فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 45 )
ويقولون إن عصر فاروق كان عصر الحريات. يصف المؤرخ الكبير الراحل الدكتور يونان لبيب رزق السنوات الست بين رحيل رجل القصر القوى أحمد حسنين الذى كان مسيطرا على فكر وتصرفات فاروق وأمه الملكة نازلى - خاصة بعد أن تزوجها - وبين رحيل فاروق يوم 26 يوليو 1952 بأنها كانت فترة «الملك المعيوب» وأيضاً «الملك اللعوب».. وأن هذه السنوات شهدت تحولات كبيرة وخطيرة فى شخصية فاروق حولته من ملك يحب شعبه والشعب يحبه إلى ملك يخشى شعبه ويتآمر عليه والشعب يكرهه ويبدى الكراهية علنا بمظاهرات وهتافات ومقالات تطالبه بالرحيل! ويفسر هذا التحول بأن فاروق تولى الملك وهو لا يزال صغيرا لم يتجاوز ثمانى عشرة سنة قمرية، وقد انخدع بالنفاق والمنافقين، ووقع تحت تأثير الإطراء الذى أحاطوا به، مما جعله يشعر بأنه على صواب دائماً، ودفعه ذلك إلى الصدام مع حزب الوفد - وهو الحزب الشعبى الأول - مما خلق جوا عدائيا نحوه من صحافة الوفد. وأدى الهجوم على الملك وتصرفاته السياسية والشخصية المعيبة إلى اقتياد كبار الصحفيين الوفديين إلى المحاكم بتهمة العيب فى الذات الملكية. كما أن عصر فاروق شهد ظاهرة لم يعرفها أسلافه، وهى ظاهرة (رجل السراى الخفى) وهو فى نفس الوقت (رجل القصر القوى)، وقد قام بهذا الدور على ماهر السياسى المحنك الذى تولى رياسة الديوان فى أعقاب تولى فاروق سلطاته الدستورية، وظل فى هذا المنصب إلى أن قام بتأليف وزارته الثانية فى أغسطس 1939. أما الرجل القوى الثانى فكان أحمد حسنين، وكان فاروق يستجيب لنصائح الرجلين دائماً ولا يستطيع الفكاك من تأثيرهما عليه، وبعد وفاة أحمد حسنين انطلق عقاله ولم يعد يعمل حسابا للرأى العام ولا للأحزاب ولا للزعماء السياسيين، وبذلك لم يعد النموذج المحبب للمصريين، وفقد مكانته لدى كافة الأطراف. *** وكان طبيعيا أن يتحول هجوم الصحافة على العرش من التلميح إلى التصريح، وأن يتم تقديم الكتاب والصحفيين إلى المحاكمة بتهمة العيب فى الذات الملكية. ويفسر الدكتور يونان ذلك فى كتابه الأخير (العيب فى ذات أفندينا - دار الشروق) بأن الظروف ساعدت على توجيه الهجوم على رمز الدولة، فقد خرجت مصر من الحرب فى حالة اقتصادية صعبة اشتدت معها معاناة الطبقة المتوسطة الصغيرة، وأدت هذه الظروف إلى انضمام الشباب للأحزاب العقائدية الجديدة مثل الإخوان، والأحزاب والمنظمات الشيوعية، وحزب مصر الاشتراكى بزعامة أحمد حسين، وأدى ذلك إلى ضعف دور الأحزاب الوطنية، ولم يكن هناك ما يمنع الأحزاب والجماعات الراديكالية الجديدة من الهجوم على الملك، بل إن بعضها لجأ إلى العنف فتم اغتيال رئيسين للوزارة (أحمد ماهر عام 1945 ومحمود فهمى النقراشى عام 1948)، ثم قام فاروق بالاشتراك هو أيضا فى حملة الاغتيالات بتكوين الحرس الحديدى، وكما يقول الدكتور يونان فإن صاحب الجلالة الملك فاروق لم يكتف بتقديم من يهاجمونه إلى المحاكم والسجون وإنما أصدر عليهم الحكم بالتصفية الجسدية وقام بتنفيذه!.. وتسببت الكوارث فى السنوات الأربع الأخيرة من حكم فاروق فى إشعال موجات الغضب والعنف والكراهية له ولحاشيته، ومن هذه الكوارث الهزيمة فى حرب فلسطين وفاروق هو الذى أصدر قرار الهجوم بنفسه دون علم رئيس الوزراء ثم ما ظهر بعدها فساد فى صفقات الأسلحة الفاسدة، ومن الكوارث أيضا فشل جميع الحكومات فى مفاوضات الجلاء وإنهاء الاحتلال العسكرى البريطانى، ثم كان حريق القاهرة هو أكبر الكوارث فى 26 يناير 1952 مما كان إيذانا بنهاية حكم فاروق، وأدت كل هذه العوامل إلى زيادة الهجمات على شخصه حتى أصبحت قضايا العيب فى الذات الملكية من الأخبار العادية. *** ويرصد الدكتور يونان موجتين من موجات العيب فى الذات الملكية فى عهد فاروق: الأولى كانت فى عام 1938، والثانية فى الفترة من 1945 حتى قيام الثورة عام 1952. كانت موجة الهجوم الأولى بسبب تحدى فاروق لإرادة الشعب الذى جاء بوزارة الوفد. وعلى صفحات جريدة (الوفد المصرى) وجريدة (الوفد) بدأت أول معركة قادت إلى أكبر قضية من قضايا العيب فى الذات الملكية فى تلك الفترة، فقد نشرت (الوفد المصرى) فى 19 مايو 1938 تحت عنوان (نظام تعس وعهد أسود) مقالا بقلم الدكتور رياض شمس، وكتب محمد شافعى البنا رئيس تحرير (المصرى) فى 9 يوليو 1938 مقالا بعنوان (خطيب مسجد الرفاعى). وهكذا تم القبض على الدكتور شمس ووجهت إليه ثلاث تهم: العيب فى الذات الملكية، وإهانة وسب رئيس الوزراء، وإهانة رئيس الديوان الملكى، ونشرت (المصرى) أن الدكتور رياض لقى أسوأ معاملة فى قسم البوليس حيث احتجز أربعة أيام على ذمة التحقيق. ووجهت إليه النيابة تهمة الإهانة والإخلال بالاحترام الواجب للملك وأنه فى مقال ثان طعن فى خطيب مسجد الرفاعى قال فيه (هذا الخطيب المأجور هو المصداق الحق لقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه يأتى على الناس زمان لا يقرّب فيه إلا الماجل.. وعند ذلك تكون دولة النساء ومشاورة الإماء، وإمارة الصبيان. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقالت المحكمة إن ما فى المقال عن أن العهد يظهر فيه خطيب الرفاعى هو عهد إمارة الصبيان ودولة النساء فيه تعريض شائن بطريق الغمز بمقام صاحب الجلالة الملك. وأصدرت محكمة الجنايات حكمها على رئيس تحرير (المصرى) فى 25 مارس 1939 بالحبس مع الشغل سنة وتعطيل جريدة المصرى لمدة شهر.. وأيدت محكمة النقض هذا الحكم. *** وفى موجة الهجوم الثانية على فاروق كتب محمد عبد القادر حمزة مقالا فى جريدة (البلاغ) المسائية مقالا يهاجم فيه تعيين عبد الفتاح باشا عمرو (صديق الملك فاروق) سفيراً لمصر فى لندن قال فيه: (إنه لا يصلح، وأن هذا ليس عيبه، ولكنه عيب من أرسله، وهذا الغير هو المسئول عن المشاكل التى تحيط بمركز مصر فى لندن)، وأحيل محمد عبد القادر حمزة إلى محكمة الجنايات فجاء فى حكمها عليه أنه قد أسند إلى جلالة الملك سوء الاختيار والمعاندة فى أمور الدولة وأن سياسته هى سياسة العناد بعقول دكتاتورية، وهذه عبارات من شأنها المساس بالذات الملكية، كما أن الكاتب سخر من محرر أخبار اليوم (مصطفى أمين) ووصفه بالدب.. وأصدرت المحكمة حكمها فى 17 ديسمبر 1945 بحبس عبد القادر حمزة صاحب (البلاغ) وإسماعيل عبد المولى رئيس التحرير بالحبس لمدة شهر وتعطيل الجريدة لمدة شهر. *** وفى كتابه الشامل (العيب فى الذات الملكية- هيئة الكتاب) يقول الدكتور سيد عشماوى إن قمة الإثارة وتوهج العيب فى الذات الملكية كان فى الفترة الأخيرة من حكومة النحاس الأخيرة، وجاءت أحداث طلاق الملكة فريدة وزواج فاروق الثانى بناريمان، ثم زواج الأميرة فتحية شقيقة فاروق برياض غالى الدبلوماسى القبطى فى أمريكا بتأييد الملكة الأم نازلى التى كانت مرتبطة به هى الأخرى، مما كان يمثل إغراء للصحافة على تناول أخبار العائلة المالكة فأمر فاروق بإصدار قانون لا يقصر التحريم على العيب فى ذات الملك وإنما يمتد التحريم على الإساءة إلى أى فرد من أفراد العائلة المالكة فصدر القانون الذى ينص على أن (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور وبغرامة لا تتجاوز مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر فى الصحف أو فى غيرها من المطبوعات دون إذن مكتوب من وزير الداخلية أخبارا، أو رسوما، أو صورا، أو رموزا عن الشئون الخاصة للأسرة المالكة أو لأحد أعضائها). قانون لحماية ملك فاسد، وعائلة مالكة أشد فسادا. ومع ذلك أصبح الهجوم على الملك عاما وشائعا على الألسنة وفى الصحافة، يقول الأستاذ أحمد بهاء الدين فى كتابه (فاروق ملكا) إن الصحف لجأت إلى حيل كثيرة خلال هذه الفترة لتتجنب الأرض المليئة بألغام القوانين، وأصبح لها قاموس جديد يعرفه القراء دون عناء، فكلمة (غير المسئولين) تعنى رجال الحاشية، و(قال كبير) معناها قال الملك، وهكذا نشرت روزاليوسف خبرا يقول (إن كبيرا يحاول أن يضع يده على وقف مساحته 20 ألف فدان) وكان هذا الكبير هو فاروق، واهتز القصر بنشر هذا الخبر واتصل مسئول كبير بالقصر بالمجلة يسأل من هو الكبير المقصود فادعت المجلة أنه كامل القاويش بصفته محافظا للقاهرة. ثم كتب إحسان عبد القدوس مقالا بعنوان (دولة الأغواتـ وكتب بعد ذلك سلسلة مقالات بعنوان (من المسئول عن حكم مصر) هاجم فيها تدخل الجهات والأشخاص ممن ليست لهم اختصاصات دستورية فى شئون الحكم، ومع المقال الثالث من هذه السلسلة قضى إحسان فى السجن 14 يوما بأمر النيابة العامة. وكتب فتحى رضوان فى (اللواء الجديد) مقالات تتعقب تصرفات فاروق وحاشيته بالنقد الشديد وكاد يدخل السجن بسبب مقال بعنوان (أحاديث الملوك) علق فيه على حديث أدلى به فاروق فى الخارج عن إدمانه للقمار، وكتب مصطفى مرعى مقالات بعنوان (فخر البحار) يندد فيها بالملك لأنه باع اليخت للحكومة وقبض ثمنه ثم أبقاه فى حيازته لاستعماله الخاص، وبعنوان (ولاء العبيد وولاء الأحرار) هاجم فيه مصطفى مرعى فاروق لأنه يريد أن يقبّل الناس يده وينحنوا أمامه. وكانت طريقة جريدة اللواء أن تنشر عن الملك بالرمز فنشرت سلسلة مقالات عن الملكية المنهارة أيام الثورة الفرنسية وبعناوين موحية مثل (الملك فى طريقه إلى المقصلة) و(من القصر إلى السجن) و(أيامه الأخيرة). وفى جريدة (الاشتراكية) شن أحمد حسين حملات على تفاتيش الملك وسوء معاملته للفلاحين، وسفه الدولة فى الإنفاق بينما يعانى الملايين من الجوع، وانتهت هذه المقالات بالحكم على أحمد حسين بالسجن سنة ونصفا بتهمة العيب فى الذات الملكية. ويذكر حسن يوسف وكيل الديوان الملكى فى مذكراته (أن الهوس وصل بفاروق إلى حد تفكيره فى تقديم ست عشرة من أبرز الشخصيات المصرية إلى المحاكمة بتهمة العيب فى الذات الملكية لأنهم قدموا عريضة قالوا فيها إن الملك يعتدى على الدستور وعلى المؤسسات الدستورية ويحمى الفساد وصفها وكيل الديوان بأنها مع ما فيها من صدق التصوير كانت لا تخلو من عنف التعبير) وكان من الموقعين على هذه العريضة إبراهيم عبد الهادى باشا رئيس حزب السعديين، ومحمد حسين هيكل باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين، ومكرم عبيد باشا رئيس حزب الكتلة، ومحمد حافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطنى، والمؤرخ المعروف عبد الرحمن الرافعى، وإبراهيم دسوقى أباظة باشا وغيرهم.. وجاء فى هذه المذكرة: (من المحزن أن ترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء هذه المساوئ التى لا تتفق مع كرامة البلاد، حتى أصبحت سمعة الحكم المصرى مضغة فى الأفواه، وأصبحت صحف العالم تصورنا فى صورة شعب مهين يسام الضيم فيسكت عليه.. إن احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد إلى حد)، هذا ما قاله الزعماء الذين كانوا يقبلون يد الملك قبل ذلك! ويقولون إنه كان عصر الديمقراطية والحرية والليبرالية