فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 37 )
عندما أرادت الدكتور لطيفة محمد سالم أن تلخص حياة فاروق فى عبارة واحدة منذ ميلاده فى عام 1920 حتى وفاته فى عام 1965 قالت إن حياته عبارة عن (بزوغ واعد.. وأفول حزين) وهذه أصدق عبارة تلخص ما يمكن أن يقال عن فاروق. وهذه العبارة خلاصة دراسات عن فاروق وعصره تخصصت فيها الدكتورة لطيفة أستاذة التاريخ الحديث وظهرت نتائجها فى عدة كتب تتميز بالدقة والأمانة والموضوعية.. وكما قالت الدكتورة لطيفة فإن كثيرا من حكام مصر تعرضوا للنفى خارج البلاد ولكن كان ذلك دائما بقرار من خارج مصر، إما من السلطان العثمانى وإما من دولة الاحتلال، ولكن حالة فاروق كانت الحالة الوحيدة التى يتم فيها النفى على أيدى المصريين المحكومين.
اختار فاروق أن يكون منفاه فى إيطاليا وفى مدينة نابولى التى لا تختلف كثيرا عن الإسكندرية التى أبحر منها على ظهر اليخت المحروسة فى السادسة مساء يوم 26 يوليو 1952. وقد استمرت الرحلة البحرية إلى نابولى ثلاثة أيام، وكان معه ابنه الطفل أحمد فؤاد الذى تنازل له عن العرش رسميا.
وكانت معه أيضا زوجته الثانية ناريمان. ومنحته حكومة إيطاليا حق اللجوء السياسى مقابل عدم إحراجها بالانخراط فى أى نشاط سياسى. وبمجرد وصوله عقد مؤتمرا صحفيا تحدث فيه بثلاث لغات يجيدها: الايطالية والفرنسية والانجليزية قال فيه إنه سيبدأ أول إجازة حقيقية فى حياته وإنه أصبح مسئولا عن ابنه (الملك) أحمد فؤاد الثانى، وعندما سئل عن أمواله قال إن لديه ما يجعله يعيش حياة كريمة، وادعى أن لديه حرية العودة إلى مصر. قضى فاروق فترة فى كابرى، واستقر فى فيلا كبيرة بها أربعون غرفة فى إحدى ضواحى العاصمة الايطالية روما، وكان له حرسه الخاص المسلح وكلاب حراسة. وفى روما استمر على عاداته اليومية.. يستيقظ متأخرا ويلتهم طعامه ويقرأ الصحف ويجرى مكالمات تليفونية ثم يخرج فى الليل إلى الكباريهات وأندية القمار، ولم يتخل عن القمار ليلة واحدة. وكعادته أيضا ظل يحيط نفسه بالنساء الجميلات، وبدأ يكوّن علاقات مع نساء دون المستوى ويتعرض للاستغلال منهن، وظل على عادته يتباهى بأن النساء لعبته. وبسبب القمار.. والسهرات النسائية ساءت علاقته بناريمان، واستخدم معها أقصى أنواع القسوة، وكان يصارحها بأنها قدم شؤم عليه، ويكيل الشتائم لأمها (أصيله هانم)، وبعد فترة طلبت ناريمان الطلاق. وانتهت صفة ناريمان كملكة بقيام الثورة ثم انتهت صفتها كأم الملك أحمد فؤاد الثانى بإعلان الجمهورية فى 18 يونيه 1953 .. وعادت ناريمان إلى مصر ورفعت دعوى طلاق أمام محكمة مصر الجديدة الشرعية وتم إعلانه فى روما، وحصلت على حكم بالطلاق البائن دون نفقة أو حضانة ابنها.
بعد ذلك قرر فاروق نقل ابنه وبناته إلى سويسرا وتفرغ هو لحياته الخاصة فى إيطاليا، وحصل لأولاده على جنسية إمارة موناكو!! وكان يسافر بين الحين والحين إلى سويسرا لزيارتهم.
***
تذكر الدكتورة لطيفة فى دراستها أن فاروق انجرف فى نزواته النسائية وكانت أقرب النساء إليه فتاة اسمها (إيرما كابتشى مينوتولو) كانت مغنية فى الأوبرا، وهى ابنة سائق تاكسى تعيش فى إحدى حوارى روما.. وبعد فترة ترك الفيلا الكبيرة التى كان يسكنها وانتقل إلى شقة من دورين فى روما. وتعددت رحلاته إلى دول أوربا وخاصة باريس وأحيانا يصحب مع إيرما.. وفى هذه الفترة أراد أن يشترى كازينو للقمار فى موناكو ولكن المليونير أوناسيس سبقه واشتراه.
فى 27 سبتمبر 1953 قرر مجلس قيادة الثورة مصادرة ممتلكات فاروق فى مصر بعد أن كانت تحت الحراسة منذ رحيله، وحاول إقامة دعوى أمام محكمة العدل الدولية لإلغاء هذا القرار ولكنه فشل.
وظل فاروق يحلم بالعودة إلى عرش مصر ويتصور أن الثورة سوف تفشل عندما تشتد الصراعات على السلطة بين الضباط الذين قاموا بالثورة.
وقد صرح بذلك فى سلسلة الأحاديث التى كان يدلى بها إلى صحيفة إمباير نيوز ونشرتها فى الفترة من أكتوبر 1952 إلى أبريل 1953 ، ونتيجة لتحركاته التى تشير إلى سعيه فعلا للعودة أدلى الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية فى ذلك الوقت بتصريح لوكالات الأنباء نشرته الصحف العالمية قال فيه إن التقاليد الدبلوماسية لا تسمح بأن يقوم لاجئ سياسى بنشاط سياسى وإن مصر راعت ذلك عندما لجأت إليها الأسرة المالكة الايطالية، وإن الخديوى إسماعيل عندما عاش فى منفاه فى إيطاليا لم يقم بأى نشاط سياسى (وتعلق الدكتور لطيفة بحكم التخصص بأن ذلك غير صحيح لأن الخديوى إسماعيل قام بمحاولات للعودة إلى العرش خلال الثورة العرابية). وكان فاروق يصدر نشرة صحفية يومية من خمسين نسخة بها أخبار تسىء إلى الأوضاع فى مصر بعضها أخبار منقولة عن الإذاعة الإسرائيلية.
***
فى عام 1953 كانت مفاوضات الجلاء بين حكومة الثورة والحكومة البريطانية قد وصلت إلى موقف صعب نتيجة تشدد حكومة الثورة فى طلب جلاء قوات الاحتلال البريطانية وترفض المناورات البريطانية للالتفاف حول هذا المطلب وكانت الحكومة البريطانية تراهن على حدوث صراعات بين قادة الثورة تستفيد منه لكن ذلك لم يحدث ففكرت فى مساندة الأمير محمد عبد المنعم الوصى على العرش ليصبح ملكا لمصر، وجاء الرد لإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية.. ونتيجة لسياسة عبد الناصر الخاصة بالقومية العربية وجدت بريطانيا أن هذا المد القومى يهدد مصالحها نفوذها فى المنطقة كلما تصاعد نفوذ عبد الناصر، وفكرت الحكومة البريطانية فى الإطاحة بعبد الناصر وإعادة فاروق إلى العرش.. وهكذا ظل فاروق يتصور إمكان استعادة التاج الملكى فكان يجرى اتصالات مع شخصيات مصرية من الذين هربوا من مصر وعاشوا فى دول أوربا وكان لهم نشاط معاد للثورة، وظل فاروق يرفع على نافذة بيته العلم الأخضر الذى كان علم مصر فى عهده، ووضعه على سيارته. وعندما حدث العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 وهاجمت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا مصر واحتلت قواتها سيناء وبعض مدن القنال عقد فاروق مؤتمرا صحفيا قال فيه إن نهاية محنة مصر اقتربت وما يعيش فيه الشعب المصرى من الرعب والبؤس سينتهى بعد أن أصبحت مصر دولة بوليسية والشعب أسير فى داخلها والآلاف فى المعتقلات يحكمها دكتاتور طاغية (عبد الناصر) كالحرباء فى القدرة على تغيير لونها، فهو يعادى الشيوعية ويصادق الروس، وفى هذا المؤتمر قال: إن الشعب المصرى يعانى فى ظل حكم عبد الناصر من مجاعة بعد أن كان الطعام والعمل متوافرين لجميع المصريين!!
وبعد ذلك أرسل ثلاث رسائل إلى الرئيس الأمريكى ورئيس وزراء كل من بريطانيا وفرنسا يدعى فيها أن حالة من البؤس يعيش فيها المصريون تحت حكم العسكر ويطالبهم بحل سلمى لما يعانيه الشعب المصرى بدلا من الحل العسكرى الذى يتحمل فيه الشعب المسئولية بدلا من أن يتحملها الذين يحكمونه.. ولم يتلق ردا على هذه الرسائل لأنه كان قد انتهى إلى غير رجعة من الحسابات الدولية وليست له شعبية فى مصر على الإطلاق.
وعندما فشل العدوان الثلاثى عام 1956، ثم قامت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وازدادت شعبية عبد الناصر فى المنطقة، أدى ذلك إلى مخاوف من بعض الحكام فى العالم العربى، وتجدد الأمل عند فاروق فى العودة إلى عرش مصر، ولكن الجهود التى بذلها فاروق وبذلها الحاقدون على عبد الناصر وأعداء الثورة لم تحقق شيئا، وانتهى الأمر بشعور فاروق (باليأس) فلم يعد يفكر أو يحاول العودة ملكا لمصر.. واستسلم لمشاعر الإحباط والاكتئاب وكانت من مظاهر الاكتئاب الإسراف فى الطعام بشكل لا يمكن تصوره.
***
وبينما كان فاروق منغمسا فى حياة اللهو أحبت الابنة الصغرى فادية شابا مسيحيا روسيا وأرادت أن تتزوجه وتزوجته فعلا كما فعلت أختها فتحية من قبل.
وجاءت نهايته تراجيديا؛ الملك الذى كانت بدايته واعدة وأفوله حزينا.
فى ليلة 17 مارس 1965 قضاها مع عشيقته إيرما، ثم اصطحب صديقتها مصففة الشعر أنّا ماريا إلى أشهر مطعم فرنسى فى روما. اسمه (إيل دى فرانس) والتهم كالعادة كمية كبيرة من الطعام منها اللحوم والأسماك وفواكه البحر والمكرونة والجاتوه، وبعدها أشعل السيجارة وفجأة شعر بضيق فى التنفس، ووقع على أريكة، ونقل فورا إلى المستشفى، وفى غرفة العناية المركزة حاولوا تدليك قلبه وإمداده بالأكسجين ولكنه فارق الحياة.. كان عمره فى ذلك الوقت 45 عاما وكان وزنه قد زاد بدرجة هائلة، وكان يعانى من القلب وتصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم.
غادر فاروق الحياة ليس كما دخلها. وهناك من قال إن المخابرات المصرية جندت عشيقته إيرما فوضعت له السم فى عشائه الأخير.. ومثل هذه القضية يصعب إثباتها.. وكانت حياته فى المنفى درسا لكل حاكم فاسد.