فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 38 )
هل هو الجهل أو سوء القصد أن يدعى البعض أن فترة حكم فاروق كانت فترة ازدهار للديمقراطية والأحزاب والبرلمان والممارسة السياسية عموما؟.. ونتيجة لنظام التعليم الحالى الذى يفرض الجهل بالتاريخ على الأجيال الجديدة، فإن الشباب يصدقون ذلك وليست لديهم أدوات التحليل التمييز بين الحق والباطل.. فالشاب – مع الأسف – لا يدرس فترة الحكم الملكى دراسة وافية أو غير وافية، فلا يعرف أن هذه الفترة كانت فترة عدم الاستقرار السياسى وأنه خلال 28 سنة تعاقبت على الحكم 38 وزارة، وفى الشهور الستة التى سبقت قيام ثورة يوليو 1952 توالى على الحكم 4 وزارات بمعدل شهر ونصف الشهر متوسط عمر كل وزارة، ووزارة نجيب الهلالى الثانية كان عمرها فى الحكم يوما واحدا.. فكيف تزدهر الديمقراطية والحياة السياسية فى مثل هذه الفوضى السياسية؟
وعدم الاستقرار كان يلاحق السلطة التشريعية أيضا، فلم يكمل برلمان مدته الدستورية إلا برلمان 1945 فقط. وفى دراسة أكاديمية للدكتور على الدين هلال عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق عن (السياسة والحكم فى مصر فى العهد البرلمانى) تفصيلات عن حركات الرفض الشعبية التى انتشرت فى هذه الفترة وكانت تعلن عدم اعترافها بشرعية النظام السياسى والاجتماعى القائم، وكانت تلجأ إلى العنف والاغتيال لعدم السماح لها بالتعبير عن نفسها، والليبرالية بمعناها الحقيقى لم تجد الفرصة كاملة للتطبيق فى الفترة من صدور دستور 1923 حتى نهاية الحكم الملكى. كان الحكم فى قبضة القصر والبورجوازية الكبيرة وأحزاب الأقلية التى سهلت لفاروق تزييف الحياة النيابية وانتهاك الدستور.. ومع هذه السلبيات ظهرت فى هذه الفترة قوة الوحدة الوطنية ومفهوم الوطنية نتيجة لثورة 1919، وكان لمشهد القساوسة على منابر المساجد والشيوخ يلقون الخطب أمام مذابح الكنائس آثار لا يمكن إنكارها، كما كان لكلمات القمص العظيم سرجيوس دور فى إحباط سياسة الاستعمار البريطانى لإحداث الفتنة بين المسلمين والأقباط، حين قال: (إذا كان الاستقلال متوقفا على الاتحاد، وكان الأقباط حائلا دون ذلك، فإنى مستعد لأن أضع يدى فى يد إخوانى المسلمين للقضاء على الأقباط أجمعين لتبقى مصر أمة متحدة مجتمعة الكلمة)، وهكذا وضعت ثورة 1919 أساسا راسخا لمفهوم الوحدة الوطنية والمساواة بين المصريين بصرف النظر عن اختلافاتهم الدينية. وكان حزب الوفد هو الممثل لشعار (الدين لله والوطن للجميع). وفى نفس الوقت فإن الدستور سمح ببعض الحريات مثل حرية القول وحرية الاجتماع ولكن نظام الحكم كان يسلب الشعب هذه الحقوق فى معظم الأحيان، ويتسبب فى أزمات سياسية تعوق التقدم والاستقرار.
وكانت تصرفات فاروق تدل على الاستهتار بالمبادئ الدستورية، وعلى فرض سيطرته على السلطة التنفيذية، ونتيجة لإصراره على الانفراد بالسلطة اصطدم بحزب الأغلبية – حزب الوفد – ومن بين 7 وزارات ألفها النحاس زعيم الأغلبية أقال الملك 4 وزارات منها، ولم يكتف بالسيطرة على السلطة التنفيذية بل تدخل فى شئون السلطة التشريعية. وعمل على إنشاء أحزاب هزيلة موالية له.. وتدخل فى تزوير الانتخابات لضمان نجاح هذه الأحزاب التى لم تكن تحظى بأية شعبية ولكنها كانت مطيعة تنفذ كل ما يطلبه سواء كان ما يطلبه متفقا مع الدستور والقانون ومصالح الشعب أو لم يكن كذلك، وقام فاروق بحل مجلس النواب أكثر من مرة وحل المجلس الواحد لنفس السبب أكثر من مرة مع أن ذلك غير جائز دستوريا.
وكانت أصابع فاروق وراء الانشقاقات التى حدثت فى حزب الوفد لكى ينشغل بخلافاته الداخلية ويفقد جزءا من شعبيته. واستمر فى استهانته بالدستور، وبالشعب، وبالأحزاب، وبالقانون، مما أدى إلى انفصاله عن الشعب وتحول من ملك محبوب إلى ملك مكروه، وأصبح انفصاله عن الشعب أمرا لا يمكن علاجه نتيجة لسياسة التحدى للشعب وتزييف إرادته، وهكذا اشتعل الهياج الشعبى وازداد الاتجاه إلى العنف والاغتيال السياسى.
***
وفى تحليل الدكتور على الدين هلال لأحزاب الأقلية التى كانت تؤيد فاروق وكان يؤيدها أنها كانت أحزاب أشخاص ولم تكن أحزاب برامج ولم يكن لها سند شعبى يوفر لها الشرعية وكان السند الوحيد لها هو الملك فاروق، ولهذا كانت على استعداد للضرب بالدستور عرض الحائط فى سبيل الوصول إلى الحكم وتحقيق المصالح الشخصية لقياداتها.. وهكذا، كانت الحكومات والدستور والوزراء والبرلمان لعبة فى يد الملك يلعب بها على هواه، ومن المفارقات التى يذكرها الدكتور هلال أن الانتخابات المزورة كانت تأتى بحزب يقال إنه حزب الأغلبية فى البرلمان – كما حدث فى وزارة إسماعيل صدقى مثلا – وعندما استقالت الحكومة – التى قيل إنها حكومة حزب الأغلبية فى البرلمان جاءت بعدها وزارة برئاسة عبد الفتاح يحيى باشا فأعطى البرلمان ثقته وتأييده لرئيس الوزراء الجديد بمنتهى السهولة، وأكثر من ذلك قام الحزب بتعيين عبد الفتاح يحيى رئيسا له بدلا من صدقى باشا. وتكررت مثل هذه المواقف التى تدل على أن إدارة الحياة السياسية لم تكن إدارة سليمة وفق قواعد الديمقراطية.
***
وفى عصر فاروق – انقسم المجتمع المصرى إلى أقلية من أصحاب الثروة ومُلاك الأراضى الزراعية الكبيرة (الأبعديات) وهم وحدهم الذين يملكون القوة الاقتصادية والسياسية، بينما الملايين اللذين يمثلون أغلبية الشعب المصرى من الفلاحين المعدمين يعيشون فى حالة سيئة من الفقر، وسوء الأحوال المعيشية، والحرمان من الحقوق الاجتماعية والسياسية.
وأما الطبقة الصناعية والتجارية فكانت مكونة من الأجانب والأقليات مثل الأرمن واليهود والايطاليين واليونانيين، وقلة من المصريين المرتبطين بسلطات الاحتلال أو بالقصر أو بالرأسمالية الأجنبية، ولم تكن للفئات المهنية القدرة على القيام بدور مستقل (وهؤلاء هم المحامون والمدرسون والصحفيون.. .. الخ). وكذلك الطبقة العاملة فإنها لم تحصل على حقوقها ولم يكن معترفا لها بحقوق ولم تستطع إنشاء تنظيم لها إلا فى عام 1942 .
طبقة كبار الملاك الزراعيين والملك والأسرة الملكية وبطانة الملك هم الذين حصدوا ثمار النضال الوطنى من أجل الاستقلال، هذه الطبقة هى التى قادت الحياة السياسية إلى الانهيار، فقد كان فاروق هو أكبر مالك للأرض، وكان 61 مالكا يملك كل منهم أكثر من 2000 فدان، و28 مالكا يملك بين 1000 و1500 فدان، و92 مالكا يملك كل منهم بين 800 إلى 1000 فدان وملايين الفلاحين معدمون وأجراء وعمال تراحيل، وفى سنة 1951 وصلت الأزمة الاقتصادية إلى درجة لم تعد تحتملها الطبقة المتوسطة – فضلا عن طبقة الفقراء – وانخفضت صادرات القطن (المحصول الرئيسى للبلاد)، وانخفضت الاستثمارات وتحولت من الصناعة إلى شراء الأراضى والعقارات والتوسع فى الاستهلاك، ووصل العجز فى الميزانية إلى أعلى رقم (39 مليون جنيه) ولم تتحقق زيادة فى الدخل القومى تتناسب مع زيادة السكان، وساد الارتجال فى السياسة الاقتصادية نتيجة تغير الحكومات وإتلاف سياسات الأحزاب.
وسقطت مؤسسات الدولة فى يد طبقة البشوات التى تميزت بالأنانية وقصر النظر والتى لم يكن لها هَمٌ غير جمع الثروات بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وكانت هذه الطبقة هى التى استطاعت شراء تأييد الملك لها وحولت البرلمان – والمفروض أنه الممثل لسلطة الشعب ورقابته على الحكومة – إلى أداة طيعة لحماية مصالحها.
كانت الهوة بين الشعب والملك والطبقة الحاكمة قد ازدادت فلم يعد فاروق يسمع أو يدرك ما تعنيه أصوات وتحركات المطالبين بالعدالة الاجتماعية، لأن السلطة المطلقة تصيب بالعمى والصمم.
وكان الشعب ينتظر الفرج.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف