أيــام? سـوزان طــه حسـين ( 2 - 2 )

كان طه حسين يتألق فى المحافل الدولية ويعيش تحت الأضواء بينما كانت سوزان زوجته العظيمة وراء هذا المجد الأدبى الذى وصل إليه.. كانت تشعر بالفخر وبالسعادة وحرصت على أن تبقى خلفه وتعيش فى ظله بعيدا عن الأضواء.. ولم تتحدث عن أيامها معه الا بعد رحيله بسنوات تحت إلحاح المستشرق الفرنسى المعروف جاك بيرك وكان صديقا لـ طه حسين وعندما تجاوزت الثمانين ولم يتبق لها إلا ذكرياتها معه.
وقد وهبت نفسها وعقلها له ومنحته كل ما يمكن أن تمنحه الزوجة والصديقة والأم، حتى قال عنها فى كتابه «الأيام» إنها «المرأة التى أبصرت بعينها». ومن الغريب أن الذين كتبوا عن حياة ودور طه حسين فى قيادة حركة التنوير فى المجتمع لم يعطوا لهذه السيدة العظيمة حقها، مع أنه هو الذى قال عنها إن حياته قبلها كانت موحشة ومعها عرف الحياة كأنه لم يعرفها من قبل وأنها أخرجته من عزلته، وإنها كانت تحدثه عن الناس فيشعر أنه يراهم، وتحدثه عن الطب، وعن الشمس والليل وعن النجوم والجبال المكسوة بالجليد وعن الشجر والأنهار فينسى أنه أعمى وهى التى أعادت إليه ثقته فى نفسه وجعلت شقاءه سعادة، وبؤسه نعيما، وظلمته نورا.
ويتحدث طه حسين عن أيام استعدادها للزواج، وكيف كانت معه تقرأ له فى الصباح دروس اللغة اللاتينية والترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون وبعد الغداء تقرأ له كتب التاريخ اليونانى والرومانى وفى الساعة الخامسة تقرأ له فى كتب الأدب الفرنسى ولا ينصرفان عن القراءة إلا عندما يخرجان للسير ساعة أو أقل من ساعة.. وهكذا كانا يعيشان قصة حبهما وبقيا كذلك.. فهل يمكن أن يذكر طه حسين دون أن تذكر معه هذه السيدة العظيمة شريكته فيما وصل إليه؟
***
هذه السيدة العظيمة الفرنسية كانت ترى نفسها مصرية أيضًا، وارتبطت بالحياة الاجتماعية فى مصر فكانت تشارك فى مؤسسة لرعاية العجزة فى حى شبرا وهى تعبر عن شعورها بالحزن لأن فرنسا تنحاز لإسرائيل منذ قرار تقسيم فلسطين ، وعندما شاركت فرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 غضب طه حسين وتعبيرا عن هذا الغضب أعاد الوسام الرفيع الذى كانت فرنسا قد منحته له، وكتبت هى تقول إنها كانت شديدة الغضب وتألمت لاشتراك فرنسا فى العدوان على مصر، وعبرت عن ذلك علنا، وتقول فى مذكراتها «مع أنى فرنسية لم يغير المصريون شيئا من مواقفهم نحوى، ولم أسمع كلمة جارحة أو عدائية، وكنت أتألم بقسوة من الإساءة التى وجهت إلى مصر وكنت قد حصلت على الجنسية المصرية منذ زواجى وأشعر بأنى مصرية، وقبل ذلك عندما قامت ثورة 1952 كان طه حسين معها فى إيطاليا فى قرية «كول إيزاركو» وتلقى برقية من السفارة المصرية فى روما تخبره بقيام الثورة وخلع الملك، وكتبت عن سعادتها بهذا الخبر فقالت: «كنت أهنىء نفسى، وكنت فخورة، فقد عاشت مصر فى تلك اللحظة أجمل ساعات تاريخها».
***
وتتذكر أيامها معه فتقول: «كان كثير المرح فى أوقات وكان متسلطا دون شك لكنه لم يكن جارحًا، وفى الأزمات كان يبدو مرعبا ولا سبيل للتفاهم معه.. كان يبدو فى هذه الأوقات وحيدا فى العالم، ولم يكن ينتبه إلى أننى كنت بحاجة إليه لكنه كان ينكمش داخل نفسه»، لكنه فى السنوات الأولى عندما يذهب معها للتنزه فى فرنسا تحت وابل المطر كان يغنى، ويحتمى كلاهما تحت مظلة واحدة مشدودين أحدهما إلى الآخر ويستنشقان بسعادة الهواء المغسول وأريج الأرض المبتلة».. وحتى عندما كانت تقع فريسة للانفعال كان يكتفى بأن يقول لها بهدوء: إنك تبحرين(!) تقول: كان بذلك يعطينى إشارة بأنى ذهبت فى انفعالى بعيدا فيعود إلىَّ هدوئى.. وكانت تشعر بالفخر لأنها زوجة طه حسين وتقول: «لم يحدث أبدا أن التقيت بإنسان ويقال له إنى مدام طه حسين حتى تبدو منه حركة خفيفة ونظرة سعيدة فخورة تعبر عن إعجاب لا حد له بالإنسان الذى أحمل اسمه».. وتقول عنه: لم يبحث طه حسين عن الشعبية أبدا ولكن الناس كانوا يقدرون فيه الاستقامة والشجاعة المعنوية والتصرفات الحرة الكريمة.. وكان يقدر تعلق المصريين وغيرهم به حق قدره، أما الخصوم فلم يكن يهتم بأمرهم ولم يرد على ما كان يوجه إليه من شتائم شخصيته».. وكان طه حسين يصاب بالإغماء فى الأزمات العنيفة وحدث ذلك عندما بلغه نبأ وفاة الشيخ مصطفى عبد الرازق وهو من أقرب أصدقائه وكان يقدر فكره وشخصيته وجهاده من أجل إصلاح الأزهر وترشيد الفكر الدينى.
و كان رأيه أن الفترة التى قضاها الشيخ مصطفى عبد الرازق فى منصب شيخ الأزهر كانت كارثة بالنسبة له لأنه كان أكثر تنورا من أن تحتمله العقلية القديمة التى كانت لا تزال سائدة فى هذه المنارة القديمة، ولذلك بقى الشيخ فى منصبه غير مفهوم ويتلقى الأحاديث الجارحة والظالمة فكانت هذه السفاهات تؤلمه بصورة خطيرة، وكان طه حسين يرى تشابها بين ما يلاقيه وما يلاقيه الشيخ من أصحاب العقول المظلمة.
***
تذكر أن الجنرال شارل ديجول زار القاهرة فى أبريل 1941 وألقى حديثا فى الجامعة الأمريكية والتقى مع طه حسين، وتتحدث بفخر عن كتاب الكاتب الأمريكى دونالد روبينسون عن أهم مائة شخصيته فى العالم واختار طه حسين من بين هؤلاء المائة بل اختاره ضمن عشرة هم الأهم فى العالم الذين طبعوا عصرهم، وقال عنهم إن كلا منهم يصنع عالم الغد ومنهم برتراند راسل، وتشرشل، وأينشتين. وهكذا كانت تشعر أن كل ما يحققه طه حسين من مجد أدبى هو انتصار وتكريم لها أيضًا. وتحتفظ فى خزانتها بما كتبه البروفيسور جوزيه كانورى إلى طه حسين فى عام 1936: «فى دوامة التيارات الثقافية المتناقضة فإنك اتخذت موقفا وناديت بشجاعة نادرة بالحق فى حرية التفكير، وبذلك غدوت رجل الساعة، ووجهت القوى الروحية فى هذا البلد فى اتجاه لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيؤول إليه».
لقد كانت تشعر أن كل تكريم لطه حسين هو تكريم لها وكان هذا شعورها عندما كان يحصل على أعلى الأوسمة من العديد من دول العالم وعلى شهادات الدكتوراه الفخرية من أكبر الجامعات، وعندما قلده جمال عبد الناصر قلادة النيل فى عام 1965 وأصبح بعدها يحمل لقب «صاحب المقام الرفيع».. وشعرت بالألم عندما سرق اللصوص هذه القلادة وغيرها من فيلا «رامتان» ولم تهدأ إلا بعد أن أعادتها الشرطة(!).
وتذكر بفخر عندما كان طه حسين فى زيارة إلى اليونان لقى فيها من التكريم ما يفوق الوصف ومنح فيها الدكتوراه الفخرية وعدة أوسمة ونياشين، ودعاه الملك والملكة إلى الغداء وفى هذه الزيارة القى أحد الوزراء كلمة قال فيها: أود أن يتعلم كل الأطفال فى المدارس اليونانية صحفات عن حياتك، إنه أجمل درس.
لقد ضحت هذه السيدة العظيمة تضحية عظيمة لكى تصنع مع العبقرى الأعمى قصة نجاح خلدها التاريخ.. لقد وهبت نفسها وحياتها وفكرها له.. وتستحق أن يخلد اسمها معه.. لأن طه حسين لم يحقق المعجزة وحده..
وبعد رحيله بقيت منطوية.. حزينة.. وحيدة.. وتحت الضغوط ذهبت إلى قرية «ميراثو» الإيطالية التى كان يحبها، وقالت: «عندما كنت فى سيارة الأجرة التى كانت تسير بى على الطريق الذى كنا نجتازه معا فى العام الماضى، لم أكن وحيدة أبدا، فقد كنت تكلمنى».
وعاشت معه حتى لفظت أنفاسها الأخيرة وهى تكلمه ويكلمها!!

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف