سر طه حسين (1-3)

لا أعــــــــرف لمـــــاذا كــــان تركيـــــز الذين كتبوا عن دور طه حسين ومكانته وتأثيره فى الثقافة وفى العقل العربى وأغفلوا جانبا مهما من جوانب شخصيته وسرا من أسرار نجاحه فى الوصول إلى المكانة التى وصل إليها، وأقصد بذلك قصة حبه الكبير للفتاة الفرنسية طالبة السوربون المثقفة الخجولة التى صارت زوجته ورفيقة كفاحه التى تحملت معه أيام النجاح وأيام الفشل، ولحظات السعادة ولحظات الشقاء، ولم تفارقه حتى آخر لحظة من عمره وكان آخر ما فعله وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أن أمسك يدها وقبّلها حبا وعرفانا بالجميل. هذه السيدة - سوزان طه حسين - لم تكن تفكر يوما فى أن تترك فرنسا لتعيش فى مصر مع الشاب الضرير الطموح الذى جاء ليدرس فى السوربون للحصول على الدكتوراه، ولكن القدر كان ينسج خيوطه ليربط بينهما، فكان لقاؤه الثانى بها فى يوم 12 مايو عام 1915 وكان قد تحدث معها قبل ذلك فى الجامعة عندما التقى بها فى الجامعة عن حاجته إلى من يقرأ له ويساعده على إعداد المادة العلمية للدكتوراه، وتطوعت بأن تقوم بهذه المهمة، وزارته مع والدتها فى غرفته المتواضعة التى يعيش فيها، وبدأت فى مساعدته وتقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسى، وتساعده على تعلم اللغة اللاتينية المقررة عليه، ولكن بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى وانقطاع صلته بالجامعة وبالتالى انقطاع الراتب الذى كانت ترسله له الجامعة كل شهر اضطر للعودة إلى مصر.
عاد طه حسين إلى باريس فى العام التالى وعادت سوزان لمساعدته والقراءة له، ولاحظت أنه جاء مع شقيقه ولكن هذا الشقيق كان يهمله ويتركه يعانى وحده فعرضت عليه أن يسكن فى بيت أسرتها فى غرفة خالية، وهى تعيش مع أمها وشقيقتها، لكنه تردد طويلا ثم انتقل للعيش فى البيت بعد أن عجز عن تدبير شئون حياته وهو وحيد وشقيقه مشغول بنفسه بمفاتن باريس. كان شديد الخجل فى حياته اليومية ولم يقبل أن يتناول الطعام معهم، ورتب نظامه للدراسة بحيث تأتى سيدة لتقرأ له، وسيدة أخرى لتصحبه إلى السوربون وتعود معه، وبدأت سوزان شيئا فشيئا تصحبه إلى الجامعة - وتوفر له أجر إحدى السيدتين لكى يتبقى له ما يساعده على العيش، ثم بدأت تقرأ له وتتحدث معه طويلا لتساعده على إجادة الحديث باللغة الفرنسية وكان يحقق فى ذلك تقدما عظيما.
***
مع الأيام والألفة جاء يوم قال لها: اغفرى لى، لابد أن أقول لك ذلك، فأنا أحبك! وصرخت. أذهلتها المفاجأة، وقالت له بفظاظة: ولكنى لا أحبك! فقال لها: إننى أعرف ذلك جيدا، وأعرف جيدا أنه مستحيل! وبعد ذلك ذهبت سوزان إلى أهلها لتقول لهم: أريد الزواج من هذا الشاب وهى تعرف ماذا سيقولون.. كيف؟ من أجنبى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟ لاشك أنك جننت! لكن عمها ساعدها، وكان عمها قسيسا، جلس مع طه حسين ساعتين ثم عاد ليقول لها: بوسعك أن تنفذى ما عزمت عليه، لا تخافى فى صحبة هذا الرجل. وهكذا أعلنا خطوبتهما بعد انتهاء إجراءات حصوله على موافقة الجامعة فى مصر وفقا للقانون، وبعد أن أخبر أهله.
