فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 40 )
 السير مايلز لامبسون السفير البريطانى الذى كان الحاكم الحقيقى والعليم بكل خفايا وأسرار فاروق وحاشيته وزعماء الأحزاب، يسجل فى مذكراته وقائع تدل على أن فاروق كان مصابا بمرض حب التملك ونهب ما يملكه الآخرون وأنه كان قد فقد الشعور الأخلاقى الذى يجعل الإنسان المتوازن يميز بين الخير والشر.
ومن ذلك ما ذكرته الدكتورة لطيفة محمد سالم فى كتابها الأخير عن فاروق (فاروق من الميلاد إلى الرحيل)، ففى يوم من أيام شهر فبراير سنة 1939 ارتدى فاروق ملابس عادية وثبت مسدسا فى حزامه من الخلف، ودخل قصر محمد طاهر وهو أحد أثرياء مصر فى ذلك الوقت كان مشهوراً باقتنائه للتحف النادرة التى يجمعها من دول العالم ويشتريها بمبالغ كبيرة، واختار فاروق بعض التحف، وكتب قائمة بعدد آخر من التحف، وأخطر وكيل صاحب القصر بأنه يريد هذه التحف، واستدعى الوكيل صاحب الدار الذى ذهب إلى فاروق ورجاه أن يخطره عند حضوره لمنزله.
أما فاروق فقد أمر بإرسال سيارة كبيرة نقلت من البيت التحف وحملت أيضاً زهريات فاخرة من الفضة والرخام وسريراً نزع من عليه فرشه، وفى أثناء مغادرة فاروق للبيت لمح تمثالاً برونزياً فأمر بحمله إلى السيارة، ولم يكتف بذلك، ولكنه أعاد الذهاب إلى بيت محمد طاهر-فى غيابه أيضاً- وصعد إلى غرفة نومه واستولى على بعض ما فيها، ولم يجد صاحب البيت إلا أن يتوجه بالشكوى إلى الأميرة نعمت مختار وبكى أمامها على ما فقده، ومع ذلك فقد أرغم بعد ذلك على التنازل عن قصره مقابل أربعين ألف جنيه عندما أعجبت به الملكة فريدة –وهو يساوى الملايين بأسعار ذلك الوقت- وسمى هذا القصر (قصر الطاهرة) ولا يزال معروفا بهذا الاسم حتى الآن وانتقلت ملكيته إلى الدولة.
وفى مذكرات السير مايلز لامبسون وقائع كثيرة لعمليات الاغتصاب والاستيلاء على ما يملكه الغير، فقد ذهب فاروق يوماً لزيارة الفريق عزيز المصرى، وشاهد عنده سيفا قيما فطلبه منه، فاعتذر عزيز المصرى لأن هذا السيف قدم إليه فى إحدى المواقع الحربية ويعتز به، وأنه سيقدمه لابنه من بعده، فقال له فاروق: أنا ابنك، وأخذ السيف وانصرف!.. وفى مساء 27 سبتمبر 1939 أمر فاروق بفض شمع نادى التجديف الألمانى بالإسكندرية ونزع الأختام، واستولى على ما فى النادى من ممتلكات على الرغم من أن النادى من ممتلكات الألمان فى مصر كانت موضوعة تحت الحراسة، وسجل هذه الواقعة حكمدار الإسكندرية، وأرسل تقريرا عما حدث إلى السفير البريطانى، فاتصل السفير برئيس الوزراء ولفت نظره إلى أن هذه الأفعال غير قانونية، وفى وثائق وزارة الخارجية البريطانية ملاحظات عن شخصية فاروق منها أنه يعانى من مرض حب الاستيلاء على ما يريده، وأن هذه التصرفات تغضب الشعب المصرى، ويتدخل أحمد حسنين، ويسعى على ماهر إلى حل هذه المشكلة، وينتهى الأمر بإعادة مسروقات النادى، ولكن حدث بعد ذلك ما هو أغرب مما جرى، فقد عاد فاروق واستولى على ما فى مخازن شركة باير الألمانية، وتم بيع الأدوية التى استولى عليها فى صيدلية قصر عابدين!.
***
وذات يوم ذهب فاروق إلى قصر آل لطيف الله بالزمالك، وهم أسرة سورية تعمل بالتجارة، ولم يكن أحد من أصحاب القصر بداخله، فطاف بإنحاء القصر وخرج دون أن يأخذ شيئاً، ولكن صاحب القصر-حبيب لطف الله- فهم الرسالة فأرسل إلى فاروق مجموعته النادرة من السيوف القديمة والمسدسات ليختار منها ما يريد فاستولى فاروق عليها كلها مما أدى إلى غضب الرجل وحاول استرداد مقتنياته –أو بعضها- فلم يحصل إلا على سيف واحد لوالده، ويذكر السير مايلز لامبسون فى تقريره إلى وزارة الخارجية البريطانية هذه الواقعة حينما مات شاه إيران فى منفاه فى جنوب أفريقيا، وافق فاروق على أن يدفن فى مصر وأقام له جنازة كبيرة، وعندما عاد ابنه –الشاه رضا بهلوى- إلى عرش إيران قرر نقل جثمان والده إلى طهران، وطلب استعادة مخلفات أبيه التى كانت لدى فاروق على سبيل الأمانة ومنها النياشين، وسيف من الذهب محلى بالجواهر، وقايش وحزام، وأرسل فاروق ياوره الخاص –عمر فتحى- ليقول إن مخلفات الشاه سرقت من القصر.. وقصة استيلاء فاروق على الخنجر النادر المصنوع من الذهب ومقبضه محلى بالجواهر بالكريمة الخاص بولى عهد اليمن سيف الإسلام عبد الله، فقد دعاه فاروق إلى الغداء، وطلب منه أن يخلع حزامه وخنجره قبل أن يدخل غرفة الطعام، ولما خرج الرجل لم يجد الخنجر.
