فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 43 )
فى الفترة بين عام 1947 وعام 1952 اشتعلت البلاد بمظاهرات واضرابات لعب فيها اليسار المصرى دورا بارزا، ويذكر الدكتور سيد عشماوى فى كتاب (العيب فى الذات الملكية) أن حركة حدتو الشيوعية وزعت منشورا فى فبراير 1947 بعنوان (11 فبراير عيد الملك.. عيد الخيانة) جاء فى ختامه (فلنمرغ التيجان فى التراب.. ليحيا نضال الشعب لإسقاط الاستعمار ودكتاتورية السراى).
وفى يناير 1948 سارت مظاهرات من جامعة القاهرة مزق فيها الطلبة صور الملك فاروق وهتفوا ضده كما اشتركوا فى اضراب رجال الشرطة. وسار طلبة جامعة القاهرة كما سار طلبة جامعة الإسكندرية فى لمظاهرات فى القاهرة والإسكندرية يهتفون (نريد الخبز والعمل).
ويتحدث اللواء حسن طلعت فى كتابه (فى خدمة الأمن السياسى مايو 1939-مايو 1971) عند اضراب الشرطة وكيف خرج المواطنون فى مظاهرات تهتف (أين الكساء والغذاء يا ملك النساء) وهكذا تدهورت هيبة الملك مبكرا، قبل الثورة بعشر سنوات، وظل الغليان الشعبى يتصاعد ويذكر الكاتب الكبير الراحل محمد زكى عبد القادر هذه الفترة فى كتابه (اقدام على الطريق دار الكاتب العربى) فيقول: قال لى ذات مرة على الشمس باشا وكانت أمور الوطن قد ساءت سوءا شديدا فى سنة 1948- إننى أنظر إلى المستقبل بعين متشائمة إلى البلاد.. وأضاف إن الطبقة التى انتمى إليها تضطرم بالسخط.. الطبقة التى أنتمى إليها تتدهور دون أن يحس (الملك) بأنها تتدهور.. إنهم مترهلون، واستطرد الشمس باشا قائلاً: إن الملك قال لى: أنا عارف إنه مش حيفضل ملوك غير ملك انجلترا وملك الكوتشينة)!.
***
سقطت هيبة الملك، وسقطت هيبة الزعماء السياسيين أيضاً، أطلق الناس على النقراشى باشا لقب (أبو خطوة) وعلى صدقى باشا (جزار الشعب) وعلى إبراهيم عبد الهادى باشا (عبد الهادى كلب الوادى)، وبعد هزيمة 1948 سجلت تقارير السفارة البريطانية انخفاض شعبية الملك واستياء الضباط الذين حاربوا فى فلسطين وآثار ذلك على الوضع الداخلى وتدهور حالة الأمن العام فى مصر، وسخط الشعب على الملك الذى يضيع وقته فى اللهو ولعب القمار، وتزايد الكراهية للحاشية والمستشارين المحيطين به، وفى الفترة بين 1948 و 1949 تزايد العنف والاغتيال السياسى فى ظل الأحكام العرفية، ونتيجة لكل ذلك اهتزت الثقة فى شرعية الملك ونظام حكمه، يقول الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته إن الدكتاتورية ظهرت فى حكم فاروق (مبرقعة حينا وسافرة أحياناً) ويضيف: (إن الدكتاتورية فى عهده اسفرت عن وجهها المستبد الذى يقمع باسم القانون أو باسم النظام وراح النظام الملكى يكيل تهم الشيوعية والعمل على قلب نظام الحكم والعيب فى الذات الملكية، وفى عام 1950 صدر قانون يعاقب بالحبس كل من ينشر أخباراً أو صوراً أو رموزا عن الأسرة المالكة بدون إذن مكتوب من وزير الداخلية، وكتب مصطفى أمين تعليقا على ذلك القانون قال فيه: (كلما زاد عدد القوانين فى دولة تضاءلت طاعة الشعب لحاكميه، فهذه القوانين الاستثنائية التى توضع اليوم لن تزيد الحكام قوة على قوة، بل ستزيدهم ضعفا على ضعف.. وهذه القيود الجديدة يجب أن يُقيد بها الحكام لا المحكومين، فنحن فى حاجة إلى تقييد حرية حكامنا حتى لا يعبثوا بهذه الحرية).
وأمام تزايد أعداد الصحف التى تواجه النقد إلى فاروق وحكوماته الهزيلة كانت بعض المقالات تعتبرها عدوا للشعب وخادما للملك، ومع زيادة هذه الصحف كانت تتم مصادرة وتعطيل الصحف وتصدر أحكام القضاء بالافراج عنها، ولذلك حاول فاروق أن يهدم مجلس الدولة لأن أحكامه كانت مع حرية الرأى وإلغاء كثير من القرارات والتصرفات الحكومية غير القانونية ضد الصحف المعارضة وضد التنكيل بالصحافة والصحفيين وبعد ذلك تقرر نظر قضايا النشر على وجه السرعة ولم يعبأ أحد باعتراضات نقابة الصحفيين بقرارات حبس واعتقال الكتاب والصحفيين.
***
هل كان كل ذلك يتم دون علم فاروق؟.
يذكر الدكتور سيد عشماوى أن الملك فاروق كان يعرف كل شئ عما يجرى من أعمال القمع والاعتداء على المعارضين والاسراف فى قرارات الحبس الاحتياطى والاعتقالات تحت قانون الطوارئ (الاحكام العرفية) وهو القانون الذى يسمح بتعطيل الدستور والقوانين العادية، ويسمح بالاعتقال بقرارات إدارية. وكان قائد بوليس السراى الأميرالاى أحمد كامل يكتب إلى الملك تقارير يومية بكل ما يحدث وما يقال فى البلد، وكان فاروق يلجأ أحياناً إلى الحرس الحديدى للتخلص من أعدائه ولو بالقتل، وأغرب من كل ذلك أن فاروق كان يعلم أنه ارتكب جرائم تدخل تحت طائلة القانون، ويذكر عبد الفتاح باشا حسن –الوزير فى وزارات الوفد- أن فاروق قبل وصوله من رحلته إلى أوروبا فى عام 1950 والتى نشرت الصحف العالمية كثيرا عن فضائحه فيها مما أساء إلى سمعة مصر،أرسل يستفسر عما إذا كان من الجائز أن تتخذ النيابة العامة ضده شخصيا اجراء عند وصوله إلى ميناء الإسكندرية، ولم يطمئن إلا بعد أن تلقى الرد رسميا بأن ذلك غير جائز دستوريا لأن الملك يتمتع بحصانة لشخصه ولا تمتد هذه الحصانة إلى أحد غيره من أفراد الحاشية والمرافقين له.. ويذكر إبراهيم فرج باشا الوزير الشهير فى فى حكومات الوفد أن أعضاء الوزارة كانوا يتناولون الغداء مع الملك فاروق فى قصر المنتزه بالإسكندرية، وأبلغهم فاروق أنه أمر بتغيير اسم (السلام الملكى) إلى (السلام الوطنى) لكى يضمن له الاستمرار بعده وأضاف: (من يدرى. ربما أكون آخر ملك).
وكان فاروق صادقا فيما قاله لأنه كان يعلم أن الناس تردد قصائد بيرم التونسى التى يقول فيها:
فاروق فارقنا بلا نيلة
دى مصر مش عايزة لها رذيلة
***
وكانت هتافات المظاهرات قد وصلت إلى أقبح الألفاظ وأخفها: (إلى أنقرة يا ابن المرة) و (يسقط ملك مصر والسودان وسامية جمال) وازداد السخط بعد شيوع الأخبار عن تصرفات الملكة نازلى فى أمريكا واصرارها على اتمام زواج ابنتها فائقة من فؤاد صادق، وزواج ابنتها الأخرى الأميرة فتحية من رياض غالى الموظف المسيحى بالخارجية، ثم أمر فاروق بالغاء الألقاب الملكية عن أمه وشقيقته والتحفظ على املاكهن، وأصبحت أم الملك هدفا للطعن والسخرية والنكت (القبيحة)، ويذكر استاذ الصحافة الراحل الدكتور إبراهيم عبده فى كتابه (الوسواس الخناس-دار الشروق) عن الهتافات ضد الملك وأسرته التى تضمنت عبارات عن الطهارة والدعارة يعف القلم عن ذكرها، كما يذكر الكاتب الكبير الراحل صبرى أبو المجد أن هتافات الطلبة كانت تردد:
ملك البلاد يا زين
يا فاروق يا نور العين
أمك اتجوزت اثنين
على ماهر وأحمد حسنين
ويذكر المفكر الاسلامى الكبير خالد محمد خالد فى مذكراته (قصتى مع الحياة- دار أخبار اليوم) أن مظاهرات الطلبة كانت تردد هتافات (يسقط ابن الزانية) و(من لا يحكم أمه لا يحكم أمة)،ويذكر المؤرخ الكبير طارق البشرى فى كتابه (الحركة السياسية فى مصر-هيئة الكتاب) أن المظاهرات كانت تهتف:
ويكا يا ويكا.. يا فاروق يا ويكا
هات أمك واختك من أمريكا
ويذكر الاستاذ أحمد بهاء الدين فى كتابه (فاروق ملكا - كتاب-روزاليوسف) أن مظاهرات تلاميذ وتلميذات المدارس سارت فى القاهرة والمحافظات تهتف (فريدة خرجت من بيت الدعارة إلى بيت الطهارة)، وبعد ولادة الملكة ناريمان لولى العهد أحمد فؤاد سارت المظاهرات تهتف (ناريمان ناريمان ابنك عندك سنان) وعندما عين فاروق حافظ عفيفى رئيسا للديوان الملكى مع ما هو معروف عنه من صلاته مع الإنجليز انفجرت المظاهرات.
ويسجل السفير البريطانى فى تقاريره إلى وزارة الخارجية البرطانية الهتافات التى كانت ترددها هذه المظاهرات ضد كل من الملك والانجليز وحافظ عفيفى دون أن يحسب المتظاهرون حسابا للعقوبات المقررة فى القانون عن السب فى الذات الملكية.
وقد سارت المظاهرات حتى ميدان قصر عابدين تهتف (لا استبداد بعد اليوم) و(يا فاروق يا نور العين.. أنت سرقت الكحل من العين).. وامتدت بعد ذلك المظاهرات إلى المحافظات والمدن تهتف (ليسقط نظام الاستبداد والخيانة) وخرج طلبة مدرسة السعيدية يهتفون بصراحة (يسقط فاروق).
وقد سجل كل ذلك محافظ القاهرة بالنيابة محمود البدينى فى تقاريره. ويذكر عبد الرحمن الرافعى أن الهتافات العدائية ضد فاروق كانت تسمع مدوية فى الجامعات والشوارع والميادين بصورة لم يسبق لها مثيل فى الحياة السياسية وكانت نذيرا بما سيؤول إليه مصير الملك والملكية.
وليس ذلك كل ماجرى فى عصر ملك غرق فى الفساد لم يراع كرامة العرش، ولم يعمل حسابا للشعب حين يغضب!.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف