فارس الصحافة المصريه
كان أحمد بهاء الدين بحق فارس الصحافة المصرية.. كانت أفكاره ومواقفه واضحة، ولم يلجأ إلى المراوغة أو المناورة.. كان منحازا إلى اليسار ، ولكنه لم ينضم إلى أى حزب يسارى.. اليسار عنده كان يعنى الدفاع عن المصالح الوطنية ضد محاولات الهيمنة الأجنبية، ولذلك كان يعارض التدخل السوفيتى والاستعمار الأمريكى الجديد تحت ستار المساعدات الاقتصادية.. اليسار عنده يعنى العدل الاجتماعى ووضع حدود لسيطرة رأس المال على المجتمع وعلى الحياة السياسية، ورفض فكرة أن الشعب المصرى غير مؤهل لممارسة الديمقراطية، أما موقفه من القضايا العربية فكان من القوة بحيث أثار حوله خصومات كثيرة.. كان يؤمن بالقومية العربية إيمانا يصل إلى درجة اليقين، ولذلك انفعل مع وحدة مصر وسوريا عام 1958، ثم أصابته صدمة عندما حدث الانفصال فى عام 1961، فأصيب بارتفاع ضغط الدم والسكر والكبد.
وكانت القضية الفلسطينية فى عقله وقلبه، فارتبط بها وبقادتها وجند قلمه للدفاع عنها وتنبيه العالم العربى إلى خطورة الانقسام بين الدول العربية وبين الفصائل والقيادات الفلسطينية مما يعطى الفرصة لإسرائيل لترسيخ وجودها لاغتصاب المزيد من الأراضى الفلسطينية.. وبعد هزيمة 5 يونيو 1967 أصيب بجلطة فى المخ وظل يعانى بعد شفائه منها من الاكتئاب الذى أصاب الكثير من المفكرين وقادة الرأى كان صلاح جاهين أبرز ضحاياه.. وعلاقته بالرئيس السادات تمثل فصلا كاملا فى حياته، فقد كان قريبا منه، وكان السادات يلتقى به ويستمع باحترام إلى آرائه، ولكنه وقع فريسة لوشاية بأنه كان فى أحداث 15 مايو مناصرا لمراكز القوى وبخاصة على صبرى فغضب عليه السادات، وترك لنا أحمد بهاء الدين كتاباً مهما حكى فيه بعض جوانب هذه العلاقة وهو بعنوان «محاوراتى مع السادات».. وبسبب أفكاره أيضاً تعرض لأزمة فى عهد الرئيس عبد الناصر، فقد طلب منه المشير عبد الحكيم عامر فى عام 1962رأيه فى النص على تخصيص 50% من المقاعد فى البرلمان والمجالس المنتخبة ومجالس إدارات الشركات فى الميثاق الوطنى الذى يعتزم الرئيس جمال عبد الناصر إعلانه، فأبدى رأيه بالاعتراض ولم يقتنع بمبررات هذه الخطوة.. وطبعا دفع ثمن هذا الرأى، وغضب عليه الرئيس عبد الناصر قبل ذلك حين وقعت هزيمة يونيو وكان بهاء نقيبا للصحفيين فجمع مجلس النقابة وأصدروا بيانا أرسلوه إلى الرئيس جمال عبد الناصر يتضمن الاحتجاج على فرض الرقابة على الصحف وتفضيل صحيفة بالأخبار المهمة، ثم أصدر بيانا آخر عقب اجتماع مجلس نقابة الصحفيين برياسته يطالب فيه بالإسراع فى محاسبة المسئولين عن الهزيمة على جميع المستويات، وإعادة تنظيم الحياة السياسية لإتاحة الممارسة الديمقراطية وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، واعتبر الرئيس عبد الناصر أن هذا البيان طعنة موجهة إليه.. وهكذا شاءت الأقدار أن تجعل أحمد بهاء الدين من أقرب الكُتاب إلى الرئيسين عبد الناصر والسادات، ثم ينزل به غضب الاثنين بسبب مواقفه وآرائه.