وعندما حضر إلى مصر الملك بطرس ملك يوجسلافيا هربا من النازيين استضافه فاروق، وكان مع الرجل جهازا إرسال لا يقل ثمنهما عن مائة ألف دولار (أكثر من مليون دولار فى هذا الزمان) وسافر ملك يوجسلافيا إلى لندن وترك الجهازين وديعة عند فاروق، ورفض فاروق إعادتهما بعد ذلك، وفى الإسكندرية أعجب فاروق بقصر فى منطقة سابا باشا يمتلكه مليونير يونانى تغيب عنه لسفره إلى باريس، وعندما أراد العودة ذهب إلى القنصلية المصرية فى باريس للحصول على تأشيرة دخول إلى مصر رفضت القنصلية منحه التأشيرة بناء على تعليمات من القصر بحجة أن هذا المليونير يقوم بدعاية للشيوعية، وفشلت الوساطات التى قامت بها المفوضية اليونانية فى مصر، وأخيراً استسلم الرجل ووافق على التنازل عن القصر للخاصة الملكية فمنحت له التأشيرة وعاد إلى مصر.
***
وعلم فاروق أن المليونير أنطوان عريضة اشترى اليخت الخاص للزعيم الألمانى هتلر ألمح إليه بأن يقدمه له كهدية فلم يفعل، فأبدى رغبته فى شرائه وذهب لمشاهدته واستلقى على السرير الذى كان ينام عليه هتلر، ثم أخذ النظارة التى كان يستخدمها هتلر وخرج!.. وتكرر ذلك كثيرا، فعندما مرض الأمين الثالث للقصر الملكى تعطف الملك فاروق وذهب لزيارته فى عوامته فأعجبته مجموعة من التحف فى العوامة فحملها معه، ولكن الأمين بعد شفائه طالب بإعادة هذه التحف النادرة وألح فى الطلب فما كان من فاروق إلا أن أمر بإنهاء خدمة الرجل وإعادة التحف.. وفى عام 1949 كان مقررا أن يفتتح فاروق المعرض الزراعى الصناعى، وقبل الافتتاح أرسل فاروق من يأتيه ببيان عن المعروضات ذات القيمة، وكانت نقابة الصحفيين قد حجزت جناحا فى المعرض وصنعت فيه نموذجا لأول آلة طباعة استخدمته الصحافة فى مصر، ونموذجا آخر لمبنى النقابة الجديد وكان قطعة فنية قيمة،واتفق فكرى أباظة مع حافظ محمود على إخفائهما خوفا من أن يعجب فاروق بهما ويستولى عليهما، وحين وصل فاروق فاروق إلى جناح نقابة الصحفيين سأل عن القطعتين فلم يجدهما ففهم ما حدث وغضب فلم يفتتح مبنى النقابة بعد ذلك كما كان مقررا وأناب عنه كريم ثابت، وكانت النقابة قد أعدت المقص الذى يقص به الملك الشريط من الذهب الخالص، وطلب كريم ثابت إرسال هذا المقص إلى القصر الملكى!.
وعند زيارة فاروق للمعرض وقف طويلا أمام عملات النقد النادرة التى عرضها بنك مصر وأبدى إعجابه بها، ولما انتهى المعرض طلب إحضار هذه العملات ليشاهدها مرة ثانية، فأرسلها بنك مصر ولكنها عادت ناقصة الثلث، وكان لدى وزارة المالية أحراز خاصة بها تحتوى على جواهر وعملات وحلى ثمينة فطلب إرسالها إليها لمشاهدتها ولم يردها ولم يسدد ثمنها.
وفى زيارة فاروق للمتحف المصرى توقف أمام أربع عشرة قطعة من مجموعة توت عنخ آمون، فاختفت من المتحف، لكن عالم الآثار العظيم سليم حسن ثار ثورة شديدة فخاف رجال القصر من تحول هذه الثورة إلى فضيحة فعادت الآثار إلى مكانها، وطلب فاروق التنازل له عن آنيتين من الآثار القديمة ورفض طه حسين وهو وزير المعارف وتتبعه هذه الآثار،ومع ذلك اختفتا وشوهدتا فى قصر عابدين!.
هذه القصص –بل الفضائح- التى سجلتها أستاذة التاريخ الدكتورة لطيفة محمد سالم تكشف عن أن جلالة ملك مصر المعظم كان يتمتع بشخصيته اللص والبلطجى تحت الملابس الموشاة بالذهب والتاج المرصع بالماس والزمرد والقصور التى لا حصر لها والمزارع التى كانت بعشرات الآلاف من الأفدنة، والثروة الطائلة من الذهب والأموال فى بنوك الخارج.. ولكنه كان ملكا لا يتمتع بشخصية سوية ومع ذلك فقد حكم مصر 15 سنة واستطاع المنافقون فى الحاشية ورجال السياسة أن يصوروه على أنه الملك المؤمن والملك الصالح..وما أكثر جرائم النفاق والمنافقين فى التاريخ.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف