فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 44 )
ابتداء من عام 1950 كانت مقالات محمد التابعى فى آخر ساعة ومصطفى أمين فى أخبار اليوم تشن هجوما شديداً على الملك فاروق. كتب التابعى فى آخر ساعة عدد 11 فبراير 1950 تحت عنوان (يحيا الظلم) يقول: «نعم.. يحيا الظلم، ظلم كل جبار عاتية.. معتز بسلطانه وسطوته.. يدوس القوانين ولا يبالى.. وظلم كل كبير فاسق.. وكل عظيم فاجر.. يسرق ولا يبالى....» مع ملاحظة أن التابعى كان من أكثر المقربين إلى السراى وإلى الملك شخصيا! وفى مايو 1950 قبض على مصطفى أمين ووجهت إليه تهمة العيب فى الذات الملكية بعد نشر أنباء زواج الأميرة فتحية ورياض غالى بنوع من التعاطف معهما على عكس ما يريد الملك الغاضب عليهما. فأصدر رئيس المحكمة المستشار حافظ سابق قراره بالإفراج عنه بكفالة خمسين جنيها.. وبعد قيام الثورة كان لحافظ سابق الدور الأكبر فى صياغة القوانين وفى صياغة وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش. ويذكر الدكتور سيد عشماوى أن أخبار اليوم واصلت حملتها على فاروق بأسلوب جديد، بأن نشرت مذكرات «دوق وندسور» ملك بريطانيا وراحت تبرز حقوق الملك وضرورة خضوعه لإرادة الشعب، وذلك تحت عناوين مثل (كبير الأساقفة ينتقد سلوك الملك الشخصى) و(رئيس الوزراء يقول للملك: ليس أمامك إلا الرحيل) و(رئيس الوزراء يمنع الملك من الكلام). وكانت هذه المقالات تثير الملك وتثير الوزارة، لأنها تنتقد تدخل الملك فى الحكم وتكرر القاعدة الدستورية بأن «الملك يملك ولا يحكم». كما كانت تشير إلى زواج فاروق من ناريمان بالرموز تحت عنوان (الوزارة تهدد بالاستقالة إذا تزوج الملك).. وأحالت الحكومة هذه المقالات إلى النائب العام باعتبارها عيبا فى الذات الملكية، ولكن النائب العام لم يجد فيها ما يشكل جريمة فاستمرت أخبار اليوم فى النشر تحت العناوين الصارخة التى كان القراء يفهمون المقصود بها. وبعدها نشرت أخبار اليوم مذكرات الملك «ميشيل» ملك رومانيا السابق وكانت إحدى الحلقات بعنوان (احن رأسك للشعب يا صاحب الجلالة). ويضيف الدكتور سيد عشماوى أن على أمين دخل المعركة بالهجوم فى مقال بعنوان (الملك الذى يلعب القمار) فى آخر ساعة عدد 13 سبتمبر 1950. كما نشر مصطفى أمين كتابا بعنوان (عمالقة وأقزام) فى سلسلة كتاب اليوم وكانت عناوين الفصول تشير بالغمز واللمز إلى الملك فاروق مثل (الخطّاف) قال فيه:(يخطف كل شىء.. يخطف زوجة الرجل.. وبيت الرجل.. وبنطلون الرجل إذا بقى للرجل بنطلون.. ويخطف الغالى والرخيص ولا يفرق بينهما.. كل شىء لا يملكه يريده ويجد لذة فى أن يغتصبه لنفسه. وهناك مرض اسمه «جنون السرقة»، والمشفقون عليه يقولون إنه مريض، وأهل القرية يقولون إنه لص كبير، وهو يظن أن الناس لن يعرفوه لأن القرية مليئة باللصوص، ولكن الناس كلهم يعرفونه لأنهم جميعاً ضحاياه.. من هو؟!). *** ووجهت تهمة التحريض على قلب نظام الحكم، بالإضافة إلى تهمة العيب فى الذات الملكية إلى عدد من كتاب المقالات فى صحيفة (الاشتراكية) لسان حال حزب مصر الفتاة، ومنهم شخصيات كبيرة مثل أحمد حسين، وإبراهيم شكرى، وغيرهما وقدموا للتحقيق والمحاكمة وتمت مصادرة الصحيفة. وكان الملك فاروق يطالع مقالات أحمد حسين النارية، ويذكر رئيس الديوان الملكى حسن يوسف باشا فى مذكراته أن فاروق كان يأمره بأن يتصل بوزير الداخلية لكى يسارع بإخطار النائب العام ليأمر بالتحقيق مع أحمد حسين فيأمر النائب العام بحبسه، ثم تفرج عنه النيابة بكفالة، وكان هذا يتكرر بصورة منتظمة. وفى أقل من سنة واحدة اتهم أحمد حسين فى خمس قضايا من هذا النوع. ويصف أحمد حسين محاكمته فيقول إن المحكمة كانت تأمر بإخلاء القاعة من الجمهور ولا تسمح للمحامين بالاقتراب منه أو التحدث معه، ويقول إن ذلك كان شيئا لم يسبق له مثيل فى تاريخ القضاء المصرى. وفى كتاب أحمد حسين (فى ظلال المشنقة - مطابع جريدة المصرى) المزيد، ولكن جريدة مصر الفتاة ظلت تنشر مقالات مثل (مواطن يطلب تنحية كريم ثابت عن القصر) و(عرابى أول ممثل وقائد للشعب) و(تنازل الملك لولده عن عرشه آية من آيات الديمقراطية الحديثة التى لا تعرف خنق الشعوب بالحديد والنار) و(كيف يقرن اسم سامية جمال باسم الملك؟!) و(مصادرة الصحف الأجنبية فضيحة عالمية.. أوقفوا الفضائح التى تنشرها بدلا من مصادرتها) و(حيدر.. كريم ثابت.. بوللى.. النقيب.. وأمثالهم، يجب تطهير الحكم من هذه العصابة) و (جريدة الفيجارو تسأل: هل لعب القمار من الدين الإسلامى؟!) و(القمار.. القمار.. ونوادى القمار) و(كيف قضى لويس الخامس عشر على سمعة الملكية فى فرنسا). كل ذلك تجده فى كتاب الدكتور سيد عشماوى. *** وفى الكتاب أيضاً وقائع يكفى نصفها لإسكات المدافعين عن عصر فاروق. كانت صحيفة الاشتراكية ومقالات أحمد حسين تبشر بثورة على الأبواب، مقال بعنوان (ملهى الاسكارابية) إشارة إلى الملهى الذى كان فاروق يلهو فيه. ومقال حول خطبة الدكتور هاشم عن الدكتور هاشم خطيب ناريمان الذى خطفها منه الملك.. وأخيرا صدر قرار من مجلس الوزراء فى 28 يناير 1951 بإلغاء جريدة مصر الفتاة، فصدرت جريدة (الشعب الجديد) وفى عددها الأول فى 10 أبريل 1951 مقال لإبراهيم شكرى (لا نعترف بجرائم العيب فى الذات الملكية) وفى أعدادها التالية (من أحمد حسين إلى ناظر الخاصة) و(يجب أن يدفع الملك ضريبة الايراد ولا يكون للملك ملكية خاصة) و(155 جريدة عالمية تهاجم مصر) و(من المسئول عن تشويه سمعة مصر) و(كابرى ليست مكة المكرمة) وأحيل أحمد حسين إلى محكمة الجنايات بتهمة العيب فى الذات الملكية المصونة. وفى 26 يونيو 1951 أصدر مجلس الدولة حكمه بإلغاء قرار مجلس الوزراء الخاص بإلغاء جريدة مصر الفتاة فصدرت الجريدة واستمر أحمد حسين وزملاؤه فى مهاجمة الملك والحاشية، ومن ذلك مقال (إبراهيم شكرى يستجوب رئيس الحكومة عن حديث أدلى به الملك إلى صحفى انجليزى) و(الدعوى تقام على الملك.. هكذا قال رفاعة الطهطاوى منذ مائة عام) و(مصروفات ديوان جلالة الملك) و(سلطات الملك فى الدستور) و(مات رياض الصلح «مقتولا» فعسى أن يتعظ الحكام) و(نصف مليون جنيه لشراء سيارات وإجراء تعديلات فى القصور الملكية).. ومرة أخرى أصدرت النيابة أمراً بالقبض على أحمد حسين، لكن جريدة الشعب الجديد واصلت نشر مقالات بعنوان (إنما نعبد إلها واحدا) و(كيف شنق الشعب الانجليزى شارل الأول ملك انجلترا؟!) وكتب إبراهيم شكرى مقالا وجه فيه الحديث لأحمد حسين وهو فى السجن قائلاً: (إن الحبس عندنا يساوى التنقل فى أفخر يخت على مغانى الدنيا كلها). وبسبب هذا المقال وجهت إلى إبراهيم شكرى تهمة العيب فى الذات الملكية ورفعت عنه الحصانة - وهو عضو مجلس النواب - وتم سجنه احتياطيا وافرج عنه القاضى ممتاز نصار، لكن تم القبض عليه مرة أخرى بعد حريق 26 يناير بنفس التهمة.. وكتب أحمد حسين مقالات: (الثورة.. الثورة.. الثورة) و(رعاياك يامولانا) و(وزراء أم لصوص وحكومة أم عصابة؟) فى 23 سبتمبر 1951.. وحوكم بسبب نشره صورة متسولين وتحتها (رعاياك يا مولاى) وبعدها (أيها المواطن.. أنت معرض لهذا المصير فى ظل الرأسمالية) وطبع من هذا العدد 70 الف نسخة نفذت كلها، وهو رقم قياسى ليست له سابقة فى ذلك الزمان، وتم سجن احمد حسين وصودرت الجريدة وافرج عنه القضاء. وفى 17 مارس 1952 حكمت محكمة جنايات مصر على أحمد حسين بالحبس 6 شهور وتعطيل جريدة مصر الفتاة لمدة ثلاثة شهور، وفى نفس اليوم أصدرت المحكمة ذاتها حكما آخر بحبس أحمد حسين 6 شهور وتعطيل جريدة الشعب الجديد ثلاثة شهور، بل أصدرت المحكمة ذاتها حكما ثالثا على أحمد حسين بالحــبس 6 شهور عن مقال (من أحمد حسين إلى فؤاد سراج الدين). وهكذا اعتبرت المحكمة كل مقال جريمة مستقلة عن بقية المقالات. *** يذكر سلامة موسى فى كتابه (الصحافة حرفة ورسالة) أنه تم ترحيله من بورسعيد إلى القاهرة تحت حراسة البوليس لكى تحقق معه النيابة بشأن جملة وردت فى مقال له فى جريدة الشعلة قال فيها (الأوبرج.. وما ادراك ما الأوبرج).. وهكذا كانت النيابة تحقق مع كل من يكتب كلمة تمس الملك فاروق.. ومن هؤلاء فتحى الرملى، الدكتور عزيز فهمى صاحب لقب شاعر الحرية والشباب، وشمس الدين خفاجى رئيس تحرير مجلة «أخبار الشهر بالفيوم» ومصطفى الأبيجيجى سكرتير المجلة. ولعب الشعر والفن دورهما فى محاربة فاروق فى سنواته الأخيرة.. على سبيل المثال كتب الشاعر الكبير أحمد زكى أبو شادى: يمرغ الأمة فى رجسـه ويسـرق الأمــة فــى رنـده منتفخا يمرغ مستغـرقا فى اللهو كالصائد فى صيـده وكتب الشاعر حسين الجدوك: ســـأنـام حتــى لا أرى وطنــــــى يبــاع ويشتــرى ولمــن يبــاع ويشتـــرى لانجلتـــــرا.. لانجلتـــــرا سأنام حينا يـا رفـــاق كـــى لا أرى شـعبا يســـاق لعناق قاتله العـــزيـز وشـــرب نخــب الاتفــــاق جزاركم يلهــــو بكم وبكفــــه دمكـــم مـــــراق إننى أهدى كتاب الدكتور سيد الجندى بما فيه من حقائق ووثائق إلى كل من يستغل جهل الشباب بهذا العصر.. ولو كان الأمر بيدى لقررت تدريسه فى المدارس لحماية الذاكرة الوطنية من التلوث والاعتداء.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف