فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 41 )
 لا يزال أعداء ثورة يوليو يحاربونها بكل سلاح، ومن ذلك الادعاء بأن دستور 1923 كان الضمان الأكبر لحرية الرأى وحرية الأحزاب وحرية الصحافة.. وهؤلاء يزوروا التاريخ.. ويكفى قراءة كتاب (الصراع بين الوفد والعرش-مكتبة مدبولى) للمؤرخ الكبير الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان لندرك كيف كان الملك فؤاد حاكما مستبدا، وكيف وضع فى عهده بذور الفساد السياسى التى بلغت نهاية نموها فى عهد فاروق، حيث حكمت أحزاب الأقلية، وأبعد حزب الأغلبية، وسيطر النفوذ البريطانى على شئون البلاد، ومارس الاحتلال صورا متعددة من الضغط بحشد الأساطيل والجنود أو باستبداد المعتمد البريطانى فى مصر السير مايلز لامبسون أو بوسائل التجسس والمخابرات.
وأنصح من يريد معرفة حقيقة حكم فاروق للبلاد -وحكم والده الملك فؤاد- أن يقرأ كتاب الدكتور سيد عشماوى (العيب فى الذات الملكية-هيئة الكتاب) وسوف يعرف أن مصر عاشت سنوات تحت الأحكام العرفية منذ سنة 1923 وكان أول قانون للأحكام العرفية برقم 15 لسنة 1923، ومنذ عام 1939 أعلنت الأحكام العرفية واستمرت حتى عام 1952 ولم تلغ إلا فى فترات محدودة جداً، وللكاتب الكبير محمد زكى عبد القادر كتاب مهم بعنوان (محنة الدستور) يصف فيه الدولة المصرية فى ظل حكم فاروق، بأنها كانت (دولة بوليسية لها برلمان).
فى ديسمبر 1937 أصدر فاروق مرسوما بإقالة حكومة الوفد التى تمثل الأغلبية الشعبية وكان هذا تأكيدا لسقوط الحكم الديمقراطى (مسمار آخر يدق فى نعش حكم فاروق) على حد قول الدكتور عبد العظيم رمضان بعد أن دق والده الملك فؤاد أول المسمار فى نعش الحكم بتلاعبه بالدستور، وتوالت القضايا فى المحاكم بتهمة (العيب فى الذات الملكية)، يذكر منها الدكتور سيد عشماوى:
محمد شافعى البنا رئيس تحرير جريدة الوفد (المصرى) نشر مقالات فى عام 1938 منها مقال بعنوان (نظام تعس وعهد أسود- رئيس الوزراء ورئيس الديوان وعدوانهما على الدستور) وتهجم فيه على مقام فاروق فذكر أنه زج بنفسه فى الخلافات السياسية، وانتقد إقالة وزارة الوفد وطالب أن تلتزم الشخصيات العامة حدودها الدستورية، فقدم إلى المحاكمة الجنائية وجاء فى أدلة الاتهام أنه طعن فى أمر الملك بإقالة حكومة الوفد وهذا يعتبر عيبا فى الذات الملكية التى أصدرت هذا الأمر، خاصة أنه وصف الإقالة بأنها من مفاسد هذا العهد وأن فى هذا القول إهانة تخل بالاحترام الواجب للملك.. كما أنه نشر مقالا آخر هاجم فيه خطيب مسجد الرفاعى لأنه مدح الملك، وجاء فى المقال: (هذا الخطيب المأجور.. وعند ذلك تكون دولة النساء ومشاورة الإماء، وإمارة الصبيان) وحكمت محكمة جنايات مصر فى 25 مارس 1939 بحبس رئيس التحرير مع الشغل لمدة سنة وتعطيل جريدة المصرى لمدة شهر ونشر الحكم فى جريدتى الأهرام والمقطم على نفقة المحكوم عليه)، وأيدت محكمة النقض الحكم وقالت (إن شخصية الملك مصونة وهو رمز الوطن المقدس).
وفى أواخر الثلاثينات كتب فكرى أباظة سلسلة مقالات تحت عنوانه الشهير (الضاحك الباكى) ومنها مقال بعنوان (الأمة مصدر السلطات تشكو من السلطات).
وفى عام 1939 أصدر أنور كامل بيانا باسم جماعة اسمها جماعة الفن والحرية وفيه مقارنة بين حال العمال والفلاحين وصغار الموظفين وحالة الملاك وأصحاب المشروعات وكبار الموظفين، وكان جزاؤه الفصل من وظيفته فى مصلحة المساحة وإحالته إلى النيابة وفى تحقيقات النيابة قال (نحن هاجمنا فى مجلة التطور الزينات التى أقيمت فى عيد ميلاد وجلوس الملك وكتبنا: هذه الزينات فى الوقت الذى يجوع فيه الشعب).
***
وفى مطلع الأربعينيات تبنى الملك فاروق مشروع مقاومة الحفاء بتوزيع (صندل) على المحتاجين من الحفاة.. وفى أوائل يناير 1942 اختفى الخبز فصار الناس فى أحياء القاهرة يهجمون على المخابز للحصول على الخبز ويخطفون الخبز ممن يحملونه فى الشوارع، وفى ذلك كتب الشاعر عبد الحميد الديب- الشهير باسم شاعر البؤس- يقول:
وهام بى الأسى والبؤس حتى
كأنى عبلة والبؤس عنتر
كأنى حائط كتبوا عليه
هنا أيها المزنوق طرطر
وفى قصيدة أخرى يصف فاروق وحاشيته وفيها:
برامكة وليس لهم رشيد
وأقيال وكلهم عبيد
مدحتهم فما شرفوا بشعرى
لخستهم.. ما شرف القصيد
وفى قصيدة أخرى يقول:
الحاكم اليوم ليث
وصاحب الليث مكرم
يا مستغاث صياع
أكلت شعبك فارحم
وعن مشروع الحفاء الذى تبناه فاروق يقول:
الشعب جوعان لم يشك الحفا أبدا
ولم يمد لكم رجلا لإنصاف
فقد يبيع الحذاء الفخم صاحبه
لينقذ النفس من جوع واتلاف
وقال فى قصيدة بمناسبة زفاف فاروق إلى الملكة فريدة:
أأ صوغ فى عرس المليك قصيدة
وأنا إلى الموت الرهيب زفافى
***
وفى يوم الجمعة 10 يونيو 1942 أحيل الشيخ حسن محمد النجار إلى محكمة الجنايات لإلقائه الخطبة بمسجد المغربى ببندر قنا ذكر فيه (أن جلالة الملك يجالس الفاسقين وشاربى الخمر) واندفع إلى نقد الحكم والحكام ومنهم الضابط، والمأمور، والملك وحكمت المحكمة على الشيخ بالحبس خمس سنوات مع وقف التنفيذ، ولكن محكمة النقض حكمت بنقض الحكم.
وفى 25 أكتوبر 1943 حكمت محكمة النقض بتأييد الحكم على جندى الشرطة إبراهيم عوض الشناوى الذى اتهمه أحد الضباط أنه قال كلمات بذيئة تتضمن العيب فى الذات الملكية.
وفى 17 ديسمبر 1945 حكمت محكمة جنايات مصر بالحبس لمدة شهر على كل من محمد عبد القادر حمزة صاحب البلاغ، وإسماعيل عبد المولى رئيس التحرير وتعطيل الجريدة لمدة شهر بتهمة العيب فى الذات الملكية فى سلسلة مقالات لنقد تعيين عبد الفتاح عمرو باشا سفيرا لمصر فى لندن وفى المقالات عبارة تنطوى على عيب للذات الملكية وهى (إن عبد الفتاح عمرو باشا لم يقصر فيما أرسل لأجله، ولكنه لا يصلح، وليس هذا عيبه، بل عيب من أرسله، وهو المسئول عن الإشكالات الدبلوماسية التى تحيط بمركز وزير خارجية مصر).
وقالت المحكمة إن المتهمين اسندا لجلالة الملك سوء الاختيار والمعاندة فى أمور الدولة وسياسة البلاد بعقول دكتاتورية، وهى عبارات من شأنها المساس بالذات الملكية.
وقالت محكمة النقض فى 12 مارس 1946 فى القضية رقم 239 لسنة 16 قضائية إن توجيه اللوم إلى الملك أو مجرد القاء اللوم عليه ولو كان ذلك مسوقا فى قالب من الإجلال والإكبار معاقب عليه، فالملك لا يكون محل مساءلة أبداً، واشتراك الملك فى الواقع فى عمل من أعمال الحكومة لا يؤثر فى حق نقدها بشرط ألا يزج باسم الملك.
أليست هذه هى الدكتاتورية .. إن الملك لا يحاسب عن أعماله وقراراته ولكن تحاسب الحكومة التى لم تفعل ذلك؟ وفى عام 1946 اتهم حسين دياب رئيس اتحاد خريجى الجامعة بإلقاء محاضرة تتضمن عيبا فى الذات الملكية، وفى يناير 1946 تم إنشاء رابطة للكفاح المشترك أصدرت منشورات على الآلة الكاتبة بعنوان (الملك يعبث بأموال الشعب)،واندلعت المظاهرات فى يومى 9و10 فبراير 1946 قاصدة قصر عابدين وامتدت المظاهرات إلى عدة مدن، وفى يوم 11 فبراير 1946 وبمناسبة عيد ميلاد فاروق سارت مظاهرة من شباب الجامعات يحملون صور فاروق ثم ألقوها عن الأرض. وداسوا عليها بالإقدام.
وقبل ذلك وفى 11 فبراير 1944 انطلقت المظاهرات تردد (أين الغذاء والكساء يا ملك النساء) وهتف المتظاهرون (يسقط الملك) وحطم الطلبة فى الجامعة الزينات التى أقيمت احتفالا بعيد ميلاد الملك وأشعلوا النار فى صورة فاروق وفى 12 فبراير 1946 تم توزيع منشور بعنوان (لتسقط الرجعية الإرهابية) وبمناسبة وضع حجر الأساس للمدينة الجامعية بالجيزة هتف الطلبة بسقوط الملك فاروق وهدموا جزءا من السرادق الذى أقيم بهذه المناسبة ومزقوا صور الملك كما سجل ذلك المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى وحسن يوسف باشا نائب رئيس الديوان الملكى فى مذكراته.. وفى يوم 21 فبراير 1946 اندلعت المظاهرات مرة أخرى، وسقط أحد المتظاهرين برصاص البوليس فحمل المتظاهرون جثمانه وأخذوا يطوفون به الشوارع ورفعوا أعلاما مخضبة بدماء القتلى والجرحى ورفعوا شعارات (تسقط سلطة الباشوات).
وهكذا يسجل لنا الدكتور سيد عشماوى فى كتابه الشامل كيف كان فاروق وكيف كانت مشاعر المصريين نحوه ونحو نظام حكمه..
ونستكمل بالوقائع الرد على مزورى التاريخ.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف