سـر طـه حسـين? ! ( 2 - 3) )

من كان يشاهد طه حسين فى وقاره وانشغاله بقضايا فكرية وفلسفية جادة، وقدرته العجيبة على إعداد عشرات الكتب وآلاف المقالات ومئات المحاضرات العامة ورحلاته إلى كثير من دول العالم، من كان يتابع هذا الرجل الجاد المتجهم لا يصدق أن وراء ذلك قلبا غاية فى الرقة يمتلئ بالحب النادر الذى نسمع عنه فى القصص والروايات.
قصة حب طه حسين لزوجته سوزان لم نعرفها على حقيقتها إلا بعد أن نشرت سوزان كتابها الرائع «معك» وكشفت فيه كثيرا من أسرارا هذا الحب كما عبر عنه فى رسائله إليها كلما بعدت عنه بضعة أيام أو أسابيع عندما تذهب فى زيارة لأهلها فى فرنسا ولا يتمكن من مرافقتها بحكم عمله، فكان يكتب لها رسالة كل يوم يعبر فيها عن عذابه وهى بعيدة عنه. لم تكن سوزان تفكر فى إعداد هذا الكتاب لولا أن البروفسير جاك بيرك، المستعرب، وأستاذ التاريخ الاجتماعى والحضارى للعالم العربى قام بعد رحيل طه حسين بتخصيص سنتين يدرس فيها لكليته فى الكوليج دى فرانس دور طه حسين فى تاريخ الثقافة المعاصرة، وكان قد ارتبط بعلاقة صداقة قوية معه ومع زوجته سوزان وابنه مؤنس الذى كان يعمل فى منظمة اليونسكو ويعيش فى باريس وكان جاك بيرك معجبا بالعلاقة الفريدة التى ربطت طه حسين بزوجته، فاقترح عليها أن تكتب تجربتها لتقدم طه حسين، كما لم يسبق أن عرفه الناس عنه ولا يمكن أن يقوم بذلك أحد غيرها، وقال لها إن عليها أن تقول ما تعرفه عن طه حسين الإنسان، والأب، والزوج، وحياته وعلاقته معها، ومعاركه وهمومه كاتبا، ومناضلا سياسيا، وصحفيا، وجامعيا، ووزيرا.. إلخ.. وبالفعل قامت سوزان طه حسين خريجة السوربون بإعداد هذا الكتاب بالفرنسية وترجمه إلى العربية الأديب السورى بدر الدين عمرو زكى وراجعه محمود أمين العالم، ونشرت فيه بعض رسائله إليها.
***
تقول سوزان إنها - مع طه حسين - تعرفت على لطفى السيد: عبد العزيز باشا فهمى وزيوار باشا والدكتور محمد كامل حسين والشيخ مصطفى عبد الرازق وعبد الخالق ثروت والشيخ على عبد الرازق والدكتور محمد عوض محمد وعشرات من كبار السياسيين والمفكرين وأساتذة الجامعات، وإنها انخرطت - معه - فى الحياة السياسية، وخرجت معه غاضبة مع الغاضبين عندما أدلى تشرشل بتصريح قال فيه إن مصر جزء من الامبراطورية البريطانية.
وتقول: عندما يتحدثون عن التعصب الإسلامى لا أملك نفسى من الابتسام، أو الغضب لأنى عرفت الإسلام وعرفت أنه يرفض التعصب ويحترم الأديان والأنبياء جميعا. وتقول تحملت مع طه حسين فترات صعبة خاصة عندما فصل من الجامعة وتحول خصومه إلى أعداء، بينما كان عبد العزيز فهمى باشا يقول له: أنت عالم مصر، وإن مصر مدينة لك، وأنت معلمى!
تعبر سوزان عن حبها له فى كل صفحة من صفحات الكتاب وتكتب عبارات بعد وفاته أقرب إلى الشعر عن الحنين إليه وعن صور وذكريات تلاحقها وكل لحظة لهما معا مطبوعة فى ذاكرتها حتى بعد أن تجاوزت الثمانين من عمرها.
وفى رسائله إليها نتعرف عن الجانب الخفى من شخصية طه حسين، فقد كانت له شخصيته وهو مع الناس كبارا أو صغارا، وشخصية أخرى معها شخصية جادة وقورة تعبر عن أفكارها بدقة وبحرص، وشخصية منطلقة مرحة تعبر عن مشاعرها بتلقائية وبدون تخفظ، وهو نفسه يقول ذلك فى إحدى رسائله إليها.. لدىَّ شخصيتان: واحدة للعالم كله وأخرى لك.. لى.. لنا، ويسأله الشيخ بخيت وهو من مشاهير رجال الأزهر ومن كبار الأدباء: لماذا تزوجت بأجنبية، فيرد: قابلت فتاة وأحببتها فتزوجتها، ولو لم أتزوجها لبقيت عزبا أو لتزوجت نفاقا من إمراة مصرية بينما أنا أحب إمرأة أخرى، وكنت سأجعل منها أمرأة تعيسة..
ويبدأ طه حسين إحدى رسائله إليها بكلمة: يا ملاكى! ويقول فى رسالة أخرى: لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتى على مثل هذا الحب.. ويكتب وهى فى فرنسا لعدة أسابيع - أحبك، وانتظرك، ولا أحيا إلا على هذا الانتظار.. وبعدها يكتب لها: لم يكن ممكنا أن أدخل غرفتك دون أن أضع يدى على صدرى بشكل عزيزى كما لو كان قلبى سيفر منى، فأنا لا أراك، ولا أرى صورتك، ولا أستطيع أن أكتب إليك بنفسى، ومع ذلك فإنى لا أحب أن أفكر فى مثل هذه الأشياء. ويكتب أيضًا: إننى وحدى فى مصر أرغم على تحمل كل أنواع البؤس وكل الأحداث دون أن أجدك إلى جانبى..
***
فى غيابها كان يكتب لها كل ما يحدث فى يومه.. ذهب إلى الإسكندرية لقضاء أيام بعد أن أرهقته الوحدة فى القاهرة، وكان معه صديقان الحا عليه أن ينزل البحر معهما، ولكنه ظل يرفض وأخيرًا تحت إلحاحهما - استسلم، ولكنه لم يحتمل أن يجد نفسه بلباس البحر شبه عار، وشجعه الصديقان على النزول إلى الماء، وحين نزل قال له صديقه: تقدم وتمسك جيدا بالحبل، وقال له الآخر: إغلق فمك ولا تتنفس وأغطس رأسك فى الماء، وعندما فعل ذلك وجد الماء يدخل فمه وأذنه وشعره، وضحك من حوله، وقال له الصديق: أغلق فمه وأذنه وشعره، وضحك من حوله، وقال له الصديق: أغلق فمك جيدا وكرر ذلك، ويكرر ولكن الحبل ينقطع ويتعثر ويكاد يغرق فيحمله لأحدهما، وخرج ليكتب لسوزان ما جرى ويقول: أتظين أننى سأعيد الكرة، كان الأمر ممتعا لكنه - بالنسبة لى - فى منتهى التعقيد، إننى أعرف الآن ما معنى الغرق.
وفى مرة أخرى يكتب لها: نسيت أن أقول لك أننى صرفت جنيهين ونصف من أجل حفلة ذكرى الشيخ محمد عبده، فقد دفع كل واحد من البشوات والبكوات والمشايخ خمسة جنيهات، ودفعنا كل من منصور فهمى وأنا جنيهين ونصف كنت أعتمد عليهما للأيام الباقية من الشهر، لكنك ترين أننى لست شريرا إلى هذا الحد ولو كنت خالى الوفاض!
***
يقول له لطفى السيد إن من المقبول أن ينفصل الزوجان مؤقتا من وقت إلى آخر فيؤدى ذلك إلى تغيير فى حياتهما، فيثور طه حسين ويصيح فيه: هل تجد من المقبول أن تنزل الصاعقة على رأسى؟ فيتساءل لطفى السيد: هل تجد أن انفصال الزوجين يشبه الصاعقة؟ فيرد طه حسين: بل إن الإنفصال أشد هولًا!
فى غيابها يبدو ضائعا، ممزق النفس، حتى أن لطفى السيد كان يقول: إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيدا عن زوجته لأن قلبه لا يكون معه وكان طه حسين يضيف: نعم، وكذلك عقلى!
وهى يعبر عن غياب قلبه وعقله أيضًا فى غيابها فيكتب لها: اعذرى أفكارى فأنا لا أفكر وإنما أحب!
من يصدق أن هذا الرجل كان قلبه يحب كل هذا الحب.. وأكثر!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف