيش والثكنات.. ويتمتعون بقضاء أيام الصيف فى الإسكندرية، والحكومة كلها فى المصيف كما هى العادة لمدة ثلاثة شهور، وكان وزير الداخلية قد اتصل قبل ذلك برئيس الوزراء - نجيب الهلالى - فقال له: أنا قرفان واللى يحصل يحصل! وفى العاشرة مساء اتصل وزير الداخلية باللواء محمد نجيب - قائد سلاح المشاة - فقال له اللواء نجيب: أقسم بالله العظيم أنى لا أعرف شيئا.. ولكن فى العاشرة والنصف مساء اتصل مأمور ميناء الإسكندرية بوزير الداخلية وأبلغه بأنه صدر أمر إلى أفراد اليخت الملكى «المحروسة» بالاستعداد للإبحار فى فجر الغد - 23 يوليو- وأنه يجرى البحث عن الضباط والبحارة الذين فى إجازة للعودة قبل منتصف الليل.. فى الحادية عشرة مساء اتصل الفريق حيدر - القائد العام للجيش - باللواء حسين فريد رئيس الأركان وطلب منه التوجه إلى مكتبه فى قيادة الجيش بالعباسية، لأن معلومات وزارة الداخلية تفيد بأن هناك مظاهر للتذمر فى بعض فرق الجيش.. ولا داعى إطلاقا لإعلان حالة الطوارئ فى الجيش.. ولا داعى لاستدعاء اللواءات قادة الفرق.. ويكفى استدعاء قائد المدفعية ليكون فى مكتبه. فى الساعة الثانية عشرة ذهب ضابطان إلى قائد المدفعية فى مكتبه وقالا له: حيدر باشا يطلب سعادتك على التليفون.. وتليفون سعادتك عطلان، فتفضل إلى غرفة النوبتجى.. وفى غرفة التليفون أقفل أحد الضباط الباب عليه بالمفتاح وأخرج الآخر مسدسا وقال له: سعادتك ستبقى محبوسا وأرجو ألا تقوم بأى حركة.. ولم يدرك قائد المدفعية الموقف فقال للضابطين: إيه ده ياولاد.. دى دعابة سخيفة! هكذا.. الكل فى غيبوبة! ثم بدأ التحرك.. تحركت كتيبة مشاة أفرادها 600 جندى بقيادة «البكباشى» يوسف صديق، وقامت بالقبض على رئيس الأركان. واتصل حكمدار العاصمة بوزير الداخلية وأبلغه بهذا النبأ، فاتصل وزير الداخلية بإسماعيل شيرين وزير الحربية فوجده نائما، فقام يتثاءب وقال له: خير إن شاء الله.. وسمع الخبر من وزير الداخلية وكان رد فعله.. اتصل بحيدر.. أنا نعسان وتعبان!.. وعاد حكمدار العاصمة يبلغ وزير الداخلية بأن الضباط يتوجهون إلى الإذاعة.. ويسأل: ماذا أفعل وقد اتصل بى قومندان بوليس السراى الملكى وقال لى إن جلالة الملك يقول لك لا تحاول المقاومة.. وعاد إسماعيل شيرين - وزير الحربية - للاتصال بوزير الداخلية وسأله عن التطورات لأنه حاول الاتصال مرارا بقائد الجيش - حيدر باشا - فقيل له إنه نائم ولا يريد أن يوقظه أحد.. فأجابه وزير الداخلية: ماذا تريد أن تعلم؟ الجيش استولى على مقر القيادة، وعلى الإذاعة، والملك يحزم حقائبه، وأصدر أمرا لليخت «المحروسة» بالإبحار صباحا، فقال له وزير الحربية - زوج أخت فاروق الأميرة فوزية - عملها ابن الحرام وسيتركنا للعذاب. كان رئيس الوزراء نائما فأيقظه وزير الداخلية ليقترح دعوة مجلس الوزراء للانعقاد فقال له رئيس الوزراء: «يجتمعوا فى بيتى لأنى بالبيجامة والطاقية على رأسى (وضحك) ولا أستطيع الخروج»، وانعقد مجلس الوزراء فى منزل الهلالى ورأسه وهو بالبيجامة والطاقية والشبشب، وبدأ الاجتماع بقوله: أنا قرفان.. مايروح فاروق فى داهية. *** كان مصطفى أمين فى الإسكندرية يتابع الأحداث مع وزير الداخلية، وكان محمد حسنين هيكل يتابع الأحداث مع قادة الثورة فى مقر قيادة الجيش.. وهذه قصة أخرى.. وقدم الهلالى استقالة حكومته وكلف فاروق على ماهر بتشكيل الوزارة تنفيذا لطلب قادة الثورة. فى ليلة 23 يوليو كان فاروق قد أقام حفلا ساهرا بقصر المنتزه احتفالا بتولى زوج أخته - إسماعيل شيرين - وزارة الحربية والبحرية، وبينما هو يتسامر مع ضيوفه وصوت الموسيقى يبعث فى المكان الرومانسية دخل الشماشرجى محمد حسن ليبلغه بما حدث فى القاهرة فأمره بإبلاغ القائد العام ورئيس الأركان.. وظل فاروق تحت تأثير الوهم الذى