فاروق كان ملكا وليس ملاكاً ( 36 )
يبدو أن الملوك يصابون فى آخر أيامهم بنوع من المرض يجعلهم لا يشعرون بالخطر على الرغم من أن الخطر يحيط بهم من كل ناحية، ونهايتهم تقترب والعد التنازلى بدأ أمام أعينهم وهم يرونه فى الغالب لكنهم لا يريدون أن يصدقوا ما يرونه.. نوع من التبلد.. أو الاستهانة .. أو اليأس.. أو الاستسلام.. أو ربما يكون –على العكس- نوعا من تضخم الذات والإحساس بأن هذا الخطر لن يجرؤ على الاقتراب منهم وأنهم أقوى من كل المخاطر.. هذه الحالة الغريبة أصابت فاروق فى الأيام الأخيرة.. المظاهرات العدائية تطوف أنحاء البلاد ووصلت إلى أبواب القصر الملكى وسمع بأذنيه الهتافات الهادرة: «يسقط الملك فاروق».. وكان يتوقع أن ساحة عابدين سوف تزخر بالحشود من طوائف الشعب لتعلن عن فرحتها بمولد ولى العهد.. ولكن ذلك لم يحدث.. ولمس بنفسه الرفض الشعبى لتعيين حافظ عفيفى رئيسا للديوان الملكى لكنه تصور أن إرادته يمكن أن تكسر إرادة الشعب.. وتابع حريق القاهرة فى 26 يناير 1952 فى مظاهرات شاركت فيها كل طوائف الشعب.. وأقام حفل غداء لجميع قيادات الشرطة والجيش فى نفس اليوم والعاصمة تشتعل ناراً.
التناقض فى شخصيته فاروق ظهر بقوة فى الأيام الأخيرة.. يوم حريق 26 يناير، وبعد مأدبة الغداء، أمر بنقل ولى العهد الطفل من قصر عابدين إلى قصر القبة سرا خوفا على سلامته، وتسهيلا لتهريبه إذا استفحلت الحالة، وفى نفس اليوم أمر بإعداد حقائبه وحقائب زوجته – ناريمان - وبناته ليكون كل شىء معدا للهروب، ويحكى كريم ثابت نقلا عن المقربين من الحاشية الملكية أن فاروق وناريمان ظلا ساهرين طول الليل إلى أن طلع نهار 27 يناير.
الغريب أنه بعد ذلك، احتفل بعيد ميلاده الملكى بحفلتين فى يوم واحد وليس بحفلة واحدة، كانت الأولى فى النهار والثانية فى الليل.. وفى يوم 6 مايو 1952 احتفل بعيد جلوسه على العرش.. وفى هذه الليلة بعد حفل ساهر كبير أقامه فى استراحة الهرم قال لكريم ثابت: أنا مش مبسوط من الحالة السياسية فى البلد.. وكمثال على التخبط فى الأيام الأخيرة أنه فى يوم واحد كلف حسين سرى بتشكيل الوزارة ثم كلف بهى الدين بركات بتشكيل الوزارة، ثم عاد ليكلف حسين سرى بتشكيل الوزارة، وبعد أن كان الصحفيون يتجمعون فى دار حسين سرى كانت الأنباء تأتيهم بتغيير الموقف فيهرعون إلى دار بهى الدين بركات، ثم يعودون لاهثين إلى دار حسين سرى.. وبعد أن طلب من رئيس الوزراء أن يتولى وزارة الحربية قرر تعيين إسماعيل شيرين –زوج أخته المكروه من الجيش- وزيرا للحربية.
فى يوم 16 يوليو كان فاروق قد تلقى تقريرا عن حالة التوتر فى الجيش بعد أحداث انتخابات نادى الضباط وتعيين إسماعيل شيرين وزيرا للحربية وهو بلا خبرة ولا صلاحية لهذا المنصب، وبعد أن تقرر نقل اللواء محمد نجيب واعتزامه الاستقالة وما ترتب على ذلك من التهاب الموقف بين مجموعات الضباط الشبان.
يحكى مرتضى المراغى –وزير الداخلية المقرب من الملك فى تلك الفترة- أن فاروق قال له فى مقابلة سابقة: (أنا لا يهمنى الشعب.. إننى أعلم أنه يكرهنى، إنهم يعيبون تصرفاتى وينتقدوننى على كل صغيرة وكبيرة، وأنا لا أخاف الشعب لأن عندى درع تحمينى.. وأضاف هو يجز على أسنانه: الجيش). ويذكر مرتضى المراغى فى مذكراته أن فاروق قال له – ولكثيرين غيره بعد ذلك - (إن حياتى فى مصر لن تكون طويلة لأنها لن تكون سعيدة.. وبعيدا عن مصر أستطيع أن أعيش حياة طويلة سعيدة).
***
ويحكى مرتضى المراغى عن لقاء غريب مع الأميرة فايزة- شقيقة فاروق- التى سألته فى البداية: كيف الحال؟.. فأجابها: الحمد لله. فقالت له غاضبة: تحمد الله على المصائب التى تجرى فى البلد.. هل ستكون سعيداً إذا انتهى الأمر إلى الخراب الشامل للبلد ولنا جميعاً..) ثم قالت بصوت منخفض: (هذا الرجل يقودنا جميعاً إلى الخراب) وفى نهاية حديثها قالت له: (إنى صريحة حتى معه وقلت له ما قلته لك ولكنه مستمر فى عبثه. إن أخى غير طبيعى.. ووالدتى تعلم ذلك).. ويقول مرتضى المراغى إنه كان يعلم أن فاروق يضع شقيقته تحت مراقبة دقيقة من بوليسه الخاص بسبب علاقات شخصية بينها وبين أحد الشبان الأجانب المقيمين فى مصر.. ويقول إنه قال لها فى هذا اللقاء: (يا سمو الأميرة.. لماذا لا تجتمعون أنتم أفراد الأسرة المالكة وتشرحون له ذلك)، فقالت له: (هم أسوأ منه، وهم يخافون بطشه، فهو يستطيع أن يحرم أى واحد منهم من لقب الأمير..) وحين قال لها مرتضى المراغى: (ألا تخشين أن يحرمك أنت؟..) أجابته: لن يفعل لأنه يخشى أن أذهب إلى الخارج وأشنع عليه.
يقول مرتضى المراغى إن الانتقاد الذى سمعه من الأميرة فايزة هو الانتقاد الوحيد الذى سمعه من المقربين إلى فاروق. وقد حدث فى أثناء وزارة نجيب الهلالى الأخيرة – قبل قيام الثورة - وكان المراغى وزيرا للداخلية والحربية معا - أن جاءه كريم ثابت - وهو من أقرب المقربين إلى فاروق - وفوجئ به يتحدث طويلا عن سوء الأحوال التى تمر بها مصر ويسأله فى نهاية حديثه: كيف تسكت على كل هذا؟.. وسأله المراغى: وماذ تريدنى أن أفعل؟.. فأجابه كريم ثابت: أرسل تقريرا إلى الملك بكل الأوضاع (الزفت) دى. وسأله المراغى: وهل أنت مستعد لأن توقع معى هذا التقرير؟.. أجابه كريم ثابت: مستعد جداً. ويضيف المراغى أنه بالفعل قام بكتابة تقرير –بوصفه وزيرا للداخلية- عما يتحدث عنه المصريون عن الأوضاع العامة للدولة، وفعلا وقَّع كريم ثابت معه على هذا التقرير، وأرسل التقرير إلى الملك فاروق بعد أن أخبر رئيس الوزراء –نجيب الهلالى- بما فيه، وأن رئيس الوزراء قال له: يا مرتضى يا أبنى أبعد عن الحكاية دى دلوقت، ولكن المراغى أرسل التقرير إلى الملك، وبعد يومين اتصل به القصر وحدد له موعدا لمقابلة فاروق فى قصر القبة فى الساعة الرابعة بعد ظهر نفس اليوم، وذهب المراغى –وزير الداخلية والحربية- وجلس ينتظر فى الصالون المجاور لمكتب الملك فاروق، وسمع فاروق يقول لكريم ثابت فى غضب: اسمع يا ابن (......) إزاى تتجرأ وتبعت لى تقرير بالشكل ده؟.. يقول المراغى: كان واضحا أن الحديث لم يكن موجها إلى كريم ثابت وحده وإنما أيضاً إلى الذى اشترك معه فى التوقيع على التقرير، وبعد دقائق خرج كريم ثابت من لقائه مع فاروق ونظر إلى مرتضى المراغى وهو يغمز بعينه ويضحك، وعندما دخل المراغى إلى فاروق لم يطلب منه الجلوس كالعادة وقال له –وهو لا يزال منفعلا- إيه اللى عملته ده؟.. أنت فاهم إنى ما ألاقيش 30 واحد غيرك؟.. أنا دلوقت هاكلم رئيس الوزراء يشيلك ويجيب واحد تانى..
وذهب المراغى إلى رئيس الوزراء –نجيب الهلالى- ومعه خطاب الاستقالة فقال له نجيب الهلالى: أنا مصرّ على عدم قبول الاستقالة.. ولازم يفهم أنه لا يستطيع بطيشه أن نحنى له رءوسنا.
***
فضيحة بسبب سلوكه الطائش مع ملكة اليونان الذى لا يليق بشاب مراهق وليس بملك يحكم مصر.. ويدعى أنه محتاج لصرف مخصصاته مقدما عن سنة بينما يملك آلاف الأفدنة وصحف العالم تتحدث عن إسرافه السفيه وأرصدته فى البنوك الأجنبية وخسائره على موائد القمار..
ملك يتاجر – ويتلاعب - فى البورصة عن طريق الياس أندراوس باشا.. ملك لشعب فقير ينفق كل يوم ما يساوى مليون جنيه بأسعار أيامنا هذه فى رحلة شهر العسل التى امتدت شهرا ونصف الشهر، ولا يهمه أن تكون سهراته على موائد القمار فى الخارج فى شهر رمضان وأن تنشر فضائحه فى صحف الدول الأوربية وصوره مع النساء وعلى موائد القمار، ويصفه أكبر مالك للصحف البريطانية بأنه «ملك يتصرف دون حياء».. ملك البلاد يتلاعب فى أسعار القطن –المحصول الرئيسى الذى يعتمد عليه اقتصاد البلاد- ويعرف -ويعترف- بأن الشعب يكرهه.. ملك يقول إنه لا يهمه الشعب .. وشقيقته تجاهر باستنكارها لسلوكه وبشعورها بالخطر نتيجة تصرفاته.. ملك يغضب عندما يصارحه وزيره المسئول عن الحقيقة كما يتحدث عنها الناس.. ومظاهرات الغضب فى كل مكان.. والمدارس والجامعات معطلة لأن الطلبة فى مظاهرات يومية ضد الملك.. كل هذا وهو يلهو مع أنه يرقص على فوهة بركان.. ملك أفقدته السلطة المطلقة القدرة على الرؤية الصحيحة وحسن التقدير.
عندما يصبح هذا حال الملك.. فماذا ينتظر؟