***
بعد الخطوبة ظلت تعمل معه.. تقرأ له الكتب اللازمة للرسالة.. وتذهب معه إلى المكتبات.. وكان عليه أن يدخل امتحان الدبلوم فى الأدب الكلاسيكى وهو لم يدرس من اللغة اللاتينية إلا القليل ولم يدرس من النصوص الفرنسية والتاريخ والجغرافيا ما يؤهله للامتحان، وبحماس شديد ظلت تقرأ له ذلك كله وتعد بنفسها خرائط بارزة ليتعرف على مواقع البلاد ولم تكن هذه الخرائط الخاصة بالمكفوفين معروفة فى ذلك الوقت، وطلبت من الجامعة أن ترافقه فى الامتحان لتكتب له ما يمليه عليها، ووافقت الجامعة، ونجح فى الامتحان، وكان عليهما الإعداد لرسالة الدكتوراه، ورغم أنه كفيف البصر وقليل الاستعداد فى الثقافة الفرنسية إلا أنه استطاع فى أقل من أربع سنوات أن يحصل على إجازة فى اللغات الكلاسيكية ودبلومة فى الدراسات العليا وأن يقطع شوطا كبيرا فى إعداد رسالة الدكتوراه عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون.
***
وتزوجا فى يوم 19 أغسطس عام 1917 ببساطة مطلقة وباريس تعيش فى أجواء الحرب، وفى يناير عام 1918 حصل على الدكتوراه وأشادت هيئة التحكيم بالرسالة وبمقدرته العلمية، وفى نفس العام رزق بابنته أمينة (التى صارت زوجة لوزير خارجية مصر محمد حسن الزيات) وفى أكتوبر عام 1919 عاد إلى مصر مع زوجته وابنته أمينة.
تقول سوزان فى كتابها الرائع «معك»: لقد أصبحت مصر بالنسبة لى - ولأكثر من سبب - وطنا ثانيا، أحبها كما أحب طه حسين.
وعاش طه حسين مع زوجته قصة حب تستحق أن تخلد مثل قصص الحب التاريخية.. روميو وجولييت.. قيس وليلى.. إلخ.
وأفضل ما قيل عن طه حسين وسوزان ما كتبه الأديب السورى بدر الدين عرودكى وعن العلاقة الفريدة من نوعها التى ربطت بين: مسلم ومسيحية.. مصرى وفرنسية.. عربى الثقافة والانتماء الحضارى وأوروبية فى ثقافتها وانتمائها.. علاقة استمرت أكثر من خمسين عاما نسجها حب عميق، واحترام لا يقل عنه عمقا، وطال هذا الاحترام حرية العقيدة؛ فقد كانت مسيحية وبقيت كذلك فى رفقة زوج مسلم، وكان ذلك أمرا شديد الندرة بل فريدا فى وقته وفى مجتمعه.
***
وكتبت سوزان تقول: أفكر بهذا التوافق الذى وحدنا دوما فى احترام كل منا لدين الآخر، لقد دهش البعض من ذلك فى حين فهم البعض الآخر إذ رأى أن بوسعى أن أردد صلاتى بينما هو يستمع إلى القرآن فى الغرفة المجاورة، وإنى أسمع القرآن فى أعماق نفسى، وهو غالبا يحدثنى عن القرآن ويردد بالبسملة، وكان يردد دائما: إننا لا نكذب على الله.
أما طه حسين فإنه يكتب لها فى إحدى رسائله - وهى فى زيارة لفرنسا - ليقول: إننى أرى بعينيك! وفى رسالة أخرى يقول: بدونك أشعر أنى أعمى حقا، وفى رسائله عبارات تدل على أن قلب الرجل لم يكن فيه إلا حب هذه السيدة فيكتب: رحلتِ فلحق بك ذكائى وكل قلبى، وكل نفسى،. يستحيل على القيام بشىء آخر غير التفكير فيك، ولا أستطيع أن أمنع نفسى من البكاء كلما دخلت الغرفة فأنا أجدك فى كل مكان دون أن أعثر عليك.. عندما رجعت إلى البيت ذهبت مباشرة إلى صورتك وقصصت عليها ما جرى فى يومى وبالتفصيل!.. وأنت بعيدة تغمرنى ظلمة بغيضة، ما أقسى أن يكون المرء وحيدا بعيدا عن حياته، إنى ضائع، نعم إنى ضائع.
هذا هو طه حسين.. المحارب الذى يتحدى الملك، ويصمد فى أوقات صعبة يعجز عن مواجهتها الرجال.. وفى قلب حب لا يعرف مقداره إلا هى.. حب يجعله فى فراقها يبكى.. ويشعر أنه ضائع.. ويعيش فى ظلام بغيض.. ويشعر فى هذا الوقت فقط أنه أعمى.. وفى رسائله ما هو أكثر

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف