صورة من الجانب الإسرائيلى
تبدو الصورة من الجانب الإسرائيلي أكثر وضوحا عما نراها من الجانب العربي فالعرب رأوا قرار شارون بالانسحاب الأحادي من غزة انتصارا لدعوتهم للسلام وخطوة لقبول تنفيذ خريطة الطريق وإقامة الدولة الفلسطينية.. ولكن الإسرائيليين رأوا الأمر علي غير ذلك.
وعلي سبيل المثال فإن يوسي بيلين وزير العدل الإسرائيلي السابق وأحد مهندسي اتفاقية جنيف لا ينكر أن شارون لم يقصد بهذا الانسحاب البدء في تنفيذ خريطة الطريق أو غيرها, ولكنه كان يريد التخلص من الخسائر العسكرية والمالية التي تتحملها إسرائيل باحتلال غزة المكدسة بمليون فلسطيني, ليتحول إلي تكتيك آخر هو السيطرة علي غزة من خارجها بفرض الحصار عليها برا وبحرا وجوا, والاحتفاظ بحرية الحركة باقتحام القطاع لتنفيذ مخطط تصفية القيادات الفلسطينية, والضغط لتجريد الفصائل الفلسطينية من السلاح, وذلك بهجمات خاطفة دون أن تتكبد القوات الإسرائيلية خسائر. ولكنه لم يدرك أنه بذلك يقوي موقف المتطرفين من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني, ويضعف السلطة الفلسطينية التي تمثل الجانب المعتدل الذي يمكن التفاوض معه, وإذا ضعفت هذه السلطة فلن يجد أمامه إلا الفصائل المسلحة, مما يؤكد صحة الرأي الذي تتمسك به الفصائل الفلسطينية بأنه لا جدوي من المباحثات أو الحوار.
ويوسي بيلين يمثل تيارا سياسيا في إسرائيل يدعو إلي اعتبار الانسحاب من غزة خطوة في إطار اتفاقية عن الوضع الدائم, وهناك تصورات واضحة للحل الدائم في رؤية الرئيس بوش, واتفاق الرباعية الدولية, والاتفاقية التي سبق أن وقعها الإسرائيليون وفلسطينيون في جنيف واعتبروها نموذجا لاتفاقية الحل النهائي, وكل هذه الجهود تعني أن التوصل إلي اتفاق نهائي أمر ممكن, والشريك الفلسطيني موجود والإرادة الفلسطينية والعربية واضحة في هذا الاتجاه, وهذه فرصة لإنهاء الصراع, ولكن ذلك يحتاج إلي شجاعة من شارون وحكومته قد لا يملكها هو وحكومته.
وهكذا تبدو الصورة أيضا كما يراها البروفيسور مارك هيلي الباحث بمركز الدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب الذي يؤكد في دراسة حديثة له أن حرب شارون علي الفلسطينيين لن تقضي علي العنف من الجانب الفلسطيني ولكن ستزيده, وأن حرص شارون علي ممارسة القوة لن يؤدي الي استسلام الفلسطينيين كما يظن, وكل ما نجح فيه شارون بسياسته هو تغذية روح العداء في قطاع من الشعب الإسرائيلي.. وأن الفرقعة الإعلامية والعسكرية بالتصريحات وطائرات الأباتشي لن تحقق الأمن والسلام لإسرائيل.. ولكنها تحقق الأمن والبقاء في السلطة لشارون!.
وتصرفات شارون ليس لها نتيجة لدي الفلسطينيين والعرب سوي فقدان الثقة في نواياه وتعزيز موقف الرافضين لمد أيديهم للتطبيع مع إسرائيل, فقد أعلن قبوله لخريطة الطريق وموافقته علي إقامة دولة فلسطينية, كما أعلن مرارا أنه يرفض الاحتلال الدائم واستعداده لتقديم تنازلات مؤلمة علي حد تعبيره, وكرر كثيرا القول بأن إسرائيل لن تبقي إلي الأبد في كل الأراضي المحتلة, ولكنه لم يفعل شيئا يؤدي إلي ثقة الفلسطينيين والعرب في صدق ما يقول, وهو دائما يتقدم خطوة ثم يتراجع أو يتوقف في منتصف الطريق, ويخلق العقبات كل يوم للتنصل من تنفيذ تعهداته,
وربما تكون استراتيجيته الحقيقية غير المعلنة هي غزة فقط وليس غزة أولا كما أعلن وكل ما أراده بالانسحاب خفض التكاليف الاقتصادية والعسكرية علي إسرائيل, وإعطاء انطباع مخادع للعالم بأنه يتخذ خطوات لتنفيذ التزاماته, بينما يمضي في نفس الوقت في بناء المزيد من المساكن في المستعمرات الإسرائيلية في الضفة ويوسع المستعمرات القائمة, ويستكمل بناء السور العازل متحديا بذلك الشرعية الدولية الممثلة في محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة برفضهما لإقامة هذا السور واعتباره عدوانا علي حقوق الشعب الفلسطيني التي لا خلاف عليها.
والصورة في مجملها كما تبدو من الجانب الإسرائيلي تدل علي أن شارون لم يتجاوز حدود المناورات, ويحاول أن يبدي شجاعته في بعض الأحيان ويبدي المرونة في أحيان أخري وكلها ليست سوي تكتيكات ولكن شارون الاستراتيجي لم يظهر بعد!.