نشره القائد العام بأن كل شىء تمام وأن الجيش كله رهن إشارة القائد الأعلى!! تذكر الدكتورة لطيفة أن فاروق علم بعد ذلك أن الضباط سيذيعون بيانا مع افتتاح الإذاعة صباحا.. فأمر كريم ثابت بمنع إذاعته وتفكيك المحطة، وفعلا تمت محاولة لتعطيل الإرسال فى أبو زعبل، ولكن الضباط الأحرار أحبطوا المحاولة.. وفكر فاروق فى استخدام السلاح الجوى للقضاء على التمرد، ولم يجد من ينفذ له هذه الخطة، وطلب رئيس الوزراء من الضباط الأحرار تأجيل إذاعة البيان فلم يستجيبوا، وأذاعه أنور السادات فى السابعة والنصف صباحا باسم محمد نجيب الذى أعلن أنه أصبح قائدا عاما للقوات المسلحة، وأشار البيان إلى انتشار الرشوة، والفساد، وعدم استقرار الحكم، وهزيمة فلسطين، والخيانة، وطالب المواطنين بالهدوء وطمأنة الأجانب على أرواحهم ومصالحهم. *** طلب فاروق السفير الأمريكى، ولكن السفير كان ينفذ سياسة بلاده التى اتفقت فيها مع بريطانيا بأنه لا أمل فى استمراره على العرش، وأبلغ السفير الملك فاروق بأنه سيتدخل فقط لضمان سلامته هو وأسرته.. وأن بلاده تعتبر ما حدث مسألة داخلية بحتة.. وانعقد مجلس الوزراء البريطانى فى يوم 23 يوليو وقرر عدم القيام بأى عمل يثير الجيش المصرى، وعدم التدخل إلا فى حالة وجود مخاطر على أرواح البريطانيين ومصالحهم.. وأبلغ قائد القوات البريطانية فى القنال - ضباط الثورة - بأن القوات البريطانية لن تتدخل (لإنقاذ فاروق من الوحل الذى وضع نفسه فيه) على حد تعبيره. وذهب على ماهر - بعد أن أصبح رئيسا للوزراء - إلى الملك بمطالب الثوار وهى: تعيين محمد نجيب قائدا عاما للقوات المسلحة وإعطائه السلطة لإحالة 56 من كبار الضباط إلى المعاش، وحل الحرس الملكى، وفصل الحاشية الفاسدة (بوللى، ومحمد حسن، ومحمد حلمى حسين، ويوسف رشاد، وكريم ثابت، وألياس اندرواس، وحسن عاكف ياور الطيران الملكى) فاستجاب فاروق لهذه الطلبات، ولكنه رفض فصل رجاله الذين أفسدوه وأفسدوا البلاد.. ورضخ فى النهاية. وفى فجر يوم 25 يوليو غادر فاروق قصر المنتزه إلى قصر «رأس التين» ليكون قريبا من اليخت «المحروسة» ويسهل عليه الفرار، وقاد السيارة بنفسه وبجواره ياوره الجوى حسن عاكف، وفى المقعد الخلفى جلست ناريمان ومعها ولى العهد الطفل أحمد فؤاد ومربيتاه، وفى سيارة أخرى تبعته بناته والمربية. وفور وصوله إلى قصر «رأس التين» اتصل بالسفير الأمريكى - جيفرسون كافرى - وطلب منه طائرة حربية أو سفينة حربية لضمان نقله وأسرته إلى خارج مصر، وقبل أن يصله الرد ارتدى ملابسه البحرية واستعد للرحيل، وجاءه الرد من السفير الأمريكى بالتزام الهدوء وطمأنه مرة أخرى على حياته وحياة أسرته. وأحكمت قوات الجيش سيطرتها على الإسكندرية بقيادة الضباط الأحرار.. وخرج الملايين من المصريين فى الشوارع فى القاهرة والإسكندرية وبقية المدن يهتفون ترحيبا بحركة الجيش.. ويلعنون فاروق ويصفونه بأقذع الألفاظ.. ووصل إلى الإسكندرية محمد نجيب مساء 25 يوليو ومعه 6 من الضباط منهم أنور السادات وتقرر تقديم إنذار إلى الملك فى الصباح بالتنازل عن العرش، وصمم جمال سالم على محاكمة فاروق وإعدامه، وأيده فى ذلك زكريا محيى الدين وعبد المنعم أمين، خاصة بعد أن تأكد قادة الثورة من أن فاروق أمر أفرادا من البوليس السياسى بترتيب قتل بعض البريطانيين المشهورين لإرغام القوات البريطانية على التدخل ضد هذه الحركة. وعارض فكرة المحاكمة والإعدام كل من محمد نجيب والسادات ويوسف صديق وحسين الشافعى ورفضوا استخدام العنف ضد فاروق، فاستقر الرأى على أن يسافر جمال سالم إلى القاهرة لمعرفة رأى باقى أعضاء مجلس الثورة. وعاد جمال سالم ومعه رسالة من عبد الناصر تقول: ليذهب فاروق إلى المنفى، ويترك الحكم عليه للتاريخ. وذهب فاروق إلى المنفى.. وحكم عليه التاريخ.