بدأت علاقة أحمد بهاء الدين بالرئيس السادات بعد الثورة عن طريق إحسان عبد القدوس الذى كان على علاقة بالسادات قبل الثورة، وكان السادات يزور أحيانا إحسان عبد القدوس فى مكتبه فى روزاليوسف، ويقضى معه الساعات، ومرت السنون وفى سنة 1957 اتصل السادات بأحمد بهاء الدين يخبره بأن عبد الناصر اختاره ضمن أعضاء لجنة قرر تكوينها برئاسة السادات للتضامن الآسيوى الأفريقى، وفى سنة 1959 اختاره عبد الناصر ضمن لجنة برئاسة السادات أيضاً للسفر إلى غانا لحضور أول مؤتمر أفريقى يحضره كل زعماء حركات التحرر فيها. وفى سنة 1960 اختاره عبد الناصر ضمن وفد يرأسه السادات لحضور مؤتمر فى غينيا بمناسبة استقلالها، وبعد ذلك عندما كان السادات رئيسا لمجلس الشعب كان يطلب منه الحضور فيذهب إليه ويشاركه فى مناقشة تستمر ساعات طويلة، وكان السادات وقتها قد انتقل من شقته فى المنيل إلى فيلا فى الهرم لها حديقة كبيرة وفيها جاموسة، ويقول دائما إنه يحب أن يشعر أنه فى قريته حتى وهو فى القاهرة.
ولكن العلاقة لم تستمر هكذا، بعد أن أصبح السادات رئيسا للجمهورية فقد كان أحمد بهاء الدين رئيسا لدار الهلال ومجلة المصور وفوجئ يوما باستدعائه للتحقيق أمام السيد ضياء الدين داوود عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى فى ذلك الوقت، وقدم له له خطابا بتوقيع الرئيس السادات بأنه علم أن أحمد بهاء أعطى السيدة سكينة السادات - أخت الرئيس - علاوة أربعين جنيها فى الشهر بدون مبرر، وأن الرئيس سمع أن بهاء فعل ذلك ليسئ إلى الرئيس ويؤلب عليه العاملين فى دار الهلال، وطبعا كانت دهشة بهاء أن الرئيس السادات لم يسأله مباشرة عن حقيقة الأمر، أو أن يعرف الحقيقة من السيدة سكينة السادات وهى أخته، وكانت الحقيقة أن السيدة سكينة حصلت على أدنى علاوة وهى خمسة جنيهات، وبعد أحداث 15 مايو ووضع الوزراء والقادة المتهمين بالانقلاب على الرئيس السادات فى السجن أصدر الرئيس السادات قرارا بنقل أحمد بهاء الدين من دار الهلال إلى دار روزاليوسف ضمن حركة تعيينات وتنقلات لرؤساء المؤسسات، ورفض بهاء تنفيذ القرار لأنه اعتبره عقابا له، وكتب إلى الرئيس السادات رسالة قال فيها:(إن من حقى أن يؤخذ رأيى فى أى أمر يتصل بى شخصيا فلا أقرأه فى الصحف دون سابق علم، ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلى مكان وبلا رغبة)، وفى يوم صدور القرار اتصل به الأستاذ محمد حسنين هيكل وعرض عليه أن يعمل ككاتب فى الأهرام، فأجابه بهاء: هذه المرة ليس أمامى إلا القبول، واستطاع هيكل أن يقنع الرئيس السادات بالموافقة على ذلك، ولكن كان على بهاء أن يواجه أزمة أخرى فى عام 1972 بعد أن أصدر مائة صحفى وكاتب بيانا أعده توفيق الحكيم ولم يوقع عليه بهاء لإصابته بالأنفلونزا، وجاء فى البيان (لقد كثر الحديث عن المعركة دون معركة حتى صارت المعركة مضغة فى حلوقنا لا نستطيع أن نبتلعها ولا نستطيع أن نلفظها)، وأراد أن يكتب مقالا محايدا بعنوان (بدلا من العنف المتبادل) تعليقا على قرارات نقل الصحفيين والكتاب الموقعّين على البيان من الصحف إلى مصلحة الاستعلامات، وكانت الرقابة مفروضة على الصحف، فعرض الرقيب المقال على وزير الإعلام - الدكتور عبد القادر حاتم - فعرضه بدوره على الرئيس السادات فأمر برفع المقال من الجريدة وبنقل أحمد بهاء الدين أيضاً إلى مصلحة الاستعلامات، ورفض بهاء الدين الذهاب إلى الاستعلامات واكتفى بأن يكون نقيبا للصحفيين المصريين ورئيسا لاتحاد الصحفيين العرب، وبعد ما يقرب من سنة أصدر الرئيس السادات قرارا بعودة هؤلاء الصحفيين إلى صحفهم وبينهم أحمد بهاء الدين، وبعد يومين قام الجيش المصرى بعبور قناة السويس وتحقيق النصر التاريخى، وكانت العروض قد انهالت على بهاء من صحف عربية، ولكنه فضل أن يبقى فى مصر فى هذه الظروف، ونشر كتابه الشهير عن بطولات القوات المسلحة المصرية من معركة الاستنزاف بما فى ذلك معركة «رأس العش»، ثم إغراق البارجة الإسرائيلية «إيلات» بعد أسابيع من هزيمة 67، ثم إعادة تسليح وبناء حائط الصواريخ، ثم قرار الهجوم والعبور.
ومرت بعد ذلك شهور إلى أن فوجئ بتليفون من رئاسة الجمهورية يبلغه بموعد مع الرئيس السادات فى استراحة «كينج مريوط»، وأبدى الرئيس السادات دهشته من أن يكون أول كتاب عن انتصارات أكتوبر من أحمد بهاء الدين وقال له «لأنك ضدى»، وكان رد بهاء:(ياريس إننى لا أريد العودة إلى تفاصيل ما حدث، ولكن اسمح لى وقد صارحتنى بهذا الشكل أن أقول إننى العاتب عليك، فسيادتك تعرف أننى حين أخالف رأيا لحاكم لا أفعل ذلك لطموح شخصى ولا لحساب أحد آخر، ولكن كما كنت تقول لى لمجرد أن «مخى كده»، وذكر أن الرئيس السادات فى أكثر من مرة أيام حكم عبد الناصر (الذى لم يقابله بهاء ولم يعرفه شخصيا) كانت التقارير تطلب إلى الرئيس عبد الناصر الأمر باعتقاله فيرفض عبد الناصر ويقول:(سيبوه.. هو مخه كده.. احنا راقبناه كثير من أول يوم للثورة، وتأكدنا أنه لا علاقة له بأحد).. وانتهت المقابلة بتناوله الغداء مع الرئيس السادات وحرمه فى جو ودى.
بعد خروج هيكل من الأهرام وتولى عبد القادر حاتم رئاسة مجلس الإدارة، وتعيين الأستاذ على أمين مديرا للتحرير عقب عودته من لندن التى قضى فيها تسع سنوات بدأ على أمين بعد فترة يتململ من وضع الدكتور حاتم ومن ذهاب المحررين إليه أو من تدخله فى بعض ما يكتبه على أمين وما ينشره إلى حد حذف مقالات لعلى أمين نفسه، وكان أحمد بهاء الدين يحاول أن يكون بعيدا عن هذه الخلافات وأن يقدم النصيحة لعلى أمين لأنه حاول يغير ترتيب الأهرام وصياغة صفحته الأولى وعناوينه الرئيسية إلى ما يجعل الأهرام نسخة من أخبار اليوم،وكان بهاء مضطرا للتدخل بين على أمين وبين أسرة تحرير الأهرام الغاضبين واستغاثات المرحوم على حمدى الجمال مدير تحرير الأهرام.. وأخيرا اجتمع أحمد بهاء الدين مع على أمين ومصطفى أمين وشرح وجهة نظره فى محاولات على أمين تغيير هوية الأهرام وكان رأى مصطفى أمين مطابقا لرأى بهاء، وقال: إننى أقول له أمامك - أى لعلى أمين - إنه لا يمكن لعاقل أن يقدم على تغيير شخصية جريدة عمرها مائة سنة فى سنة واحدة، هذه مغامرة صحفية مستحيلة، وانهى أحمد بهاء الدين الجلسة بقوله: الحمد لله أننى سمعت هذا منك وأنا أكرر أننى اعتبر أن مهمتى فى هذه القضية قد انتهت.
وفى يوم طلب الرئيس السادات أحمد بهاء الدين وقال له: كنت أعرف من البداية أن على أمين لا يصلح للأهرام وأن الأهرام لا يصلح له، ولكننى عندما قررت إخراج هيكل قررت عمل صدمة كهربائية لكل من فى الأهرام، لأن هيكل لم يكن رئيس تحرير جريدة ولكنه جعل من الأهرام حزبا، واخطبوطا له أجهزته وصار كل واحد فى الأهرام يظن أنه هيكل صغير يشارك فى حكم البلاد، ووجدت أن الصدمة الكهربائية التى تجعلهم يفيقون هى أن أرسل لهم على أمين بالذات.. عدو هيكل اللدود!.. وقد قررت أن يعود على أمين إلى جريدته ومدرسته فى أخبار اليوم وأن يكون مصطفى أمين رئيس مجلس إدارة كما كان من قبل، وقررت أن تتولى أنت رئاسة تحرير الأهرام.
يقول أحمد بهاء الدين: كان لهذا الكلام وقع الصاعقة علىّ..
وهذه قصة أخرى.. وفصل آخر فى تاريخ الصحافة المصرية.